في نشوة إعلان تطبيع العلاقات مع السودان، لم تغِب عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو رموز ماضٍ انقضى، أو توشك أن تغادر القاموس السياسي العربي. لم تكن الخرطوم محض عاصمة عربية جديدة تنضمّ إلى ركاب التطبيع المتسارع، فهي «العاصمة التي تبنّت عام 1967 مبادئ لا سلام مع إسرائيل، ولا اعتراف بإسرائيل، ولا تفاوض مع إسرائيل». كان ذلك استدعاءً للذاكرة في وقت انتشاء، فـ«الخرطوم تقول الآن نعم».استدعاء الذاكرة بالرموز من مقوّمات الشخصية اليهودية على مدى تاريخها، سمة عامّة موروثة وراسخة. أراد - أولاً - أن يذكّر جمهوره الصهيوني بأنه حقّق ما لم يخطر لهم على بال، لعلّه يرمّم شعبيّته المتصدّعة.
أراد - ثانياً - أن يذكّر بالأجواء التي سادت العالم العربي إثر حزيران/ يونيو 1967، عندما خرجت العاصمة السودانية بكلّ سكانها إلى الشوارع لاستقبال جمال عبد الناصر، عند حضوره للمشاركة في قمة عربية طارئة، ثقة فيه وتأكيداً على إرادة مواصلة الحرب حتى تحرير الأراضي العربية المحتلّة بقوة السلاح. كان ذلك حدثاً استثنائياً في التاريخ، أنجح القمة العربية قبل التئامها، وبدا القادة العرب في وضع تهيؤ للاستجابة لما يطلبه عبد الناصر.
وأراد - ثالثاً - أن يطلّ منتشياً على المستقبل المنظور، بقوله: «هذا عهد جديد، عهد من السلام الحقيقي، الذي سوف يتّسع نطاقه إلى دول عربية أخرى».
أي سلام؟!
إنه السلام الذي يؤذن بالحقبة الإسرائيلية في العالم العربي، وإعادة صياغة الشرق الأوسط من جديد بموازين قوى مختلفة تتحكّم إسرائيل بمفاصله وتفاعلاته الاقتصادية والاستراتيجية. إنه سلام القوة والتطبيع المجاني، فاللاءات الثلاث ماتت إكلينيكاً، والمبادرة العربية، التي تقايض التطبيع الكامل بالانسحاب الشامل من الأراضي العربية المحتلّة منذ عام 1967، لاقت المصير نفسه.
بقوّة الرموز، أغلق إعلان التطبيع الإسرائيلي - السوداني صفحة كاملة من الصراع العربي - الإسرائيلي، على حساب ما تبقّى من القضية الفلسطينية، كأنها باتت عبئاً على النظم العربية جاء وقت التخلّص من صداعها بسلام مدعى يمنح إسرائيل ما لم تحصل عليه بالحرب. بدا ذلك استثماراً إسرائيلياً في الرموز، طلباً لمحو ذاكرة العرب المعاصرين بإنكار أية معارك خاضوها، وأية قضايا ألهمتهم ذات يوم.
باسم عودة السودان إلى المجتمع الدولي وإعادة دمجه مالياً واقتصادياً، بعد رفع اسمه من اللائحة الأميركية للدول الراعية للإرهاب، جرى تسويغ التطبيع مع إسرائيل وتهيئة الرأي العام الداخلي للانخراط فيه.
في التحضير لذلك النوع من السلام الذي يستثمر في أزمات السودان الاستراتيجية والاقتصادية والاجتماعية، ارتفعت أصوات تتحدث عن دعم مالي دوليّ متوقّع لبلد يعاني بقسوة. بمنطق السوق والفوائد، لم يعلَن قدر ذلك الدعم المالي المتوقّع، ولا من يدفع استحقاقاته، الولايات المتحدة والشركاء الغربيون، أم تُحال الفواتير إلى دول الثراء العربي؟
قيل إنه يستهدف «تحضير السودان للسلام»، وهو تعبير يتطلّب أن تكون هناك حربٌ بين طرفين، أو منازعات على أراضٍ، وتنازلات متبادلة، ثم يأتي حديث المكافآت والمنح والإغواءات! لا أن يقحم التطبيع مع إسرائيل كشرط مسبق.
إنه السلام الذي يؤذن بالحقبة الإسرائيلية في العالم العربي وإعادة صياغة الشرق الأوسط من جديد بموازين قوى مختلفة


أقصى ما أمكن لإسرائيل أن تشتري به ذلك النوع من السلام، إرسال دقيق إلى الخرطوم بقيمة 5 ملايين دولار، بالإضافة إلى ما وعدت به الولايات المتحدة من ضخ 81 مليون دولار كمساعدات إنسانية. يعطي ذلك فكرة مبكرة عن قدر ما قد يحصل عليه السودان من معونات ومساعدات مالية في أوضاع صعبة يعانيها. كان ذلك استثمارٌ في أزمة بلد فقير ومنهك، من دون أن يجد الطرق إلى المستقبل سالكة أمامه.
بأيّ منطق قانوني وسياسي وأخلاقي، بدا الربط بين رفع اسم السودان من لائحة الإرهاب والتطبيع مع إسرائيل تعسفياً. كان ذلك محرجاً بما استدعى نفيه، فيما كانت الحقائق تتحدّث علناً من دون مساحيق، حتى أنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب أعلن الأمرين معاً، في خطاب واحد استهدف في توقيته تحسين موقفه الانتخابي كرجل سلام جلب لإسرائيل ما لم يفعله أي رئيس أميركي قبله. كان ذلك استثماراً في التوقيت قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية.
ثم جاء الربط بين السلام السوداني الداخلي بالسلام مع إسرائيل، مثيراً للتساؤل مجدداً بشأن الصلات التي ربطت الجماعات المسلّحة بإسرائيل تسليحاً وتمويلاً، وعمّا سعى إليه بعضها لتفكيك السودان وفق تصوّرات استراتيجية إسرائيلية وغربية سعت إليه.
كان ذلك الربط نوعاً من الاستثمار في خطايا النظام السابق، جاء وقت دفع أثمانه على حساب القضية الفلسطينية. ثمّ كان لافتاً في جدول أعمال التطبيع المقترَح، وفق صياغة نتنياهو «الزراعة والتجارة ومجالات أخرى»... ثم بصياغة ثانية «الزراعة ومكافحة الإرهاب والتطرّف».
الزراعة أولاً، كأنّه إغواء للسودان بالتكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية، فيما الهدف الاستراتيجي الحقيقي أن تضع إسرائيل قدماً على النيل، تناكف مصر في أمنها القومي عند حدودها الجنوبية، تستثمر في أزمة «سد النهضة»، وتطرح نفسها طرفاً رابعاً بجوار مصر والسودان وإثيوبيا، لعلّها تحصل مستقبلاً على حصة من مياه النيل.
هذا نذير بأزمات متفاقمة عند الحدود الجنوبية، وبمناكفات إسرائيلية تعمل على تعميق أية خلافات بين مصر والسودان، كالنزاع الحدودي حول حلايب وشلاتين. إنّه استثمار استراتيجي في الفراغ الإقليمي الذي ترتب على غياب الدور المصري، بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 التي أسّست لنوع من السلام تمدّدت موجاته حتى وصلنا إلى التطبيع المجاني الذي يمنح إسرائيل كلّ شيء ويخصم من الفلسطينيين كلّ شيء.
الأسوأ من كلّ ذلك، الاستثمار في اضطراب المرحلة الانتقالية، التي تأسّست بعد انتفاضة شعبية هائلة أطاحت حكم عمر البشير، وحاولت أن تؤسّس لحكم ديموقراطي حديث يُعلي من شأن السودان وأهله، فإذا بنا أمام تفكّك لقوى «إعلان الحرية والتغيير»، قاطرة التغيير، وتعطّل للمرحلة الانتقالية، وعجز المجلس السيادي في جانبه المدني أن تكون له كلمة في ما يجري، وتنكّر الحكومة الانتقالية لإرادة التغيير التي صعدت بها إلى السلطة.
لا يعقل، أو يستقيم، أن يكون الإنجاز الأساسي للانتفاضة السودانية ذلك المصير البائس الذي وصلت إليه خيبة آمال الذين راهنوا عليها في العالم العربي وداخل فلسطين نفسها.
هناك إشارات أولية إلى أزمات داخلية تنازع في أحقية الحكومة الانتقالية والمجلس السيادي الانتقالي على توقيع مثل تلك الاتفاقات، وإشارات أخرى تنبئ باتّساع نطاق الرفض من قوى سياسية رئيسية شاركت في الانتفاضة. للقصة فصولٌ أخرى لم تُكتب بعد.

* كاتب وصحافي مصري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا