تعود فكرة إحياء الهوية الأندلسية كما تكرّست في عصر ازدهارها قبل «حروب الاسترداد»، في عصرنا الحاضر، إلى زمن ليس بعيداً نسبياً. وربما تكون مقولة الشاعر الأندلسي القتيل فيدريكو لوركا، في عشرينات القرن الماضي، دفاعاً عن هذه الهوية قبل مقتله، أبرز الإشارات القوية إليها. وكنت قد أشرت إلى هذه الفكرة في مناسبة سابقة (الأخبار - ملحق كلمات 22 آب/ أغسطس 2020)، حيث نقلت عن أيان جيبسون، مؤرّخ سيرة لوركا، هذه الفقرة التي تنطوي بحسب المؤلّف على ما يعتبره السبب الأهم لاغتيال الشاعر الأندلسي الأشهر، فقد كتب: «في بداية الحرب الأهلية الإسبانية، وقبل أسابيع قليلة من اغتيال لوركا في آب/ أغسطس 1936، سُئِل الشاعرُ عن رأيه في سقوط غرناطة في أيدي الإسبان عام 1492، فأجاب: «كانت نكبة - يوماً أسود- رغم أنّهم يلقنوننا العكس في المدارس: حضارة رائعةٌ، وشعرٌ، وفلكٌ، وعمران، ورقةُ شعور فريدةٌ في العالم، ضاعت كلّها، لتقوم محلّها مدينة فقيرة هي «جنّة البخلاء» التي يلعب بمقدّراتها الآن أراذل البرجوازيين في إسبانيا». ظهر هذا التصريح على صفحات أكبر جريدة في مدريد، فكان سبباً مباشراً في موت الشاعر وهو في الثامنة والثلاثين». ويضيف جيبسون: «وقبل خمس سنين من ذلك، قال لوركا: «أعتقد أنّ أصلي الغرناطي منحني شعوراً بالتآخي مع جميع المضطهدين غجراً وسوداً ويهوداً، ومع المورسكيين «المغاربة» الذين نحفظ ذكراهم نحن الغرناطيين في قلوبنا». لا شك في أنّ الشاعر كان على علاقة وثيقة بغرناطة التي ضاعت إلى الأبد عام 1492».

كان ذلك قبل قرن تقريباً، ويبدو واضحاً أنّ هذه القضية قد أخذت منحىً تصاعدياً في العقود الأخيرة في إسبانيا ذاتها، حتى بات لها جمهورها ونخبتها من المثقّفين والأكاديميين والمؤرّخين الأندلسيين المتخصّصين، إضافة طبعاً إلى جمهورها من عامّة الأندلسيين.
ضمن هذا العنوان الخاص بتمايز الهوية الأندلسية عن الهوية الإسبانية وصعودها، يأتي الوثائقي التلفزيوني «ثلاثية الأندلس - حكاية الشاطئَين» الذي حرّره وأخرجه جيزوس أرنستو وكارلوس مونتيفورت، ليكون مصدراً مهمّاً يسلّط الضوء على جهود ثلّة من المؤرّخين والمثقّفين الأندلسيين في السنوات القليلة الماضية لمراجعة ومحاولة استعادة تاريخ بلادهم باتجاه ترسيخ هوية وطنية أندلسية يعتبرونها ملغاة ومُقصاة من التاريخ الإسباني العام. ويبلغ الجهد والحماس ببعضهم درجة يعتبر فيها ما سُمي بـ«حروب الاسترداد» التي أنهت الوجود العربي الإسلامي في الأندلس غزواً واحتلالاً أجنبياً قام بها الإسبان الشماليون لوطنهم الأندلس. شارك في هذا الوثائقي كل من: إيمانيويلو فيرين - مؤرخ وباحث في فقه اللغة العربية، وأنخيلس كاستيانو عالمة الأنثروبولوجيا، وفرناندو كلاوز موراليس الكاتب والعالم الأنثروبولجي، وإنريكو سوريا المؤرّخ والباحث، وإيسيدورو مورينيو الباحث والخبير في الأنثروبولوجيا، وفيردريكو زاراغوز المدير العام السابق لمنظمة اليونسكو.
وقبل أن نستعرض مناقشين بعض ما ورد في هذا الوثائقي المهمّ، لنلقِ نظرة سريعة على الماضي البعيد لما يُعرف اليوم بإسبانيا بهدف تفهّم خلفية الموضوع التاريخية وموقع الأندلس العربية المسلمة فيه: احتلّ الرومان في عهد جمهوريّتهم، خلال القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، شبه الجزيرة الإيبيرية التي تضمّ اليوم إسبانيا والبرتغال. وخلال قرون عدّة، اندمجت اللهجات واللغات المحلية باللغة اللاتينية أو تفرّعت أخرى عنها، باستثناء لغة الباسك في جبالهم العصية التي بقيت كما كانت. وقد احتلّ الجرمان الوندال «فيندال» والجمع منه «لوس فيندالوس»، وهي المفردة التي غدت لاحقاً اسم علم لبلاد الأندلس جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية غارسة بذلك بذور كيانية جغرافية أولية ستتحوّل بعد قرون إلى كيانية جغراسياسية. وقد نظَّم القوط الغربيون أنفسهم في إسبانيا، وأسّسوا ممالكهم في شمال ووسط شبه الجزيرة وألحقوا الجنوب الأندلسي بهم لقرون عدّة. وفي عام 711م، عَبَرَ العرب والبربر المسلمون من أفريقيا ما بات يعرف اليوم بمضيق جبل طارق، والذي كان يسمّى قديماً «بحر الزقاق» أو «بحر المجاز». وألحقوا جنوب الأندلس وأجزاء من وسطه بالدولة العربية الإسلامية الأموية المروانية وعاصمتها دمشق، في عهد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، وتمّت لهم السيطرة على غالبية شبه الجزيرة بقيادة موسى بن نصير.
جدد عبد الرحمن الداخل الأموي فتح الأندلس بمعنى معين، بعدما جاءها مطارَداً من قبل العباسيين الذين دمّروا دولة بني أمية. وشهدت الأندلس في عهده وعهد خلفائه الأوائل ذروة ازدهارها، ثم بدأ عهد التدهور والانحدار. وانقسمت هذه الدولة وتفكّكت إلى دويلات متناحرة في القرنين الحادي عشر والثاني عشر. وفي القرن الثامن، بدأت دويلات الشمال الإسباني المسيحي حروبها ضد الدويلات الأندلسية المسلمة حين تشكّلت الدولة الإسبانية «الحديثة» من اتحاد مملكتَي قشتالة والتي تشمل المساحة الأكبر من إسبانيا المعروفة اليوم، وتُنسب إليها اللغة الإسبانية المعاصرة، وإقليم أراغون الأصغر مساحة جنوب فرنسا والممتد شرق الأندلس حتى غرناطة جنوبا، وهزمت آخر الدويلات الأندلسية المسلمة العربية في غرناطة وجزر الكناري في أواخر القرن الخامس عشر.
سميت تلك الحروب في التاريخ الإسباني بحروب الاسترداد، كما أسلفنا، وتم خلالها وبعدها بقرون قليلة، تحويل الأقليات الدينية في إسبانيا من المسلمين واليهود إلى المسيحية أو طردهم من البلاد. والثابت علمياً، أنّ الوجود العربي في شبه الجزيرة طيلة ثمانية قرون تركَ أثاره الثقافية والجينية الوراثية، رغم كلّ عوامل الإقصاء والاجتثاث حيث يتزايد اليوم عدد الأندلسيين الذين يتباهون بأرومتهم العربية أو اليهودية على قلة اليهود آنذاك قياساً إلى غيرهم من مكوّنات.
سنحاول الآن مقاربة هذه المحاولة التأريخية الجديدة للمراجعة والبحث عن الهوية الأندلسية والتعريف بأسسها النظرية والتاريخية، إضافة إلى التعريف بوجهات نظر دعاتها المعاصرين بشيء من الاختصار. صحيح أنّ أحد المؤرّخين في هذه المجموعة، وهو إيميلو فيرين، يبالغ في إنكار حدوث غزو أو فتح عربي إسلامي لجنوب شبه الجزيرة الإيبيرية، ويعتقد بدلاً من ذلك بحدوث ما يسمّيها «ثورة ثقافية» جاءت أو تمدّدت من الشرق، وأثمرت عن قيام الحضارة الأندلسية ذات التعدّدية الدينية واللغوية والثقافية بعامة، ولكن الخطّ العام لكلامه وكلام زملائه مهمّ وجديد وجدير بالتأمل والدراسة بهدف وضعه في سياقه التاريخي واستجلاء معالمه ومضامينه واستشراف آفاقه.
تأريخياً، لا تُعتبر فكرة «عدم وجود غزو عربي إسلامي لشبه الجزيرة» جديدة تماماً، وهناك روايات وردت حتى في المصادر العربية تحدثت عن حالة تخلخل في الحكم واضطراب في بلاد الأندلس قبل قدوم العرب. فهناك مَن تحدث عن اضطرابات سياسية كبيرة وقعت آنذاك، حين حاول بعض المُلوك القوط الخروج على طبيعة التنظيم القبلي لمجتمع المملكة القوطيَّة وجعل نظام الحُكم وراثيًاً، ما أدَى إلى إثارة التنافُس بين الطامعين في العرش، حتَى أضحى تاريخ الملكيَة القوطيَة، في أواخر عهد المملكة، سلسلة من المُؤامرات والاغتيالات والحروب الداخليّة. ولم يلبث هذا الصراع الداخلي أن دخل مرحلته الأخيرة في عهد الملك إخيكا، واستمرّ في عهد خُلفائه، وأدّى إلى ضعف المملكة وسُقوطها بيُسر في أيدي المُسلمين. وهناك من تحدث عن تواطؤ حدث بين حاكم طنجة وسبتة القوطي يليان والعرب المسلمين وسهّل دخولهم الأندلس بسبب خلافاته مع الملك القوطي لذريق «رودريك». وهذه الرواية توردها كُل المصادر العربيّة والإسلاميّة القديمة من دون استثناء. وتفيد رواياتٌ أُخرى بـ«أنَّ يُليان لم يكن يتوقّع، حين طلب المُساعدة من المُسلمين، أن يستقر هؤلاء في الأندلُس، ويبدو أنّه خطّط فقط للاستعانة بهم لخلع لذريق وإعادة أولاد غيطشة إلى الحُكم» (1). والخلاصة، حتى هذه الروايات لا تنفي حقيقة وقوع الغزو العربي لشبه الجزيرة والسيطرة عليها بالسلاح، خلافاً لما يقوله المؤرّخ الأندلسي المعاصر إيميلو فيرين.
اللافت في هذا الوثائقي التلفزيوني، هو أنّ هؤلاء المؤرّخين الأندلسيين ينظرون إلى تجربة أجدادهم في القرون الخوالي بفخر، وخصوصاً في تجربة التعددية الدينية والتسامح الفعلي بين أهل الديانات الثلاث، الإسلام كدين للأغلبية، والمسيحية واليهودية. حتى أنهم أقاموا نصباً فنياً لرموز هذه الديانات، هو عبارة عن ثلاثة صنابير مياه على واحد منها صليب، وعلى الثاني هلال وعلى الثالث نجمة سداسية، كلّ واحد يرمز لدين منها وتصب ثلاثتها في حوض واحد. وهم يدافعون عن هويتهم المُقصاة والملغاة من قبل الإسبان الشماليين مع ما قد يثيره هذا النصب الفني وما يعبر عنه من نظرة متماثلة إلى الأديان الثلاثة من تحفّظات محقة بسبب ثانوية الوجود اليهودي، دينياً وديموغرافياً وإنتاجاً حضارياً، ما قد يجعل هذا الوجود محشوراً حشراً لأسباب أيديولوجية.
ولكي نأخذ صورة تقريبية عن واقع الحال الدينية العامة في الأندلس العربية الإسلامية، نعلم أنّ دولة الأندلس أقامت مؤسّسة دينية منظمة للمسيحيين يشرف عليها رجال الدين منهم «فكان لهم ثلاث أبرشيَّات في طُليطلة وإشبيلية وماردة، كما كان لهم ثماني عشرة أُسقُفيَّة، أمّا الأديرة فكانت كثيرةً جداً، إذ كان منها حول قُرطُبة وحدها أكثر من خمسة عشر ديراً» (2). وبنى المُسلمون المساجد في كُل مكانٍ نزلوا فيه، غير أنَّهُم في بعض الأحيان كانوا يجعلون من الكنائس مساجد في الأمكنة التي دخل جميع أهلها من القوط والإفرنج في الإسلام، أو كانوا يقسمون الكنائس بين الذين دخلوا في الإسلام وبين الذين اختاروا أن يبقوا على المسيحيّة من أهل البلد الواحد (3). أما اليهود، فقد كان وجودهم العددي متواضعاً. ولدينا إشارات تاريخية تسجّل أنهم قد سبقوا العرب المسلمين في القدوم إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، وانحازوا إليهم في الصراع الحربي الذي دار بينهم وبين الممالك القوطية. وهناك إشارات وشهادات تاريخية تؤكد تعرّض اليهود في الأندلس إلى الاضطهاد في زمن الملك رودريكز «لذريق»، قبل عبور قوة طريف بن مالك الاستطلاعية، وفق الرواية العربية للفتح، ثم عبور طارق بن زياد بقواته. هناك أيضاً إشارات أخرى إلى دور يهودي مساند للعرب المسلمين في معركة السيطرة على بلدة «إلبيرة» وهي من أعمال غرناطة، وقد أوكل لهم القائد ابن زياد إدارتها ومساندة الحامية المسلمة فيها ففعلوا (4). وربما كان أكبر وجود لليهود هو في جزيرة مايوركا، ولكن غالبيتهم الساحقة أبيدت من قبل الإسبان بعد سقوط دولة العرب المسلمين في الأندلس، ومن تبقى منهم حياً أُجبر على تغيير دينه إلى المسيحية.
إنَّ هذه الوقائع شيء تاريخي موثّق، أما المبالغة بدورهم وجعله مثيلاً أو مقارباً للدور أو الحضور العربي الإسلامي من قبل بعض المنادين بالهوية الأندلسية المتمايزة، فهو أمر غير علمي ولا هو تاريخي تماماً وقد ينطوي على أهداف أخرى خارج السياق التاريخي والحضاري لهذه الحالة. ويكفي أن نتذكر أن يهود الأندلس لم يقدموا، مقابل مئات العلماء والفلاسفة والمبدعين العرب المسلمين، إلا مساهمة أقل من متواضعة ولا يمكن لنا في هذا المجال أن نجد في كتب التاريخ إلا أسماء يهودية قليلة قد لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. منهم، وفي مقدمتهم الفيلسوف والطبيب موسى بن ميمون، الذي لا يمكن اعتباره أندلسياً تماماً إلا على جهة مسقط رأسه. فقد هاجر ابن ميمون مبكراً من قرطبة إلى مدينة فاس المغربية للدراسة في جامعة القرويين، ثمّ هاجر منها إلى مصر في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي قرَّبه وجعله طبيبه الشخصي ووزيراً له، ثم سافر إلى فلسطين لفترة قصيرة ثم عاد إلى مصر وعاش فيها وأصبح نقيباً ليهودها حتى وفاته.
ويمكن أيضاً أن نذكر حسداي بن شفروط الذي كان يعمل طبيباً ودبلوماسياً في بلاط عبد الرحمن الثالث (912 - 961) والحكم الثاني (961 - 972). وفي قرطبة عُرف منهم الشاعر والعالم أبراهام بن عزرا، الذي ألّف ثلاثة كتب في علم الحساب. واشتهر إبراهام بارحيا البارشالوني بنظريته التي دارت حول علم الهندسة، في القرن الثاني عشر، كما ساهم بارحيا في تأليف موسوعة مهمّة تمحورت حول الرياضيات. وبخلاف هؤلاء لا يكاد التاريخ يذكر لنا أسماء أخرى من يهود الأندلس؛ أما لو بدأنا بذكر أسماء العلماء والأدباء والأطباء والقادة السياسيين والعسكريين العرب والبربر المسلمين فلا نكاد أن ننتهي!
على هذا، لا يمكننا أن نماثل بين الوجودين بما يرويه أحد المشاركين في الحديث على سبيل تأكيد الوجود الحضاري لليهود في الأندلس من «أن الدكتاتور فرانكو كان يضع في مكتبه ذراع القديسة الكاثوليكية ذات الأصول يهودية القديسة تيريزا وراعية الكنسية الإسبانية لكي تلهمه»!
ولهذا، يحقّ لنا أن نواجه هذه الرؤية المشوَّشة لتجربة التعايش الأندلسية بسؤال كاشف يقول: ترى، لماذا هذه النظرة إقصائية لجذور تجربة التعايش الأندلسي العربية الإسلامية الشرقية؟ وبكلمات أخرى: من أين جاءت هذه التجربة الحضارية المتميّزة للتعددية والتعايش في الأندلس القديمة، هل سقطت عليها من كوكب بعيد، أم أنها طلعت كغرس عجيب من أرض الأندلس ذاتها؟ ألم تكن هناك تجربة أمٌّ لهذه التجربة حملها العرب المسلمون معهم وعبروا بها بحر الزقاق؟ هذا ما سوف نتوقف عنده محلّلين لوقائع التاريخ في مناسبة أخرى.
*كاتب عراقي

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا