«حان الوقت ليتولّى رجال الإدارة والقيادة ورجال الأعمال والمال والصناعة قيادة المنظمات الدولية بدلاً من وزراء الخارجية»، هذا ما يذكره الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في كتابه «قصتي». فهل أصبحنا في عصر لا نحتاج فيه إلى رجال الدبلوماسية المهنية ومنظّري السياسات الخارجية؟ وهل بات علينا أن نستبدل مثلاً أفكار مهندس التوازن الأوروبي مترنيخ Metternich حول توازن القوى، ليتم تطبيقها في تحليل التنافس الأميركي - الصيني، ونستعين بدلاً عنها بأفكار شركة «جنرال موتورز» لفهم أدوات هذا التنافس عبر السياسة الخارجية للشركات العابرة للوطنية؟ وهل سوف نستبدل مفهوم الدبلوماسية لهارولد نيكلسون بإدارة العلاقات الدولية، عن طريق المفاوضات والأسلوب الذي يستخدمه السفراء، بالأسلوب الذي تستخدمه شركة «إيكسون موبايل» في إدارة نظام صفقاتها الدولية، حتى أصبح رئيسها التنفيذي السابق ريكس تيلرسون كبير الدبلوماسيين الأميركيين، وزيراً للخارجية؟
وهل باتت مفاهيم التفاوض الدبلوماسي غير صامدة أمام جليد الشعبوية، حتى شملت رؤية بسمارك المستشار الأول للإمبراطورية الألمانية بالتفاوض عبر التنازلات المتبادلة بين الدول، أمام التفاوض العقاري والتجاري، وحتى أفكار نيقولا ميكافيلي لم نعد بحاجة إليها، فما تقدّمه الشركات الكبرى في مجال مكافحة الوباء وتقديم العلاجات وصناعة الأدوية من توظيف سياسي للوباء المميت يفوق الأفكار التقليدية للجانب البرغماتي الحاد عند هذا الدبلوماسي والمفكّر الإيطالي بأضعاف.
وكذلك الحال مع دبلوماسيين معاصرين، فلا حاجة إلى جورج كينان، ولا جايمس بايكر ولا سيرغي لافروف ولا هنري كيسنجر، فقد يكفي أن يكون لدينا المفاوض العقاري جاريد كوشنر، أو يكفي أن تساهم شركات العقارات والسيارات وشركات تكنولوجيا الاتصالات مقام الدبلوماسيين ووزارات الخارجية.
هذا الحديث، بشكل عام، يتناسب مع ما يشهده المسرح الدبلوماسي في النظام العالمي اليوم، من صعود لمفاهيم الصفقات والتجارة وقيادة المفاوضات من قبل رجال الأعمال والشركات، وكأنّ الدول عبارة عن شركات كبرى، ورؤساء الدول فيها هم رؤساء مجلس إدارات شركات، يتحكّمون فيها بمقادير اقتصادية رأسمالية خاضعة لمنطق الطلب والعرض، واقتصادات السوق. فيبقى السؤال، هل أنّ هذا النمط يمثّل تطوّراً لأجيال العمل الدبلوماسي، كما أسميته الجيل الثاني في كتابي «الجيل الثاني للدبلوماسية»، تمييزاً عن الجيل الأول في تطوّر آليات العمل الدبلوماسية وتأثيرها في عصر تدافع الهويات؟ أم أنّه مسار مستقبلي للجيل الثالث أو الموجة الجديدة في العمل الدبلوماسي؟ أم أنّه يمثّل حالة خروج من سياقات التقليد الدبلوماسي، وهي حالة طارئة تتناغم مع موجة الشعبوية المترامية في عالم الفوضى اليوم؟
هل الدبلوماسية الشعبوية جزء من الدبلوماسية الاقتصادية؟ التيار الجديد للدبلوماسية الرأسمالية الشعبوية بطبيعة الحال، لا يمتّ للدبلوماسية الاقتصادية بصلة، لكون الأخيرة معنيّة بالاهتمام بالشؤون الاقتصادية والاستثمار عن طريق حارس البوابة (وزارة الخارجية)، بعكس قادة الدبلوماسية الشعبوية وطرقها. ولأنّ الدبلوماسية الاقتصادية، وفق قاموس العلوم السياسية، معنيّة بمسائل السياسة الاقتصادية، بما في ذلك عمل الوفود إلى المؤتمرات التي ترعاها هيئات مثل منظمة التجارة العالمية وغيرها، كما أنّها تشمل الدبلوماسية التي توظّف الموارد الاقتصادية إمّا كمكافآت أو عقوبات.
فعمل الرأسمالية العالمية على تغيير نظم إدارة التجارة وتنظيمها، ينعكس على طبيعة الشركات والتعامل مع مستويات مختلفة من المخاطر المالية المتربطة بالعلاقات الدولية السياسية. وبات المدراء التنفيذيون في الشركات غير الوطنية يمثلون مصالح دولهم ويشاركون في مؤتمرات دولية ويفتحون مكاتب تنفيذية، مثلاً شركة «مايكروسوف» لديها أقسام مثل الأمن القومي أو مجموعة الدبلوماسية الرقمية، ولديها مكاتب في 56 دولة، وتُظهر الإحصائيات أنّ رئيسها زار اثنتين وعشرين دولة والتقى ممثلي أربعين دولة خلال سنة واحدة، وقد يكون هذا سياق طبيعي في ظلّ الأبعاد الجديدة للعولمة ونمطية توزيع السلطة والأدوار في الوحدة الدولية. لكن لا يمكن أن تتحوّل هذه الدبلوماسية الخاصة بديلة عن الدبلوماسية المهنية بكل أنماطها.
لأنّ حسابات الربح والخسارة في الاقتصاد غير حسابات الربح والخسارة في السياسة، وحركة المال في العلاقات الدولية لا تتشابه مع ذاتها في داخل الدول، وعليه فإنّ التعويل على رجال الشركات والمصالح الاقتصادية كعنصر محرّك وحيد في السياسات الخارجية للدول، سوف يحوّل العالم إلى مزيد من الفوضى والاشتباك وفقدان صيَغ السيطرة، وضرورة أن لا يفسر هذا الكلام بأنه دعوة للتخلّي عن الضرورات الاقتصادية وتفسير الحراك الدولي وفق نمطية المصلحة بل التوفيق والتوازن المؤسسي بين القضايا الأخلاقية والاجتماعية والقضايا الربحية والاقتصادية، والعمل على تصحيح قواعد الاشتباك، والابتعاد في التركيز على البحث عن الأرباح المؤقتة أو الربحية إلى استراتيجيات موجهة نحو المسؤولية الاجتماعية، وعدم نسيان تحوّل الأسواق كإحدى ساحات القتال الرئيسية في بداية القرن الحالي. وذلك لكون التأثير المتزايد للشركات الخاصة الكبرى على صنع القرار السياسي للقوى يمتدّ إلى عمليات صنع القواعد للاقتصاد العالمي، وكما ينقل بعض أصدقائي الدبلوماسيين عن آليات لعب الشركات الخاصة دوراً كبيراً في السابق كان مخفياً، لكن الآن أصبح ظاهراً للعيان بكل وضوح، ويكون الجزء الأكبر من نشاطهم غير شفّاف وواضح للرأي العام.

مفهوم الدبلوماسية الشعبوية
لا يمكن أن نغفل الأدوار الإيجابية لبعض روّاد الأعمال للقيام بمبادرات دبلوماسية مهمة، لكنّ تحويل الدبلوماسية من فنّ تقييد القوة إلى فنّ كسب المال أو المكاسب الآنية حصراً، يُضعف المسارات الدبلوماسية المهنية في تحقيق أهدافها الأساس ومهمّتها في تحقيق السلم ومصالح الشعوب بالطرق السلمية. ولأنّ مهمّة الدبلوماسي هي تنفيذ القرار، فإنّ مهمّة السياسي هي اختيار القرار، ومع نخبة القادة السياسيين الصاعدين الشعبويين لديهم برنامج واضح لضرب التقاليد السابقة للعمل الدبلوماسي ومحاولة خلق هوّة بين الدبلوماسيين والجمهور. فالدبلوماسية الشعبية هي التي تبحث عن صنع الصفقات من دون الاهتمام بالعادات والتقاليد الدبلوماسية والسياسية واستراتيجيات المؤسّسات، ويكون الطابع الشخصي واضحاً فيها.
وإن كان تركيز القادة الشعبويين على الأوضاع الداخلية، وتفسير معظم قضايا الدبلوماسية والسياسة الخارجية في إطار نظريات المؤامرة والتهم الجاهزة، بل هي أقرب لأن تكون سياسة غامضة وغير متناسقة، وخصوصاً عندما تكون ملتصقة بإيديولوجيات سياسية، وكذلك تعتمد الدبلوماسية الشعبوية على عنصر المفاجآت عبر إثارة قضايا غير مألوفة مثل تحالفات هجينة. المهم أنّ لهذه الدبلوماسية آثاراً على الرأي العام عبر استخدام ثورة وسائل الإعلام التقليدية والاجتماعية على حدّ سواء، ويدفع هؤلاء الأفراد لجذب مؤيّديهم بشكل مباشر وعاطفي.
وكما يقول أندرو كوبر Andrew F. Cooper، تحت وطأة قوى الشعبوية، ما نراه الآن هو انقلاب على الأدوات الدبلوماسية والمؤسّسات في النظام الدولي القائم، كما لا يفرّق الشعبويون بين من هم من الداخل والخارج، بل بين النخبة والشعب، وكذلك الحال ما لا يقل عن المؤسّسات التأسيسية الأخرى مثل المحاكم والبنوك والدبلوماسيين، والفئة الأخيرة يُنظر إليهم على أنهم «مشتبه فيهم» باعتبارهم من رجال العولمة البارزين المنفصلين عن المجتمع الداخلي كما يصور الخطاب الشعبوي.
الدبلوماسية الشعبية هي التي تبحث عن صنع الصفقات من دون الاهتمام بالعادات والتقاليد الدبلوماسية والسياسية


فلم تعد الشعبوية مجرد حالة تعبّر عن أزمة تمر بها الديمقراطية الليبرالية المعاصرة، بل يبدو باتت أقرب من سياق ومنهج عمل، فاليوم مثلاً شخصية جاريد كوشنر صاحب 37 عاماً وزوج ابنة ترامب يقول إنه يأخذ مهمة صنع السلام في الشرق الأوسط، رغم أن سيرته الذاتية في مجال الدبلوماسية والتفاوض لا شيء فيها يذكر سوى إدارة شركة عقارية كبيرة لعائلته؟. لكنّه مستشار الرئيس الأكثر نفوذاً في تعيين وإقالة كبار مساعدي البيت الأبيض، وكان مهندس إعادة التفاوض في اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية وكثير من القضايا التي تتعلّق بالضغط على الدول العربية من أجل التطبيع، حتى وُصف دوره مع ترامب مثل دور روبرت كينيدي مع أخيه الرئيس جون كينيدي.
وإن كانت الدبلوماسية الشعبوية هدفها صنع صفقة من دون أن تسترشد بتاريخ الصراع، معتمدة على مسألة الحوافز الاقتصادية من خلال خلفية كوشنر العقارية، وكأنه يحاول إغراء المستأجر بالخروج من المبنى لأنه يريد مثلاً تدمير المبنى القديم وبناء عمارة بمحلّها، فالرئيس ترامب سمح لزوج ابنته كوشنر باغتصاب السياسة الخارجية وسلطات الأمن القومي لوزير الخارجية ومستشار الأمن القومي.
ومع صعود ثقافة المشاهير في المسرح العالمي بدلاً من ثقافة الإنجاز، بات البحث عن العلاقة بين مكانة المشاهير والشعبوية بدلاً من الارتباط المؤسّسي، حتى أصبحت وزارات الخارجية في مرمى الهجوم المستمر، بما فيها الدبلوماسية المهنية. ولهذا يجب على الدبلوماسيين التكيّف الآن مع هذه الظروف الجديدة والعمل على إعادة كسب الثقة مع الجمهور بالأدوات الجديدة التي يمكن أن توصلنا إلى الغايات الحقيقية للعمل الدبلوماسي ورسالته.

* دبلوماسي عراقي وباحث أكاديمي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا