«الأمن أكثر أهميّة من الازدهار»الأكاديمي الأميركي جون ميرشهايمر

تقول الصحف الاقتصادية إنّ أكثر من 3500 شركة أميركية قامت، في وقتٍ واحدٍ تقريباً، برفع دعاوى جماعية ضد الحكومة الأميركية بسبب الرسوم التي فرضها دونالد ترامب على السلع الصينية والتي تدفع هذه الشركات بأنّها غير قانونية ومؤذية لأعمالها. هذا السلوك، هو دليلٌ على أنّ قطاع الأعمال يعتبر أن ترامب لن يظلّ في البيت الأبيض: أنت تسارع إلى تسجيل الشكوى، في الأسابيع الأخيرة لولايته، فهو لن يهاجم شركات ومصالح كبرى على «تويتر»، ويصبّ نقمته عليها، فيما الانتخابات تدخل مراحلها الأخيرة. وحين يصل الرئيس المقبل إلى الحكم ــــــ بحسب هذا المنطق ــــــ تكون قد رفعت شكواك ضد إدارة الرئيس السابق، وليس في العهد الحالي.
الأرقام والاستطلاعات سيئة بالنسبة إلى ترامب، والأعداء الذين راكمهم في السنوات الماضية ينتظرون بشغفٍ لحظة سقوطه. البليونير مايكل بلومبرغ، مع أنّه خرج من السباق منذ زمن، فهو سينفّذ وعده بأن ينفق ما كان قد رصده للحملة الانتخابية للمساهمة في إفشال دونالد ترامب. سوف يصرف بلومبرغ ما يقارب المئة مليون دولار على «إعلانات سلبية» ضدّ ترامب، في هذه المرحلة الحاسمة، دفعةً واحدة وفي مكانٍ واحد هو ولاية فلوريدا ــــــ المعبر الإجباري للرئيس، إن أراد تجديد ولايته.
المفارقة هي أنّ ترامب، قبل أقلّ من عام، كان في مكانٍ مختلفٍ تماماً، وفي طريقه إلى فوزٍ شبه أكيد في وسط تخبّط الديموقراطيين وعجزهم عن إنتاج مرشّحٍ أفضل من جو بايدن. كان الاقتصاد في حالة ممتازة، وسوق الأسهم مزدهرة والتشغيل في مستويات قياسية، ولا حروب خارجية جديدة أو ورطاتٍ كارثية، وقد خرج بريئاً من القضايا التي أثارها الديموقراطيون ضدّه على طول عهده. ثمّ جاء الوباء، ولم يعُد أيّ من هذه الأمور مهمّاً. لا أحد يعتمد بشكلٍ أعمى على الاستطلاعات بعد اليوم، ولكن الفارق فيها كبيرٌ بين المرشّحين، حتى أنّ بايدن يتقدّم على ترامب في ولايات في عمق الجنوب، لم تصوّت لمرشّح ديموقراطي منذ أيّام جون كينيدي.
ترامب يختبر، اليوم، القاعدة الأزليّة في انتخابات البيت الأبيض، وهي أنّ الظروف الموضوعيّة التي يمرّ بها الشعب، خلال موسم الانتخابات، أهمّ من أيّ عاملٍ آخر. هذا هو الدرس الذي تعلّمه جيمي كارتر وبوش الأبّ، وقد صُدم العديد ممّن شهدوا سقوط الاتحاد السوفياتي، حين وجدوا الناخب الأميركي يُخرج جورج بوش ــــــ صانع أكبر انتصار لأميركا في تاريخها ـــــــ لصالح مرشّحٍ شاب يحكم ولايةً صغيرة، ولكنّه ساحرٌ وحسن المظهر. المسألة هي أنّه، عند تلك «الأقلية الاستراتيجية» من الناخبين، أي الناخب الوسطي المحتار الذي يقرّر فعلياً نتيجة الانتخابات، لا يهم إن كان بوش قد أسقط الاتحاد السوفياتي أو قتل التنّين، المعادلة عنده بسيطة: إن كان لديه عمل مجزٍ ويشعر بتفاؤل في الفترة الأخيرة، فهو سيتجنّب التغيير أو قد لا يصوّت من الأساس؛ وإن كان عاطلاً عن العمل ويشعر بقلقٍ وخوف، فهو يبحث أصلاً عن سببٍ يلوم عليه ضائقته، وقد يختار وجهاً جديداً يُعرض عليه (توجد أيضاً نقطة تاريخية «تقنية» هنا، كان يكرّرها الباحث الأميركي ستيفن كوهين الذي توفّي أخيراً، وهي أنّ بوش ـــــــ كان يفترض ـــــــ لم «ينتصر» في الحرب الباردة. بل إنّ رفع الستار الحديدي وتوحيد ألمانيا وتفكيك الاتحاد السوفياتي، قد جرى كلّه ضمن توافقٍ بين بوش وغورباتشوف على صيغة لا غالب ولا مغلوب، وأن التنازلات تحصل بالتراضي بين طرفين متساويين. إلّا أنّ بوش الأب، حين واجه انتخابات تجديد الولاية وكان الاقتصاد يعاني، بنى حملته الرئاسية على فكرة «أنا هزمت لكم الاتحاد السوفياتي، لقد سحقنا الشيوعيين». وتلك كانت بداية تملّص الأميركيين من «ضماناتهم» لغورباتشوف وروسيا بعد سقوط الاتحاد).
الأهمّ هو أنّ ترامب، من جهته أيضاً، يستغلّ، هذه الأيام، لتضييق العقوبات على دولٍ مثل الصين وإيران، وهذا يهدف من ناحية إلى «تفخيخ» الملفّات الحساسة في حال فاز بايدن، ما يجعل الانقلاب السريع على سياسات ترامب صعباً، وهو من ناحيةٍ أخرى يخدم ببساطة مصلحةً قومية أميركية، ويضع الإدارة الأميركية المقبلة (بغضّ النظر عن الفائز في الانتخابات) في موقعٍ تفاوضيّ أقوى. إن كانت رئاسة ترامب قد أثبتت شيئاً في السياسة الخارجية، فهي القاعدة القديمة عن استمرارية المصالح بين الإدارات، مهما بدا الرئيس متطرّفاً و«مختلفاً».

حروب السيليكون
يصل ثمن ماكينات «النقش»، وهي مجرّد حلقة واحدة في صناعة أشباه الموصلات، ومهمّتها أن «تحفر» باللايزر مليارات الترانزستورات على سنتيمترات مربعة قليلة من السيليكون، إلى أكثر من مئة مليون دولار للآلة الواحدة. ونماذجها الحديثة تحفر السيليكون عبر عملية تشبه الخيال العلمي، تتضمّن تمرير شعاع الضوء عبر قطرة نحاس ذائبة، لينكسر قبل أن يضرب لوح السيليكون بدقة متناهية (وهذه العملية بأسرها يجب أن تتمّ في حالة الفراغ). هذه الماكينات، وهي لا غنى عنها لصناعة الأجيال الجديدة من معالجات الكمبيوتر والهاتف، تصنعها شركة واحدة حصراً، هولندية، وتبيعها لكلّ من يريد إنشاء مصنعٍ حديث للشرائح الدقيقة حول العالم. والماكينات تحوي، بدورها، عدداً هائلاً من القطع والعدسات والتقنيات والبرامج، تشتريها من عشرات المورّدين. الحصول على هذه التكنولوجيا بشكلٍ ما هو مجرّد نموذج، مثال، عن العقبات التكنولوجية التي يتوجّب على الصين تجاوزها لبناء «شبكة موازية» لها، مستقلّة عن المنظومة الأميركية وعقوباتها وحصارها (صدر في ملحق «رأس المال» هذا الأسبوع مقالٌ يفصّل هذه الجوانب للحرب التجارية).
تحدّثنا، في السابق، عن الطبيعة المعقّدة وشبه الاحتكارية لصناعة الشرائح المتقدّمة وأشباه الموصلات: لا يمكن لشركة واحدة (حتّى ولو كانت بحجم «إنتل») أن تُتقن كامل دورة الإنتاج بنفسها، فهي تحتاج إلى معدّات معقّدة وآلات متخصّصة وبرامج، من المستحيل أن يمتلك كيان واحد ــــــ أو بلد واحد ــــــ إحاطة كاملة بها. أنت تحتاج، إذاً، إلى سلسلة عالمية من المورّدين في قطاعات فائقة التقنية (كتصميم شرائح الكمبيوتر، أو بناء آلات تصنيعها، أو تصميم المصانع نفسها، إلخ)، وفي الوقت ذاته، فإنّ هذه الصناعات هي بالغة التخصّص بطبيعتها، وتستولي على كلّ حلقةٍ فيها، في بعض الحالات، شركةٌ واحدة أو اثنتان لا أكثر. هذا ما جعل قطاع الشرائح الدقيقة، المركزي في عالم اليوم، مرشحاً مثالياً لإقامة حصار تكنولوجي ضد الصين.
أفضل بيانٍ عن السياسة الصينية في المنطقة تعبّر عنه «ورقة السياسة الصينية العربية» التي خرجت عن وزارة الخارجية في أوائل عام 2016


كان المنهج الأميركي في العقوبات ذكياً ومدروساً وتدريجياً. هم لم يضعوا الشركات العالمية في خيارٍ بين التعامل مع أميركا والصين ككلّ، بل هم وضعوها في خيارٍ بين أميركا و«هواوي»، وهو ــــــ بالنسبة إلى أي شركة عابرة للقارات ــــــ خيارٌ سهل. «هواوي» مجرّد زبون، وإن كانت زبوناً كبيراً ومهمّاً، فيما عداء الحكومة الأميركية يجعلك بمثابة «خارج عن القانون» في أغلب أسواق العالم. من ثمّ، بعدما أسّست حالة «هواوي» لسابقة ونهج، انتقلت العقوبات لتستهدف، بالطريقة نفسها، أكثر الشركات الصينية التي تحاول دخول القطاع المتقدّم لأشباه الموصلات (مثل SMIC، النجم الصيني الصاعد في إنتاج أشباه الموصلات، وغيرها)، وأصبح من شبه المؤكّد أنّ هذا «الحصار التكنولوجي» سيتّسع ليشمل كلّ التقنيات الحديثة، بل إنّ أخباراً تقول بأن الإدارة الأميركية تخطّط لوضع عوائق أمام الشركات المالية في الصين التي تُنتج تطبيقات للدفع والخدمات المالية، وأهمّها «انت» التي خرجت من عباءة «علي بابا». حتى نفهم حجم هذه الأدوات المالية وأهميتها: «انت» تريد إدراج أسهمها في البورصة قريباً، والقيمة المتوقّعة لها قد توازي قيمة أكبر مصرفٍ في العالم. هذه التطبيقات التي لا يوجد شبيه لها في بلادنا، أو في الغرب، لا تسهّل الدفع الفوري عبر هاتفك فحسب، بل هي تقدّم أيضاً قروضاً صغيرة وبشكل آلي (فالخوارزمية، هنا، هي أكثر من يعرف وضعك وسلوكك المالي)، وتبني بيانات عن ملاءة المستهلكين، وعدد كبير من الخدمات التي كانت تحتكرها البنوك التقليدية، ويستخدمها أكثر من مليار إنسان في الصين وخارجها (تملك «تينسنت»، إضافة إلى «انت»، تطبيقاً مالياً مشابهاً). هذه الشركات تحاول التوسّع خارج الصين، وبحسب «بلومبرغ»، فإنّ فرض عقوباتٍ على هذا القطاع المالي الصيني الناهض سيشكّل تصعيداً لا يقلّ عن أثر العقوبات التكنولوجية.
هذا «الحصار»، بتعابير أخرى، له هدف واضح في رأس المؤسّسة الأميركية (بجمهورييها وديموقراطييها): إن كانت الصين لم تتعثّر من تلقاء نفسها، ويتجمّد نموّها عند سقفٍ كما توقّع المحلّلون لسنوات طويلة، فإنّنا سنضمن حصول ذلك بوسائلنا. حين تعزل الصين عن القطاع التقني المتقدّم، وتحاول منعها من المنافسة في القطاعات المربحة في الاقتصاد الجديد والتي تولّد القيمة المضافة في عالم اليوم، فإنّ الصين ستعلَق في ما يسميه الاقتصاديون «فخّ الدول متوسطة الدخل»، حيث يصل النموذج التنموي إلى مكاسب أولية أساسية، ولكنّه لا يتمكّن من تجاوزها إلى مرحلة أكثر تقدّماً وتعقيداً، توصل إلى رفع الإنتاجية والدخل بشكلٍ مستمر. هذا الجمود، في ذاته، سيولّد مع الوقت ضغوطاً وأزمات، إذ أنّ حاجات المجتمع وتوقّعاته ستستمرّ بالارتفاع، فيما النمو يتناقص. أو في أفضل الحالات تصبح الصين أسيرة الطلبات الأميركية، فوصولها إلى التقنيات مقنّن وهي تحتاج إلى إذن الغربيين لبيع منتجاتها في الخارج والحصول على «إعفاءات» من العقوبات المتراكمة، تسمح لها بالبيع والشراء. هذه، إجمالاً، هي النظرة التي تتوافق عليها النخبة الأميركية، وتحظى بما يشبه الإجماع في الكونغرس، الاختلاف الوحيد كان حول السبيل إلى تحقيق هذه الأهداف.

انشطار العالم
يمكننا أن نتخيّل الحوار الذي جرى بين دونالد ترامب وبيروقراطيي وزارة الخارجية، حين دخل رئيساً جديداً إلى البيت الأبيض وجاءوا يعرضون عليه خطّة الإدارة السابقة لمواجهة الصين: «نظرية أوباما هي أن ننشئ منظّمة كبيرة جامعة، مثل شراكة المحيط الهادئ، ونضمّ إليها كلّ هذه الدول الحليفة، مثل المكسيك واليابان وأستراليا، وفي المستقبل الفيليبين وإندونيسيا وكوريا، ونعزل الصين تدريجياً عبر محاصرتها بالحلفاء. ننقل إليهم الصناعات التي تختصّ بها الصين حاليّاً، نعطيهم امتيازات التصدير والاستيراد، ويصبح لدينا بديلٌ في وجه بكين ونجبرها على ما نريد من تنازلات». رأي ترامب في المقابل كان: «تريدونني أن أتخلّص من الصين، التي تتكسّب من الاقتصاد الأميركي وتغتني على حسابنا، عبر أن أخلق صيناً جديدة وأعطيها الفرصة ذاتها؟ سوف نحقّق هذه الأهداف وسنحتوي الصّين، ولكن عبر العقوبات، وسنجبر حلفاءنا على مقاطعة الصين حين نشاء، وذلك لأننا نحميهم ونملك سطوةً عليهم ونتحكّم بأرصدة الدولار، وليس عبر رشوتهم وتكرار السيناريو الصيني». حتّى إن خسر ترامب الانتخابات، وجاء بايدن «الوسطي»، فإنّ أميركا لن تتخلّى عن أيٍّ من هذه الأدوات (الحشد والعقوبات)، وسيظلّ سلوك بايدن منحصراً بين هذين الحدّين.
خصّصت مجلة «مونثلي ريفيو» الماركسية عددها هذا الشهر لموضوع الصين (وفي الملف العديد من المواضيع المثيرة حول السياسات الداخلية في الصين واستراتيجية إعادة إحياء الريف والتنمية البيئية)، وفيه بحثُ لمجموعةٍ من الاقتصاديين يفسّر الحرب التجارية بين الصين وأميركا، عبر مفهوم «التبادل اللامتكافئ». مفهوم التبادل اللامتكافئ، باختصار، يقول بأنّ بلدين يصدّران ويستوردان من بعضهما البعض، حتى وإن صدّرا بقيمةٍ متساوية، فإنّ التبادل بينهما قد يكون غير متكافئ. لماذا؟ لأنّ في كلّ سلعة «كمية» من ساعات العمل، وقيمة العمل من النادر أن تكون متساوية بين الدول. في بلدٍ صناعي متقدّم، يكون العامل مشرفاً على آلة ضخمة تنتج آلاف السلع يومياً، بينما في البلد المقابل يكون العامل يخيّط بيديه أو يجمّع قطعاً بسيطة. هنا، تكون «كمية» العمل الموضوعة في سلع الدولة الأولى أقلّ بكثير من مثيلتها في سلع الدولة الفقيرة، حين تتساوى قيمة التجارة بين البلدين، ولهذا السبب يمكن أن يكون دخل العامل الفرنسي ثمانية أضعاف دخل نظيره الهندي، حتى ولو تبادلت الهند وفرنسا مع الخارج بالقيمة نفسها (المفهوم الماركسي يكمل بأنّه، حتى حين تكون الإنتاجية والتكنولوجيا متساوية، سيحصل العمّال في دول الأطراف على حصة من المنتوج أقل من نظرائهم في دول المركز، ولكن هذا نقاش آخر).
الفكرة هي أنّ التبادل بين الصين والغرب ابتدأ بشكلٍ غير متكافئ لصالح الغربيين، حين كانت صادرات الصين تعتمد على العمل اليدوي الكثيف، ولكنّ الاستثمار الداخلي في الصين بدأ بتعديل هذه الكفّة مع الزمن. رفع إنتاجية العامل الصيني بنسبٍ متسارعة (أعلى من النمو الاقتصادي بكثير)، يقول الباحثون، سمح برفع مدخول هذا العامل من غير أن يخسر تنافسيته؛ مشيرين إلى أنّ أكثر من نصف صادرات الصين اليوم ـــــــ من حيث القيمة ـــــــ أصبحت صادرات «عالية التقنية». بحسابات الباحثين في «مونثلي ريفيو»، كانت ساعة العمل الأميركية، بعد عام 1978، تساوي 40 ساعة عمل لمواطن صيني. ولكن هذه النسبة استمرّت بالانخفاض، حتّى وصلت إلى 6.4\1 عام 2018. الحجّة هنا، هي أنّ الصين لا «تسرق» أميركا، كما يزعم ترامب، بل إنّ التبادل بين البلدَين لا يزال لصالح الأميركيين، ولكن حجم الاستفادة من هذا التبادل يتقلّص، وهنا مكمن الاحتجاج الأميركي.
هذه المواجهة ستستمرّ بعد تشرين الثاني/ نوفمبر، وستأخذ شكلاً محدّداً: إمّا «حرب باردة جديدة» كما يفترض الكثيرون، حيث ينشأ نظامان متنافسان في الإنتاج والتجارة والتكنولوجيا، أو شكل مواجهةٍ مباشرة، مع الأميركيين أو عبر حلفاء، والاحتمال الثالث هو أن تنعزل الصين مجدّداً و«تنفصل» عن النظام المالي العالمي، وتعتمد على سوقها والتنمية الداخلية. ولكن، في كلّ هذه الحالات، تكتشف أنّ الأمن ــــــ أي القدرة على الحفاظ على سيادتك وحماية مصالحك ـــــــ يأتي هو في الأساس، ويقرّر كلّ شيءٍ آخر. إن أرادت الصين أن تمدّ شراكات عبر «الحزام والطريق»، مثلاً، وأميركا تهيمن عسكرياً وتخترق مجتمعات هذه الدول ومؤسساتها، فكلّ ما على واشنطن فعله هو إثارة القلاقل وإشعال الحروب وضرب الأنظمة التي لا تتعاون، وهذا أسهل بكثير وأقل كلفة من بناء السدود والجسور والسكك الحديدية.

خاتمة: عن موقعنا في الخريطة
حتى اليوم، فإنّ أفضل بيانٍ عن السياسة الصينية في المنطقة تعبّر عنه «ورقة السياسة الصينية العربية» التي خرجت عن وزارة الخارجية، في أوائل عام 2016 (بالترافق مع توقيعها اتفاق الشراكة مع إيران). ومختصر هذه الوثيقة هو أنّه، في منطقتنا وفي الوقت الحالي، فإنّ الصين لا تدخل في أحلاف. بمعنى أنها قد تتعامل مع سوريا، إن وجد البلدان في ذلك مصلحة مشتركة، ولكن هذا لا يعني أنّها ستقف معها ضد السعودية. الشرق الأوسط ليس منطقة اشتباك بالنسبة إلى الصين، بل منطقة تعاون. شرق آسيا هي منطقة الاشتباك. وحتّى الآن، نجحت الصين بشكلٍ باهرٍ في هذه السياسة، فعلاقاتها ممتازة مع حلفاء أميركا ومع خصومها (التبادل التجاري بين الصين والسعودية أو الإمارات يفوق قيمة التبادل مع إيران مثلاً). ولكن، حين تشتد المواجهة مع الأميركيين وتتحوّل إلى «حرب باردة» (أو تبسط أميركا سيطرتها على الشرق الأوسط) فقد لا يعود هذا السلوك ممكناً.
سؤال الهيمنة والأمن يسير في الاتجاه الآخر أيضاً. لا يمكنك أن تنظر إلى صعود الصين بـ«اتكاليّة»، وتنسج في خيالك علاقة تشبه علاقة الاتحاد السوفياتي بالشيوعيين العرب، فالصين لن تنقذك إن لم تنقذ نفسك، ولن تستفيد منها كفرصة إن كنت لا تمتلك سيادتك وأمنك. في الوقت نفسه، فإن من يتكلّم عن البؤس الاقتصادي في بلادنا، لا يجب أن ينسى أنّ العامل الأساس في مستواك الاقتصادي هو دورك وموقعك في محيطك وفي السوق العالمي، وهذا لا يمكن أن تحصّله إلّا عبر شرط الأمن والسيادة. من الممكن أن نتخيّل، في المستقبل القريب، «طريق حريرٍ» يمرّ عبر بلادنا، ولكن ذلك يحتاج إلى إقليمٍ مستقرٍّ وآمنٍ ومتعاون، من إيران إلى العراق فالشام (وبعدها تركيا وأوروبا). أمّا إن كانت هذه الدول في حالة حربٍ مستمرّة واختراق أميركي وفوضى سياسية، فإنّ هذه الأفكار ستظلّ أوهاماً ونظلّ على هامش الخرائط (والصينيون ليسوا أغبياء لكي يستثمروا المليارات في بلدٍ قد تشعل فيه أميركا غداً حرباً تدمّره). وإن «أُغلق» الطريق البديهي والأقرب بين وسط آسيا والمتوسّط، فقد لا يمانع الصينيون سلوك الطريق البديل الذي يمتدّ من ساحل الخليج عبر الأردن إلى الكيان الصهيوني. مستقبلك حتى في الاقتصاد، وتحديداً في الاقتصاد، ينبني على نتيجة الصراع حول الأرض والسيادة، ويبدأ من أن يُمنح شعبك الأمن والاستقرار، وأن يحرم منه عدوّك.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا