يبدو أننا ما تخطّينا ما بعد 8 تموز 1949. فعدم مواجهة القيادات لذلك الحدث المفصليّ والفاجع بما يستحقّ أدّى إلى ضعف بنيويّ مستحكِم أدّى ويؤدي إلى كلّ ما أتى بعد ذلك من تداعيات وصولاً إلى ما يحدث اليوم من انهيار تلو انهيار. يومَها استمرّ التنظيم الحزبي كما أُريد له أن يستمرّ. حالياً، يبدو أن الأمر يزداد خطورة ويأخذ منحى مختلفاً وغير مسبوق. وإذا كان صحيحاً ما نُسب إلى أنطون سعادة من قول: «أنا أموت أما حزبي فباقٍ»، فمن المؤكّد أن ليس هذا هو الحزب الذي كان يقصده. والدليل على ذلك أن «الحزب» سار من وقتها في مسار انحداريّ رغم بعض المحطّات المضيئة التي جسدتها وقفات عزّ للكثير من الأبطال والشهداء الذين يزخر بهم التاريخ الحزبي. فثمّة فرقٌ بين الوقفات البطولية التي استلهمت قدوة سعادة المشعة وبين أداء معظم القيادات التي لم تكن على المستوى المطلوب لحزب النهضة. أضف إلى ذلك، أن معظم القيادات أوجدت نوعاً من تكتلات كان ولاؤها، في كثير من الأحيان، مزدوَجاً: ولاء لهذه «القيادات» بصفتها الشخصية، إضافة إلى الولاء الحزبي العام الذي ربّما اختلط بالولاء الأول، أو في أحسن الأحوال ،كان الولاءان على السويّة نفسها.بعضهم يرى أن الأزمة دستورية. والبعض الآخر يرى أنها أزمة أخلاق. وآخرون يرون أنها أزمة مفاهيم، وذاتيات مريضة، وإدارة سيئة، وغير ذلك من التوصيفات لطبيعة الأزمة. والحق يُقال إن كلّ هذه التوصيفات للأزمة هي حقيقية وأكيدة. ولكن الصحيح أيضاً أنه ليس من واحدة منها تحيط، وحدها، بما عانى منه «الحزب» وما زال يعاني. ففي رأيي إن الأزمة مركّبة من جميع هذه العناصر. وهي كذلك لأنّها أزمة بنيويّة تطال «الحزب» في أساساته التي كان من المفترض أن يرتكز إليها. ولكي نفهم أكثر ما معنى هذا الكلام، نُعيد إلى الأذهان ما فعله سعادة بين 1947، تاريخ عودته إلى الوطن، و1949 تاريخ استشهاده. أولاً، طهّر الحزب من المنحرفين وانحرافهم المتمثّل في «الواقع اللبناني»، ثم أطلق الندوة الثقافية من خلال «المحاضرات العشر» التي أعاد فيها تأكيد المبادئ الأساسية والإصلاحية وشرح قضية الأمة السورية ووضع شروحاً «مستفيضة» أحاطت بجميع الأمور العقدية. إذاً، كان عمله من شقَّين أساسيَّين، وقف الانحراف وطرد المنحرفين، ما أعاد تأكيد هوية الحزب وخطّه الفكري النضالي. أمّا الشق الثاني فكان البناء الثقافي الذي يرتكز إلى وحدة القضية ووضوحها ووحدة المفاهيم. إذاً، هو صحّح المسار، ثم بدأ بعملية البناء.
هذا الذي أنجزه أنطون سعادة خلال سنتين كان من المفترض أن يشكّل لمن جاء بعده من قيادات مرجعيةً تنظيميّة إداريّة أخلاقيّة في كيفية تقييم أداء الإدارات الحزبية والتصدي لجميع الشوائب فيها من جهة، ومرجعيةً فكريّة ثقافيّة لاستكمال بناء الحزب على أسس سليمة، من جهة ثانية. ولكن الذي حدث بعد استشهاد سعادة أن جملة من الأحداث المفصليّة تتالت وأخذت الحزب في مسارات متناقضة حرفَته عن غايته وعن قضيته الأولى والأساسية التي هي النهوض بالأمة السورية. فمن قضية المالكي في الشام التي أدّت إلى ضرب الحزب والتنكيل بالقوميين وتقويض إنجازاتهم، إلى أحداث 58 في لبنان والدخول في حلف بغداد في محور واحد مع كميل شمعون وحزب الكتائب في مواجهة جمال عبد الناصر والمدّ الجارف الذي أحدثه في العالم العربي بعد ثورة 23 يوليو في مصر؛ إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في 61. في هذه المحطّات المفصليَّة الثلاث اختلفت الآراء والمواقف في تقييم ما حدث، ما أدى إلى وجود تقييمات مختلفة لدى القوميين. ومردّ ذلك عدم وجود مرجعية صالحة تعود لها وحدها عملية التقييم. ومردّ ذلك في الدرجة الأولى هو غياب شبه كامل لأيّ محاسبة ومراجعة نقدية والافتقار إلى المرجعية التنظيمية الأخلاقية التي يُجمع عليها القوميون. وهنا، لربما قصد سعادة من وراء إيجاد سلسلة الرتب، وعلى رأسها رتبة الأمانة، أن يتشكّل من مجموع الأمناء نوعٌ من جسم «حكماء» يكونون المرجعية المطلوبة. وهنا أيضاً، لم يكن جميع الأمناء على السوية المطلوبة، نظراً لاختلاف المعايير واختلالها في منح الرتبة، فضلاً عن أن منح الرتبة شابته، وباكراً جدّاً، تشوهات عديدة لعدم توافقها دائماً مع المعايير الدقيقة التي وضعها سعادة. وقد يكون من المفيد الملاحظة في هذا السياق ضرورة إعادة تقييم أداء الأمناء والنظر في إمكان تجميد الرتبة عند بعضهم على ضوء هذا الأداء.
ونطرح السؤال: هل كانت القيادات، في عهد الزعامة، وما بعده، على سوية فهم القضية القومية السورية كما وضعها وشرحها سعادة؟ وإذا كانت على هذه السوية، فلماذا توانت عن الإتيان بأيّ عمل ردّاً على أحداث 49 وما تلاها من استشهاد الزعيم وما تبعه من تضعضع في الصف القوميّ، ولماذا جرَّت (أو جرَّ بعضها) الحزب في تحالفات ذات اليمين وذات اليسار ما أدى إلى الأحداث التي أسلفنا، في الـ 55 والـ 58 والـ 61 ، يوماً مع حلف بغداد، ويوماً «نمركس» الحزب أو ندخل إليه الاشتراكية أو «نعربه»؟ فهل من ضياع أكثر من هذا؟ وإلى ماذا يؤشر؟

واضح من هذا العرض أن غرضي ليس الإدانة أو الاتّهام أو التهجم الشخصي. أنا اطرح أسئلة أو تساؤلات من المؤكّد أن كثيراً من الرفقاء يهجس بها. وأعود لأستفز العقل القومي الاجتماعي من أجل حثّه للبحث في هذا الذي جرى بعد استشهاد سعادة. فنحن حتى الآن، مع تردادنا لأقوال سعادة واستشهادنا بها عند كلّ مفترق وفي كل سانحة حتى بات معظمنا يحفظها عن ظهر قلب، لم ننجِز حتى تاريخه، وبعد مرور ما يقرب من التسعين عاماً من عمر الحزب، أي إنجاز كبير يعادل تحقيق جزء يسير من غاية الحزب المنصوص عليها في دستوره. صحيح أن الحزب انتصر على الطائفية ضمن صفوفه. ولكن الصحيح أيضاً أنه لم يتمكّن من القضاء على علّة الأنانية التي استفحلت حتى أودت، أو تكاد تودي، بالحزب إلى مهاوي انحطاط مخيف يناقض فكره ونهجه النهضوي. وظهر عجزه واضحاً عن إحداث أي تأثير ذي أهمية في أي كيان من كيانات الأمة. وعلى العكس من ذلك، دخل الحزب، أو أُدخل، في بؤرة النظام التحاصصيّ الفاسد في لبنان فصار جزءاً منه وتلوث بأمراضه. أمّا في الشام فهو لم يخرج من عباءة النظام فصار أيضاً جزءاً، إنما هامشياً، من البنية العامة هناك.
لقد كان فكر الحزب، بما طرح من رؤية متقدمة لعلمانية الدولة ورؤية نهضوية رائدة للأمة ودعوة لمقاومة قومية شاملة تقوم على مواجهة جميع أعداء الأمة من خارجيين متمثلين بالصهاينة وسواهم من المعتدين المحتلين لأجزاء من أرضنا القومية، أو داخليين، إما متمثّلين بـ «يهود الداخل»، أو بالأمراض التي تفتك بمجتمعنا، أقول، كان وما زال هو الردّ الأوحد على ما حلّ، وما زال يحلّ بنا من ويلات. وفي المقابل، لم يكن تنكّبنا لمقتضيات هذا الفكر على الصعيد العملي، على السوية المطلوبة. فأين تكمن العلة؟ وكيف السبيل إلى تدارك هذا العجز والقصور، وإحداث نقلة، أو نقلات نوعية في هذا المسار الانحداري؟ أسئلة أو تساؤلات مطروحة على المفكّرين القوميين الاجتماعيين تتجاوز في خطورتها ما يدور الآن من أحداث في هذه المرحلة من محاولة تلمّس طرق للخروج من الوضع المأزوم الذي يشهد تشرذماً تغذّيه نزعات أنانية مرضية قاتلة.


*مسؤول الإعلام السابق في حركة النهضة السورية القومية الاجتماعية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا