التعويل على نتائج الانتخابات الأميركية المرتقبة، للحدّ من آثار العقوبات على دول الإقليم، لا يبدو مبدئياً في مكانه. فالصراع بين «الترامبية» والدولة الأميركية العميقة، قد لا يكون له تأثير كبير في الاقتصاد السياسي للعقوبات، والذي وصل مع الحمائية والحروب التجارية إلى مرحلة متقدّمة من المواجهة، ليس فقط مع الخصوم، بل مع الحلفاء أيضاً. الأطُر القانونية التي وُضعت للحمائية، سواء تجارياً على مستوى تعديل اتفاقيات التجارة الحرّة («نافتا» وسواها)، أم عسكرياً على صعيد الانسحاب من اتفاقيات الحدّ من التسلّح مع روسيا («ستارت 3» مثلاً)، أم حتى في إطار عدم الاعتراف بالتغيّر المناخي (اتفاقية باريس)، كلّ ذلك سيستغرق وقتاً طويلاً، إما للعودة عنه نهائياً في حال كان الديمقراطيون يملكون مشروعاً بديلاً عن الترامبية، بآليات تنفيذية واضحة على المستويين المحلّي والدولي، أو للتخفيف من وطأته، إذا تعذّر تغييره نهائياً، بسبب الأزمة التي تمرّ بها العولمة التي يتبنّاها الديمقراطيون، ومن ورائهم، كلّ الغرب الممتعض من ترامب ومشروعه. التغيير بهذا المعنى لن يكون سهلاً، أو حتى سريعاً، لأنّ الترامبية هي التعبير الأمثل عن أزمة الرأسمالية في هذه المرحلة من تطوّرها، ولذلك فإن تجاوزها بالانتخابات وحدها، أو بالاعتماد فقط على ما يمثّله جو بايدن سياسياً هو بمثابة وهم، إذ لا إمكانية لهزيمة هذا المشروع ما دامت الأسباب التي أتت به كبديل اقتصادي وسياسي لا تزال قائمة، ولو بدرجة أقلّ من السابق. وهو على أية حال، لا يقلّ عن الوهم الآخر، النقيض، الذي يعوّل على الاستمرارية لدى قاعدة اليمين الجديد المناهض لأيّ شكل من أشكال العولمة، بما في ذلك عولمة مواجهة الوباء، في حال حصول العكس، وفوز ترامب بالرئاسة مجدّداً.
عمق «التغيير» دولياً
على مستوى الإقليم، لن يتغيّر شيء على الأرجح على المدى القريب في ما خصّ نظام العقوبات، باستثناء ليونة متوقّعة تجاه إيران، في حال عودة الديمقراطيين. وهذا مرتبط ليس بالسياسة تجاه إيران بحدّ ذاتها، بل بنهج الاتفاقيات المتعدّدة الأطراف التي تعرّضت لضربة كبيرة بمجيء ترامب، وعلى رأسها الاتفاق النووي، والذي اعتُبر حينها بمثابة ذروة لهذا النوع من التعاون مع الشركاء، وحتى مع الخصوم في حالة روسيا. تقويض هذا النهج، أبعَدَ حلفاء الولايات المتحدة عنها، في ملفّات أخرى بعيداً عن إيران، تتطلّب تعاوناً وتنسيقاً على المستوى الدولي، وخصوصاً في قضايا المناخ والهجرة والتخفيف من القيود التجارية. الابتعاد عن الحلفاء ـــــــ وتحديداً الأوروبيين ـــــــ بهذا الشكل، جَعَل الولايات المتحدة تتصرّف وحدها في كلّ هذه القضايا، بحيث يكون التصرُّف وفقاً للمنهجية الجديدة، متناسباً مع المصلحة الأميركية أكثر من سواها، بما يحقِّق لها أفضلية على مستوى التجارة والأمن والعلاقات الخارجية، كانت قد فقدتها في عهد الديمقراطيين، كما يقول ترامب. الافتقاد إلى الإدارة الجماعية على مستوى الغرب، أو بالحدّ الأدنى، التنسيق في القضايا التي تهمّ دوله لجهة التجارة والبيئة والأمن، أفضى إلى تصدّع مماثل على مستوى إدارة العلاقة مع الخصوم، في الإقليم والعالم. فبينما كانت أوروبا تريد الاستمرار في سياسة الاحتواء تجاه الصين وإيران، ذهبت الولايات المتحدة مع ترامب بالاتجاه المعاكس، وأدارت مواجهة مباشرة مع هاتين الدولتين طيلة فترة ولاية الرجل. فشهدنا تصاعداً كبيراً في الحرب التجارية مع الصين، بالتوازي مع التشدّد في فرض العقوبات على إيران، بشكل لم يسبق له مثيل في أيّ إدارة أميركية سابقة. والخلاف انسحب حتى على العلاقة مع روسيا، التي يزداد التشدّد معها أوروبياً على خلفية الصراع في دول البلطيق، بينما تشهد العلاقة الأميركية معها تقارباً غير مسبوق، بدليل الاتهامات التي تُكال لترامب دورياً من خصومه الديمقراطيين، بتسهيل التدخّل الروسي في الانتخابات الأميركية، وفي العملية السياسية القائمة عموماً.

الاقتصاد السياسي للترامبية
هذه السلّة من السياسات، لا تقوم فقط على منظور جديد للعلاقات الدولية قوامه التفرّد في إدارة الملفات بعيداً عن الحلفاء، وبتفاوت شديد مع الخصوم، بل أيضاً على قطيعة لا تقلّ جذرية مع العولمة، بشكلها الحالي بقيادة الصين، وبدرجة أقلّ ألمانيا. تعديل ترامب للاتفاقيات التجارية مع الحلفاء، ابتداءً من كندا والمكسيك، ووصولاً إلى أوروبا بعد رفدها بمجموعة من الإجراءات الخاصّة بالتقليل من تنافسية البضائع الأوروبية، وخصوصاً الألمانية، كان سيقود حكماً إلى مواجهة مفتوحة مع الصين. ومردّ ذلك، ليس فقط إلى أنّ بكين هي ثاني أكبر اقتصاد بعد الولايات المتحدة، ولا لأن بضائعها أيضاً هي الأكثر تنافسية على مستوى العالم، بل لأنها هي التي كانت ترجّح هذا الاتجاه في النموّ العالمي المعتمد على تخفيض سعر العملة ودعم السلع المحلّية للحفاظ على تنافسيتها، سواء في عمليات التبادل مع الدول، أم في الاتفاقيات التجارية معها. الغاية الأساسية من التعديلات التي أجراها ترامب على كلّ المعاهدات التجارية التي تربط الولايات المتحدة مع بقية دول العالم هي حرمان الصين، ومعها كلّ الدول التي تستفيد، مثلها، من المنافسة التجارية التي تنظِّمها قواعد منظمة التجارة العالمية، من هذه «الميزة» ، بحيث لا تصبح الاستفادة متساوية فقط، بل تتحقّق الغَلَبة أيضاً للولايات المتحدة، بعد سنوات من العجز في الميزان التجاري الأميركي. وهو ما انعكس إيجاباً بالفعل على الاقتصاد هناك، في السنوات الأولى من ولاية الرجل، فانخفض العجز التجاري بشكل ملحوظ، وشهد قطاع الوظائف نموّاً كبيراً يتناسب مع حجم الرساميل التي عادت إلى الولايات المتحدة من المكسيك والصين ودول أخرى، للاستثمار في العمالة المحلية بعد التخفيض التاريخي الذي أقرّه الكونغرس لمصلحة ترامب في الضرائب على الشركات. لكن هذه العودة إلى اقتصاد السلع بوتيرة متزايدة، وبدعمٍ من التغييرات الهيكلية التي طرأت على شكل انخراط الولايات المتحدة في التجارة الدولية، لجهة استعادة الثروة إلى الداخل، لم تترافق مع بدائل، في حال تعطّلت عملية الإنتاج فجأةً، أو شهد العالم أزمة ركود جديدة، نتيجةً لانحسار الطلب على السلع على نطاق واسع. هكذا، أظهرت الانتكاسة التي حصلت مع انتقال الوباء إلى الولايات المتحدة، ليس فقط محدودية الرأسمالية السلعية التي يمثّلها ترامب، وما يمكن أن تصل إليه في مواجهة الصين وأقطاب رأسماليين آخرين، بل أيضاً عجز النموذج الاقتصادي بأكمله في حال تفاقُم أزمة الطلب، عن ضخّ المزيد من الثروة في الداخل. ومع هذا الشحّ في الدخل، نتيجة لفقدان الوظائف وانهيار قطاع الأعمال الصغيرة والمتوسّطة لا يتعطّل نموذج الازدهار الذي أطلقته الترامبية فحسب، بل يصبح وجودها بحدّ ذاته كنسق للتمثيل السياسي الخاصّ بهذه المرحلة من تطوُّر الرأسمالية الأميركية مهدّداً. وهذا يعني فقدانَه المشروعية، حتى لدى قطاعات من مؤيّديه، رغم استمرار أزمة التعبير عن مصالحهم، في غياب البديل.

خاتمة
التراجع بهذا المعنى، لن يكون لمصلحة الديمقراطيين على المدى البعيد، وخصوصاً بوجود مرشّح ضعيف مثل بايدن، لأنهم لا يحملون مشروعاً بديلاً، ولا يملكون حلاً للأزمة الاقتصادية التي وصلت إليها الولايات المتحدة بعد «انهيار الترامبية» على المستوى الاقتصادي. الحامل السياسي والثقافيّ لمشروعهم ليس بالقوّة التي كان عليها أيّام باراك أوباما، وحتى في المواجهة مع ترامب لمصلحة الأقليّات العرقية لم يُظهِروا قدرة على الذهاب أبعَدَ قليلاً من تبنّي التعددية الثقافية كخيار سياسي بديل من انحياز أجهزة الدولة لمصلحة البيض. الليبرالية في الولايات المتحدة وصلت إلى حدودها القصوى مع وصول أوباما إلى الرئاسة، وهي مذّاك في حالة تراجع مستمرّة، ليس كحالة ثقافية ـــــــ حيث تشهد انتعاشاً على هذا الصعيد بين النخب وأبناء المهاجرين ــــــ بل كمشروع متكامل لقيادة الولايات المتحدة في ظلّ صعود الصين وروسيا وحتى ألمانيا، كخصوم محتَمَلين، استراتيجياً واقتصادياً، للقوّة والهيمنة الأميركيتين. الحمائية التي مثّلها ترامب، كانت بمثابة معقل جديد لهذه القوّة في طور إعادة تموضعها على مستوى العالم، ومع تراجُعِها، إن لم نقل تداعيها، تكون مرحلة الفراغ الاستراتيجي في الولايات المتحدة قد اكتملت، حتّى مع وجود مرشّح ديمقراطي في الرئاسة، أو إذا شئنا الدقّة أكثر، مع غياب قيادة فعلية، تعوّض انحسار الترامبية، بمعناها الاقتصادي.

* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا