الانهيار الاقتصادي الذي تشهده المنطقة بتأثير العقوبات الأميركية، وخصوصاً في سوريا ولبنان، وفّر أُطراً أوسع للتفكير في الأزمة التي يعيشها البلَدان، ومعهما الإقليم، منذ سنوات. تبيّن في هذه الفترة أنّ الصراع السياسي، وحتى الجيوسياسي في الإقليم، سيكون عرضة لتحوّلات تفضي به في النهاية إلى ما نشهده حالياً من هيمنة كاملة للشأن الاقتصادي على كلّ ما عداه. لا يعود ذلك فحسب إلى استخدام سلاح العقوبات كأداة في الصراع حين تنحسر الأدوات الأخرى (السياسية والعسكرية... وإلخ) أو يَضعُف تأثيرها، بل كذلك لأنّ ثمّة بنية اقتصادية اجتماعية كانت هي الإطار لكلّ ما يحدث، وإن لم يُتح لها في البداية الظهور بمظهر الفاعل المركزي. مع انحسار الصراع العسكري المباشر، وظهور فداحة الأثر الذي خلّفته الحرب (في سوريا والعراق تحديداً) على البيئات التي كانت منخرطة فيها تغيّرت الأولويات، وبدا أنّ الوقت قد حان، حتى قبل حصول التسويات، لإيلاء الشأن الاقتصادي الاجتماعي الذي كان قد تراجع بسبب الحرب الأهمية التي يستحقّها.
سياق اقتصاد العقوبات
المناخ الدولي نفسه ساعَدَ في ذلك، وخصوصاً بعد مجيء إدارة دونالد ترامب بأجندة اقتصادية ليست فقط انكفائية، بل أيضاً تضع هذا الانكفاء المعروف بالحمائية التجارية في إطار بديل عن الصراع الجيوسياسي نفسه. الحرب التجارية المستمرّة مع الصين بهذا المعنى، هي تعبير عن هذا الإطار الجديد للصراع، حيث تتراجع حدّة المواجهة الجيوسياسية مع الخصوم التقليديين، مثل روسيا، لمصلحة تصعيد كبير في التنافس التجاري مع القطب الجديد الذي تعتبر الولايات المتحدة بقيادة ترامب، أنه التهديد الفعلي والوحيد لها، على المدى البعيد. حتى التصعيد مع إيران يندرج في الإطار ذاته، وإن بدا أنه ينتمي إلى السياق الجيوسياسي السابق. الحمائية، هنا، هي بمثابة «فلسفة» كاملة لكلّ ما يصدر عن ترامب وفريقه، ويمكن من خلالها إقامة ترابط بين معظم الخطوات التي أقدمت عليها هذه الإدارة، بما في ذلك سلوكها تجاه إيران. الانعكاس الأبرز لهذا النهج على الإقليم، هو في تشديد العقوبات على كلّ الخصوم، ابتداءً من إيران، مروراً بسوريا، ووصولاً إلى لبنان. حرمان هذه الدول من الوصول إلى أسواق المال الدولية لإجراء عمليات التبادل، هو بمثابة امتداد للحرب التجارية مع الصين، ولكن في إطار أضيق وأقلّ كلفة، كون هذه الاقتصادات لا تملك الثقل الذي يجعلها قادرة على المواجهة وتدفيع الأميركيين الثمن كما تفعل الصين. عدم القدرة على تمويل الاقتصاد بفعل العقوبات، حتى لو كانت الدولة تملك قطاعات إنتاجية قوية كما في حالتي إيران وسوريا، ينعكس مباشرةً على العملة الوطنية، إذ لا تستطيع أسعار الصرف الرسمية الصمود في ظلّ اقتصاد يتراجع باستمرار، ويعجز حتى عن استيراد المواد الأولية اللازمة لعملية الإنتاج. حين يصل نظام العقوبات إلى هذا الحدّ، لا تعود الأزمة الاقتصادية التي يتسبّب بها محصورة في ارتفاع الأسعار أو احتكار السلع كانعكاس لانهيار العملية الوطنية أمام الدولار، بل تتعدّى ذلك إلى حدّ حرمان الناس من الغذاء، بسبب خروج القطاعات المنتِجة لأنواع محدّدة له من السوق إثر انقطاع المواد الأولية واستحالة استيرادها.

أدوات جديدة للمواجهة
إزاء هذا النوع من العقوبات، يتحوّل سؤال الاقتصاد إلى محور أساسي للمواجهة. ففي ميادين الصراع كلّها التي تخوض من خلالها إدارة ترامب حربها الاقتصادية على الإقليم، ثمّة ثغرات كبيرة سمحت لنظام العقوبات الأميركي، ليس فقط بخلخلة بنية هذه الاقتصادات، بل أيضاً بانتزاع مكاسب في السياسة لم تستطع الحرب نفسها انتزاعَها. هنا مثلاً، ورغم المكاسب المتواضعة التي استطاع الأميركيون تحقيقها بالمقارنة مع ما حقّقته روسيا، وبدرجة أقلّ إيران، سمحت طبيعة النظام الاقتصادي الذي يقوم على الملكية الخاصة لقطاعَي الإنتاج والتجارة بازدهار نشاطات المضاربة والاحتكار التي تُعتبر بمثابة ظهير داخلي لنظام العقوبات، على اعتبار أنها تستفيد من الغطاء الذي يمثّله صعود الدولار، لمراكمة أرباح إضافية على حساب أكثرية المقيمين التي تزداد فقراً وحرماناً. في المرحلة التي سبقت الحرب، كانت ثمّة ضوابط على أرباح القطاع الخاص، سواءً في الإنتاج أو في التجارة، وكان إسهامه في الناتج المحلي للبلاد متناسباً مع قدرة السلطة على تحديد أرباحه، بحيث لا تكون على حساب القطاعات العاملة والمتوسّطة، وكان ثمّة هامش حتى للمعارضة لممارسة دور رقابي عليه في مرحلة معيّنة من «الحكم الحالي». ولكن الوجهة عموماً، حتى في تلك المرحلة، كانت باتجاه جعله يقود البلاد اقتصادياً، في تعارضٍ كامل ليس فقط مع التوجّه الاشتراكي السابق، بل أيضاً مع مصلحة الأكثرية التي يتركّز وجودها في بيئات زراعية، وإلى حدٍّ ما، صناعية، تحتاج إلى رعاية كاملة من الدولة. انسحاب القطاع العام من هذه المهمة قبيل الحرب، أوصلنا إلى الانهيار الحالي، وخصوصاً حين اتضح للسلطة إثر استعادتها الملف الاقتصادي، أخيراً، أنّ ثمّة استحالة في منافسة القطاع الخاص تجارياً للحدّ من المضاربة والاحتكار، وتأمين السلع الأساسية للناس بأسعار مقبولة. حين نستعرض هذه التفاصيل، نكون فعلياً في صلب الصراع حول مواجهة نظام العقوبات، لأنّ الأدوات هنا تختلف عنها في السياسة، أو حتى في الصراع العسكري المباشر. وهي إلى ذلك تبدو، إلى حدٍّ كبير، متجاوزةً للانقسامات السابقة، لأنّ الانهيار، سواءً في سوريا أو في لبنان والعراق وسواهما، حين يحصل، لا يستثني هذه الفئة أو تلك ممّن انخرطوا سابقاً في الصراع، بل يطال الجميع، وإن بتفاوت كبير بين طبقة وأخرى.

خاتمة
كلفة الانهيار، بهذا المعنى، هي عنوان المرحلة، والشكل الذي تأخذه يختلف باختلاف طبيعة اقتصاد كلّ بلد تنهار فيه العملة الوطنية، وتظهر فيه آثار العقوبات تبَعاً لمناعة هذا الاقتصاد أو ذاك إزاء الحرب الاقتصادية من عدمها. فإذا كانت البنية الإنتاجية فيه قوية وثمّة اكتفاء ذاتي من المواد الأساسية مثل القمح وسواه تكون الكلفة أقلّ، ولكن ليس بدون آثار كبيرة كما يحصل هنا مع التعثّر المتزايد في عملية الإنتاج. وإذا كان العكس، ولم تكن ثمّة بنية إنتاجية أو اكتفاء ذاتي وكانت الغلبة لعوامل الريع والاستيراد بدون ضوابط تكون الكلفة أكبر بكثير، ويصبح السؤال في هذه الحالة من يدفع الكلفة؟ أو بتعبير أدقّ، من يدفع ثمن الخسائر، وكيف يتم توزيعها؟ وهو السؤال الذي يتمحور حوله الصراع في لبنان منذ تشرين الأول الماضي. حتى لو تسبَّبت الانقسامات السابقة والقديمة في طمس هذا السؤال مع كلّ حدث جديد، فإنه سيعود ليظهر بقوّة، ليس لأنّ الصراع السياسي أو الطائفي أقلّ أهمية وتأثيراً، بل لأنّ شكل المواجهة في الإقليم في مرحلة الحروب التجارية والاقتصادية قد اختلف جذرياً، ومعه الأدوات ذاتُها، وتعريف الأطراف التي تواجه نظام العقوبات لنفسها في سياق الصراع مع الاقتصاد السياسي للترامبية.

* كاتب سوري

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا