لا يستطيع المرء إلّا أن يتعجّب من مدى قصر نظر الحكم المغربي في إقدامه على خطوته المشينة الأخيرة في التطبيع مع الكيان الصهيوني، التي يصحّ فيها وفي نظيراتها بحق وصف اتفاقيات التتبيع بالكيان الصهيوني، بحسب تعبير أحدهم. فربط الحكم المغربي هذه الفعلة بالاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية يضيف إلى هذه الخطوة محاذير من الناحية الاستراتيجية، تضاف إلى المحاذير التقليدية لأي تعامل مع الكيان الغاصب كما سنجادل.في البدء، إنّ كلّ اعتراف بالكيان الصهيوني يعدّ خيانة بالمطلق لمبادئ العقيدة والثوابت القومية، بغضّ النظر عن أيّ مبرّرات واهمة أو أيّ مكاسب تكتيكية قصيرة الأمد يفرح بها المطبّعون أو بالأحرى المُستتبَعون، ولا سيما في هذه المرحلة التي يعلن فيها الكيان الغاصب ضمّ القدس وأراضي الضفة الغربية. فكل اعتراف بالكيان الصهيوني في هذه المرحلة ينطوي على تنازل عن القدس والمقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين، ولا تنفع معه تبريرات من قبيل كون الاعتراف بالكيان الصهيوني جاء في سياق ما يسمّى حلّ الدولتين المرفوض أصلاً، حيث من القصور توصيف الصراع العربي الصهيوني على أنه صراع على بقعة جغرافية، بل هو صراع مع كيان استيطاني واحتلالي وظيفي. ويشكّل هذا الكيان قاعدة متقدّمة زرعها الاستعمار القديم كامتداد له في قلب الأمة العربية والإسلامية يجب اجتثاثها، فلا وظيفة لهذا الكيان سوى إطالة زمن الهيمنة الإمبريالية على شعوب منطقتنا. وأما في حالة المغرب، فنجد أنّ هذا الاعتراف قد أضاف إلى كلّ هذه المحاذير العقدية والقومية والوطنية احتمالات دخوله في مرحلة اضطرابات عبر تجدد النزاع العسكري مع سكان الصحراء الغربية وجبهة البوليساريو.
نشأت قضية الصحراء الغربية مع انتهاء الاستعمار الإسباني لتلك المنطقة في عام 1975، الذي ترك منطقة الصحراء الغربية مقسّمة بين دولتي المغرب وموريتانيا. وبعد انسحاب موريتانيا من المناطق التي كانت تسيطر عليها في الصحراء الغربية، وبعد الإعلان عن الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية في عام 1976، استمر النزاع المسلّح حول منطقة الصحراء بين جبهة البوليساريو المطالبة بالاستقلال والمغرب على تلك المنطقة إلى عام 1991، حين قرّرت جبهة البوليساريو وقف العمليات العسكرية ضد الجيش المغربي، وصدر القرار الأممي الرقم 690 بشأن قضية الصحراء الغربية الذي نص في مضمونه على إجراء استفتاء لحسم هذه القضية، إما باستقلال الصحراء أو بانضمامها إلى المغرب. ولقد تباينت مواقف الأحزاب والقوى العربية بشأن قضية الصحراء، منذ نشأتها، بين مؤيّد لحق سكّان المنطقة الصحراوية في الاستقلال وتقرير مصيرهم، ولا سيما في ظِلّ حكم المغرب الملكي الذي يعدّ رجعياً ومتخاذلاً من الناحية الوطنية، وبين معارض للمزيد من التقسيم في الأقطار العربية بغض النظر عن طبيعة حكم هذه الأقطار. أما اليوم، وبعد مقايضة المغرب لتطبيعها مع الكيان الصهيوني بفرض سيادتها على الصحراء الغربية، فيُعتقَد أن يكون لهذا انعكاس على مواقف بعض القوى العربية من قضية الصحراء لجهة تأييدها لاستقلال منطقة الصحراء عن النظام المطبّع، وإعطاء جبهة البوليساريو المزيد من المشروعية الشعبية في قتالها من أجل الاستقلال، إضافة إلى أن الاعتراف الأميركي المسموم بسيادة المغرب على منطقة الصحراء الغربية، وتجاهله للقرار الأممي الرقم 690 والوصول لحل لهذه القضية الشائكة عبر الاستفتاء يفتح الباب أمام احتمالية انهيار وقف إطلاق النار الهش بين جبهة البوليساريو والمغرب. فهذا الاعتراف الخبيث وغير المسؤول يحشر جبهة البوليساريو في الزاوية من جهة تعويلها على قرارات الأمم المتحدة من أجل التوصل لحلّ عادل لقضية سكان منطقة الصحراء، ويضع منطقة المغرب العربي بعمومها أمام احتمالات تجدد دوامة العنف والصدام العسكري، سيما أن الاعتراف الأميركي لم يأخذ في الحسبان مواقف الدول المعنية بالأمر، من الجزائر وموريتانيا. وبهذا تكون أميركا كعادتها قد صبّت الزيت على النار في بؤر التوتر في وطننا العربي، ويجد المرء نفسه مضطراً إلى موافقة مستشار الأمن القومي الأميركي السابق جون بولتون في ما ذهب إليه في مقاله الأخير في مجلة «فورن بوليسي» الأميركية بهذا الشأن، حيث وصف قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذي ستنتهي ولايته قريباً، بالاعتراف بسيادة المغرب على منطقة الصحراء الغربية بالقرار الأهوج الذي يهدّد الاستقرار في منطقة المغرب العربي بعمومه. لا نودّ تحديد موقف من قضية استقلال الصحراء الغربية في هذا المقال، لكن إذا تبنّينا جدلاً الموقف المغربي من هذه القضية الذي يعد منطقة الصحراء الغربية جزءاً من الأرض المغربية، فيمكن وصف ما فعله الحكم المغربي بأنه قد اعترف بما لا يملك لمن لا يستحق، مقابل اعتراف من لا يملك له بما يستحق.
إنّ قرار المغرب إخراج علاقاته السرية مع الكيان الصهيوني إلى العلن وبشكل رسمي لن يعود عليه إلا بخسائر استراتيجية


بهذا، نجد أنّ قرار الحكم المغربي بإخراج علاقاته السرية المشبوهة مع الكيان الصهيوني إلى العلن وبشكل رسمي، وانضمامه إلى قافلة الانبطاح أمام العدو الصهيوني، لن يعود عليه إلا بخسائر استراتيجية، سواء أكان في الداخل المغربي حيث يضع الحكم في مواجهة شعبه المغربي الأصيل الذي يرفض كلّ أشكال التعامل مع عدو الأمة الأول كسائر شعوب وطننا العربي والإسلامي، أم من ناحية كونه يرفع من احتمالات تفاقم التوترات ذات الطبيعة المزمنة على الحدود الجنوبية للمملكة المغربية، وهذا بالطبيعة ستكون له انعكاسات سيئة على سائر دول المغرب العربي.
ولا ننسى ختاماً الإشارة إلى أنّ كلّ ما قدّمته الإدارة الأميركية الحالية في هذه المرحلة كمقابل لتطبيع الحكم المغربي مع كيان الاحتلال، لا يعدو كونه إعلان اعتراف بسيادة المغرب على أراضي منطقة الصحراء الغربية. وهذا الإعلان لا يُلزِم الإدارة الأميركية المقبلة ويمكنها التنصّل منه. فبأيّ أثمان بخسة ومسمومة يتقاطر جزء من النظام العربي المتهالك على بيع الثوابت الإسلامية والقومية والوطنية في أسواق نخاسة الأعداء؟ وبالتأكيد لا نستثني السلطة الفلسطينية من هذا، فهي باتت أسوأ من تلك الأنظمة العربية المتهالكة في الشكل والمضمون.

* كاتب وباحث سياسي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا