«إذا جاء كان بغيض الوجوه، وإن جيءَ كان حبيب الصور» أحمد شوقي

لو أنّك تعرف ما أكتبه عن لبنان، فأنت تعلم أنني لم أتكلّم على البلد أو أتوجّه إلى حزب الله، في السنوات الماضية، إلا لأكرّر الرسالة ذاتها: «الانهيار قادم، سوف يتمّ لومكم عليه، أنتم تستثمرون في النظام اللبناني كأنّه شيءٌ ثابت ومستمرّ والحال غير ذلك، عليك التحضّر لذاك اليوم، إلخ». بهذا المعنى، كنت في «موقعٍ خطابي» مثالي لكي أعتمد، بعدما وقع الانهيار وجاء الخطر، لغة: «يا فشلة، يا أغبياء، لقد حذّرتكم وأخبرتكم/ ولكنّي محاط بالحمقى، إلخ» (وكان في الوسع، بالطبع، أن تستغلها فرصةً للانتقال إلى المكان الآخر، أو تأخذ على الأقل مسافة حياد، وهو الخيار «العقلاني» في مثل هذه الحالات، أو أن «أظلّ بينكم وأنا قرفٌ منكم»، وهي أيضاً وضعية مريحة، ترضي الغرور وتجعلك تشعر بأنّك أفضل ممّن هم حولك).
وأنا لا سبب لديّ لكي أساير حزب الله، فيما الجميع يشهر سكاكينه عليه، والحصار يُطبق، والخسيس يُبدي ما كان خبيئاً. وبمعنى المصلحة فأنا، تحديداً، لا يمكن أن يأتيني يوماً من حزب الله شيءٌ جيّد (لست من نسيجه، ولن أصبح يوماً مساعد عماد مغنيّة ونديمه، بل قد لا يسمحون لي بالاقتراب منه لو كان لا يزال بيننا). وموقفي لم يأتِ أيضاً من منطلق «الوفاء» وضرورة الدفاع عن المقاومة والإخلاص للمبادئ وما إلى ذلك، بل كان نتيجة حسابٍ عقلانيّ بحت، على طريقة «نظرية اللعبة»، حيث إنّ أكثر ما يعتبره البعض «خيارات» كانت متاحة لحزب الله، في المرحلة الماضية، سوف تصبّ كلّها في سيناريو من اثنين، لا ثالث لهما، وهو ما سأناقشه هنا.
ولكن، قبل ذلك، هناك أيضاً قاعدة بديهيّة، وهي أنّ لحظة الانهيار النقدي والاجتماعي ليست الوقت المناسب للتنظير عن بناء العالم الجديد. للتحذير وقته وللتنظير وقته، قبل الأزمة أو بعدها ولكن، حين يكون الناس مهدّدين بالجوع، فإنّ الكثير من هذا الكلام لا يعدو أن يكون «استعراض فضيلة» (virtue signalling). فكرة أنّك ستجمع اللبنانيين، في خضم الانهيار والخوف وتضارب المصالح، حول مشروعٍ شمولي تغييري هو محض وهم. للحظة الأزمة منطقها، فلو تفتّت البلد، أو حلّت المجاعة، أو بدأ اللبنانيون بقتل بعضهم البعض، فلن تعود هناك من فائدة لمشروعك ونظريتك. وأنت لن تتمكّن خلال أشهر، في وسط الأزمة والإفلاس، من تغيير وجه الاقتصاد اللبناني أو حلّ مشاكله البنيوية أو تحقيق اكتفاء يخفّف من عبء الانهيار (صدّقني، نحن نحاول العمل على مشروعٍ زراعيٍ في لبنان منذ سنوات، ولم نصل إلى مكان؛ وشريكي بدأ يجرّب أموراً غرائبيّة مثل زراعة الزعفران وتصنيعه، وأنا أشجّعه وأشد على يده فقط لكي لا أبدو سلبياً).
في ظروفٍ مثل ظروفنا الحاليّة، فإنّ «خطة الطريق» الضرورية، ليست معقّدة أو غامضة. أنت تسعى أولاً إلى احتواء الأزمة وتثبيت الوضع المعيشي: تسهِّل دخول تحويلات المغتربين، ولو حصلت على وقودٍ مجّاني من حلفاء (إيران عرضت)، تكون - بالنظر إلى تقلّص الاستهلاك والاستيراد - قد حللت الجزء الأكبر من مشكلة ميزان المدفوعات آنياً، ولا تحتاج إلى استنزاف دولارات الشعب المتبقية (وليست كلّ التبادلات سياسية بالضرورة، فلنرَ علام يمكن أن نحصل من اليابان - مثلاً - مقابل كارلوس غصن؟). ثم، بعد ذلك، عليك أن تتعامل مع تركة الإفلاس وتحرّر البلد منها، وهذا في ذاته يستلزم معركةً ضروساً. ما حصل خلال السنة الماضية (أو لم يحصل) في هذا المجال كان جريمةً لا تقلّ عن جريمة الإفلاس نفسها ولكنّها - مثل أختها - تكاد تمرّ من دون إدانةٍ أو حساب: فئات سياسية تفضّل أن يذهب البلد بأكمله الى الانهيار خوفاً على ودائعها أو تنفيذاً لأوامر، وفئات أخرى داخل النظام تمارس التخريب الاقتصادي وتتصرّف باحتياطاتنا.
هناك أيضاً عاملٌ معنويّ، ولكنه مهمّ، وهو أنّ جمهور المقاومة يجب أن يعرف أنّ ما يقوله عنه أعداؤه ليس صحيحاً، وأنّ المقاومة ليست فاسدة ولا هي من أوصل لبنان إلى هنا، وأهلُها هم الوحيدون في هذا البلد الذين عملوا شيئاً بصدق، ولهذا أنجزوا، وهم ضحّوا بكلّ شيءٍ، منذ البدايات، من غير أن يتوقّعوا مقابلاً. وهم أيضاً يجب أن يعرفوا أنّ من سار إلى جانب أنصار سعد الحريري وسمير جعجع ووليد جنبلاط، ليس في موقع المزايدة بالمثاليات (وإياك أن تتوهّم أنك كنت أنت الجماهير العريضة ومن يتحكّم بالمشهد، فيما الأحزاب كانت الأقلية التي «تسلّلت» عليك). بل إنّ من أراد أن يصنع ثورة مع هؤلاء، وبرفقة النخب والمصرفيين والإعلام الفاسد وكلّ شيءٍ رديءٍ في هذا الوطن، هو من عليه أن يراجع نفسه وخياراته وانحيازاته في الفترة الماضية (وإن كانت القاعدة عند غالبية البشر، وفي غالبية الأمور، هي أن تقاوم إلى الحدّ الأقصى، وتذهب إلى أبعد ما يمكن في العناد والتبرير، قبل أن تعترف ببساطة أنك كنت على خطأ).

ما العمل؟
طُرحت في السنة الماضية جملة خياراتٍ لم يسلكها حزب الله، بعضها فيه وجاهة وبعضها يفتقر إلى المنطق أو يعتريه قصورٌ في فهم عمل النظام اللبناني (مثل قاعدة أنه لا يمكن لحزب، أو تحالف أحزاب، أن يصنع سياسات ويقرّرها في لبنان، بل هي كلّها تجري بالتوافق أو لا تجري، حتى منصب الوزير لا يعني كثيراً إذ أن موازنات الوزارات لا تزيد كثيراً عن نفقاتها الإدارية، والتمويل لأي مشروعٍ أو مخطط يمرّ عبر مجلس الوزراء والتوافقية). ولكن، إن تفحّصنا كلّ هذه الخيارات جميعاً (أن يشارك حزب الله في الاحتجاجات بشكلٍ «تكتيكي»، أن يشارك فيها بشكلٍ صادق، أن يقود هو الثورة على النظام، أن يتخلّى عن حلفائه ويشارك في بناء نظام سياسي جديد، إلخ)، وافترضنا صحّة مقدّماتها، فإنّها كلّها كانت ستوصل في نهاية الطريق إلى نقطةٍ من اثنتين: الاستيلاء على السلطة من خارج الدستور، أو سيناريو «الثورة السياسية». لا يوجد، واقعياً، احتمالٌ ثالث. وسوف أفصّل هنا، كتجربة نظريّة، معنى هذين الطريقين وكيفية ترجمتهما على الساحة اللبنانية.
الفرضية الأولى، «الاستيلاء المسلّح» على السلطة، أو بـ«قوة الجماهير»، بدت جذابة للعديد من المتحمّسين، وجرى الغمز من قناتها من أطراف مختلفة، بعضها راهن على الجيش اللبناني والبعض الآخر على حزب الله. الرهان على الجيش هنا هو، بالطبع، واهمٌ، فلا مجال لـ«خيارٍ بونابارتي» في لبنان والجيش لا يملك هذا المستوى من الاستقلالية عن المجتمع. ولكن حزب الله، الحركة العسكرية والجماهيرية الهائلة، تقدر على قيادة مهمةٍ كهذه. المشكلة، بالطبع، هي حين تأخذ هذا الاحتمال خطوتين أو ثلاثاً الى الأمام. من يعرف لبنان، يعرف أنّه لو شارك حزب الله في انقلابٍ أو ثورة تنوي الاستيلاء على السلطة، وإن كانت بالتحالف مع أفضل العناصر في البلد وتجري تحت أفضل أجندة يمكن تخيّلها، فإنّ نصف لبنان تقريباً سوف يقف ضدّه، وثلثه على الأقل سوف يقاتله من دون هوادة.
وحين تخرج عن النظام الدستوري أو تستخدم القوة، فإنّ الخصوم لن يعتبروا أنّ من حقهم الاستعانة بأميركا وإسرائيل، بل وبالجنّ والشياطين ضدّك (وهم لا يحتاجون إلى كثير من التحفيز). قد يتمكّن حزب الله، ومن معه، من السيطرة على الدولة والميدان، ولكن ما سيكون شكل «عملية الإخضاع» هذه، وكلفتها؟ بالضرورة سيسقط ضحايا، ويُقتل مدنيون وأبرياء، وستحصل حوادث هنا وهناك، بعضها حقيقي وبعضها يختلقه الإعلام، وهنا ستتشوّش الصورة وتكثر الانتقادات (وهنا يبدأ أسعد أبو خليل بالهجوم عليهم والتبرّؤ منهم)، وحين «تستلم» لبنان في نهاية الأمر، سيكون بلداً محاصراً يعتبره العالم إرهابياً، وسيصبح حزب الله مسؤولاً - إلى جانب المواجهة - عن حياة ومعيشة كل هؤلاء الناس، فيما العالم العربي والغربي مقفلٌ وسوريا مدمّرة، وهذا هو تماماً الموقع الذي لا يريد حزب الله أن يكون فيه.
ضمن السياق السياسي الذي يمهّد للتطبيع في لبنان يقدّم الكثير من المعلّقين مسألة التصالح مع إسرائيل كأنّها تخصّ حصراً القضيّة الفلسطينية


السيناريو الثاني، بغضّ النظر عن واقعيته، يفترض «ثورة سياسية» يشارك فيها حزب الله وتجري من ضمن النظام الدستوري. ولكن، حتى لو افترضنا أنّ زلزالاً غيّر المشهد السياسي برمّته، وخرج الفاسدون من هيكل المقاومة، وتحالفت المقاومة مع كلّ «النظيفين» في البلد، وتحطّمت القواعد الشعبية للأحزاب، وهجّر نصفها باتجاهك، وتمكّنت من تشكيل غالبية سياسية وفرض حكومة «ثوريّة» ولكنّها، في الوقت نفسه، مقاوِمة وشعبية ومنحازة للفقراء. حتى لو تمكّنت من صناعة هذا الواقع، وترجمته أغلبية في الانتخابات، فإنّك ستتسلّم البلد وهو في حالة إفلاسٍ ونزاعاتٍ ومقاطعة خارجيّة. في الوقت ذاته، سيكون 40% من المجتمع، على الأقل، متوحّداً ضدّك، وبينهم كلّ الأثرياء، وأكثر الطبقة الوسطى، وكلّ من لديه سلطة في المجتمع، وكلّ ما عليهم فعله - وهذا ما يسهّله، بل يضمنه، النظام الدستوري اللبناني - هو أن يجعلوك تفشل. هنا، نعود خلال سنةٍ إلى النظام القديم أو ننتقل مجدّداً إلى السيناريو الأوّل.
ليس المقصد هنا أنّ حزب الله لم تكن لديه خيارات، و«لم يكن بالإمكان أحسن ممّا كان»، على العكس تماماً؛ لم يكن الحزب ناجحاً البتة في الدفاع عن موقفه في الساحة السياسية العامّة، ولم يقدر على مواجهة أيٍّ من الحملات التي واجهته توالياً في السنوات الماضية، أو تطوير الوسائل لذلك. يكفي لتبيان الفشل أن نصبح في بلدٍ يكفي أن تنسّق فيه بين ثلاث قنوات تلفزيونية حتى تتحكّم بالجو السياسي بشكلٍ تام، وأن تستحوذ على خطاب «وجع الناس» وحرمانهم فئاتٌ ونخب كانت «القضية الاجتماعية» الوحيدة التي رفعتها يوماً هي مشكلة النفايات في بيروت وضواحيها. المقصد هنا ببساطة، هو أنّ العديد من الخيارات «الاستراتيجية» والثوريّة التي تم طرحها تصبّ، حقيقةً، في احتمالاتٍ هي من النوع الذي تتعامل معه حين يقع عليك وتضطرّ إلى ذلك في نهاية الأمر، ولكنّك لن تسعى إليه برجليك.

عن خيارات الآخرين
يقول لي الزميل الأمجد سلامة إنّه بات، حين يناقش زملاء، مفتوحٌ لهم باب الهجرة وهم يفكّرون بها، ويتكلّمون بسوداوية عن البلد وإنه ميؤوسٌ منه ولا أمل فيه، فهو يزايد عليهم في التشاؤم والسلبيّة، ويسدّ في وجههم الآفاق ويشجّعهم على الهجرة (هؤلاء المهندسون، لا يغرّنكم مظهرهم الخارجي الهادئ، هم في الحقيقة أقلّنا اتّزاناً). نظرية الأمجد، هي أنّك حين ترى الخيارات السياسية لغالبية فئات الطبقة الوسطى التي تهاجر، يصبح من الأفضل تشجيعهم على أن يستعوذوا منّا وينفضوا أيديهم من شؤوننا، ويبنوا لأنفسهم حياةً جديدةً في مكانٍ أفضل. الخطوة الإضافية، هي حين يبدأ صديقك بالتنظير للهجرة على أنّها الحل الوحيد، والجواب على انسداد السياسة والأمل، وأنّ علينا كلّنا أن نسير مساره. حقّاً عزيزي؟ هل تعتقد أنّك أنت من اكتشف فكرة «الخلاص الفردي»؟ وهل تعتقد أنّ هناك لبنانياً يقدر على الهجرة في ظروفٍ لائقة مثلك ولا يفعل؟ ما رأيك أن تعلّم اللبنانيين عن الهجرة؟ ( فوق ذلك، يصرّ صديقٌ مغترب حين ألتقي به بأنّه ضحيّة و«منفيّ»، وهو «يعاني» المنفى في بلد أوروبي ثري وجميل، بعيد ساعات قليلة بالطائرة عن لبنان، وبوظيفة عالية لا يحلم بها أبناء ذاك البلد، ولكنّه يشرح لي مظلوميّته وكيف منعه «النظام» من العيش بين الأحبّة وأجبره على تجرّع مرارة البعد عن عائلته - التي لا يطيقها). الطريف، هنا، هو أنّ أسعد أبو خليل يتعرّض كثيراً للهجوم من منطلق أنه مهاجر إلى أميركا؛ ولكن، حين اختار أسعد الهجرة، كان البلد يمرّ فعلاً في حربٍ أهلية كاسحة وقصف واجتياحات ومذابح بينما، بالنسبة إلى جيلي ومن هو أصغر، فنحن هاجرنا ببساطة لتحسين وضعنا المادي والمهني والارتقاء الطبقي (وهجرة أكثرنا لا تشبه هجرة لاجئي العالم الثالث، الهاربين من الحروب والجوع، إلى أوروبا، أو حياة العمّال الآسيويين في الخليج، ولا نحن نشاطر عموم الأفارقة حياتهم ومعيشتهم حين نعمل في بلادهم).
المسألة لخّصها لي أخيراً صديقٌ قال إنّه، بعيداً عن المحظيّين، لا يظلّ في لبنان إلّا صنفان من الناس: من ليس أمامه أصلاً طريقٌ لهجرةٍ تحسّن وضعه، أو من يحمل قضيّةً كبيرة جدّاً، وفي الحالتين أنت لا يحقّ لك أن تتشاوف عليه ولا هو يحتاج إلى نصائحك. المسألة في «الخلاص الفردي»، بالطبع، هو أنّك لم تحلّ شيئاً والوضع المأساوي سيظلّ نفسه، ونتائج الأزمات والمعارك والمواجهات سوف تشكّل مصائر هذه البلاد وشعوبها لعقودٍ مقبلة، سواء بقيت أم تركت (قاعدة «قل كلمتك وامشِ» لا تسري على بناء الدول). إن كانت لديك امتيازات وتقدر على عزل نفسك عن هذا الواقع والابتعاد عنه، فهذه حياتك وهذا حقّك وهذا الخيار العقلاني، ولكن أكثرية الناس لا تملك هذا الترف، والسياسة يجب أن تكون من أجلهم هم، وليس من أجل مُثُلك وطموحاتك وصورتك عن نفسك.
ولكن «الخيار» الحقيقي والصعب، لمن يظلّ هنا، لا يقتصر على ضغوطات الأزمة والاقتصاد وتركة الإفلاس. موجة «التطبيع» التي تجري حولنا ليست تفصيلاً وشكليات، ولا هي تتعلّق بدونالد ترامب وإدارته، بل هي جزءٌ من استراتيجية كبرى لإعادة تنظيم منطقة الشرق الأوسط بأكملها (وهذا يدخل ضمن نظرةٍ أوسع للصراعات في العالم، ودور إقليمنا العربي فيه، باختصار، هو أن يكون شبكة مستعمراتٍ أميركية تقودها إسرائيل). مصطلح التطبيع ومعاداة التطبيع هو شعار معنوي، في الواقع السياسي جميع العرب تقريباً أصبحوا داخل اللعبة، وسيتمّ الإطباق على من تبقّى. وبعيداً عن الطهرانية والمزايدات، لولا وجود المقاومة وقدرتها العسكرية، لما وقف أحدٌ اليوم في وجه معاهدة سلام بين لبنان وإسرائيل (ستقوم، كما في دولٍ عربية أخرى، تظاهرات واعتصامات، ثمّ ينتهي الأمر هنا). يمكنك أن تتجاهل كلّ هذه الأحداث، وجولات المسؤولين الأميركيين في بلادنا وما يقولونه علناً عن احتمالات المستقبل، ويمكنك ألا تأخذ موقفاً واضحاً منها. ولكن هذا لن يغيّر حقيقة أنّ «الانقسام الكبير» قادم، ولأسبابٍ لا علاقة لها بلبنان: قد لا يعود في وسعك أن تعيش في الغرب وأن تكون مع المقاومة، لن تظلّ إمكانية للتعايش بين أطياف الخارج ضمن المجتمع السياسي، ولن تبقى هناك منطقة رمادية بين المطبّع والمقاوم. هنا الخيار سيكون صعباً، وكلفته مرتفعة للغاية، وقد لا يظلّ معك - في الداخل كما في الخارج - إلّا أقليّة، ولكنّه آتٍ، فالأفضل أن تتحضّر له وأن تفهم معناه وأن تتعلّم أن لا تخاف من قدومه.

خاتمة
ضمن السياق السياسي الذي يمهّد للتطبيع في لبنان، يقدّم الكثير من المعلّقين مسألة التصالح مع إسرائيل كأنّها تخصّ حصراً القضيّة الفلسطينية، متناسين أنّ هناك عداءً منفصلاً قائماً بين لبنان والكيان الصهيوني، بل إنّ أشدّ العداوات حدّة وخطورةً وشراسةً في نظر الصهاينة اليوم هو ذاك الذي بيننا وبينهم (وهو، من جهتنا وجهتهم، أبعد من الحدود والخرائط). الفخّ هنا هو في أن يزيّن لك أحدٌ بأنّ الخضوع و«السير مع التيار» سيضمنان لك حلولاً لمشاكلك وأزمتك، وازدهاراً وأمناً. إن كانت تجارب الماضي تعلّم شيئاً فهو عن مصير من يسلك هذا الطريق. من قال لك إنّك، بعد أن تخضع وتخسر قوّتك، ولا يعود فيك ما يخيف، فهم لن ينتظروا الفرصة الأولى لكي ينتقموا منك ويسفكوا دمك؟ انظروا إلى أكثر من حاول مهادنة أميركا بعد عداوة. وبعد كلّ الذي جرى بيننا وبين إسرائيل وأميركا، فمِن الغباء أن تعتقد أنهم سينسون الماضي يوماً ويتجاوزونه، إلّا تحت قوة الردع والإجبار.
«المفاوضات البحرية» مثال: بغضّ النظر عن الشكليات وما خلفها، فلا سبب أصلاً لكي تفاوضك إسرائيل على الحدود البحرية إلا لسببٍ واحدٍ وحيد: أنّ المقاومة تمتلك وسائط تسمح بضرب منشآتها إن هي أقامتها في مياهٍ نعتبرها لنا (وهذه ليست أسلحة بسيطة أو متاحة لأيٍّ كان). هذا هو قلب المسألة برمّتها، لولا ذلك، لما فاوضتك إسرائيل من الأساس، وقالت ببساطة «هذا لي»، واستخرجت الغاز من حيثما تريد واعتبرت أنّ المسألة محلّ نزاع والمفاوضات لم تحلّها (ماذا ستفعل حينها؟ تقدّم شكوى إلى الأمم المتحدة؟). ما نحاول قوله هنا هو أنّه، بالنسبة إلى هؤلاء الناس الذين حملوا السلاح ضدّ الصهيونية والغرب، لا مجال لطريق عودةٍ وتنازل بعد الآن، وهم هنا لا يدافعون عن مصالح أو سلطةٍ أو خيارات سياسية، بل هم يدافعون عن حياتهم.
الخرافة الثانية، هي أن تفترض أنّ التسليم سوف يضمن لك الازدهار والمساعدات والخروج من أزمتك العميقة. من يقول هذا لا يعرف كيف تعمل الإمبراطوريات، وأنّ الريع فيها يذهب من أسفل إلى أعلى وليس بالعكس. أي أنّ الخليجيين، في «الشرق الأوسط الجديد»، سوف يرسلون أكثر فوائضهم إلى أميركا وإسرائيل، ويعملون ويستثمرون معهم، ولن يكون همّهم أن يطلقوا «خطّة مارشال» لتنمية السودان ومصر والمغرب وغيرها من الدول الفقيرة. همّهم سيكون في استمرار النخب السياسية التي تضمن الخضوع والتطبيع، ولو غرقت مجتمعاتها في مستنقع الفقر والتخلّف والصراعات، وهذه الضمانة للنخب الحاكمة هي المقابل السياسي الوحيد - من جانبهم - لاستسلام الدول. أي أنّ «النظام»، أو أسوأ ما فيه، سيستمرّ وسيكون أقوى وأمتن وأقلّ ديمقراطية.
هذا هو الواقع اليوم ولا مجال لتجميله. وما ينتظرنا هو أكثر سوءاً ممّا مرّ، فالطريق الذي نحن عليه في آخره، على الأرجح، حربٌ وعنف. هذا ما يحصل حين تزداد التناقضات وتستعصي البنى القائمة على الإصلاح واستيعاب الواقع المتغيّر. المرحلة المقبلة ستكون مرحلة حسمٍ ودفعٍ لفواتير الماضي الثقيلة؛ لهذه الأسباب من تُتاح له هجرةٌ مقبولة فالأفضل أن يهاجر ولا عيب في ذلك؛ أمّا من هو «عالق» هنا، فالمنطقي هو أن نفهم أننا لا نختار زماننا، وأننا مررنا في الماضي بما هو أصعب بكثير، وحين تصبح في نهاية الطريق ولم يعد هناك من خيار، فمن الأفضل أن تذهب أنت إلى الحسم بلا خوفٍ، ولا تنتظره لكي يأتي إليك.