كان حدثاً استثنائياً، وفرض مجموعة من الأسئلة المصيرية، برز من بينها سؤالٌ جوهري، وهو: هل سيؤدّي هَول الفاجعة وثقلها إلى توحّد اللبنانيين في ما بينهم وتضامنهم ومغادرتهم لانقساماتهم ونزاعاتهم، وعملهم على معالجة آثار الفاجعة، وتحقيق العدالة، وتحويل الكارثة التي ألمّت بهم إلى فرصة للعمل على إنقاذ وطنهم، وإعادة بناء الدولة؛ أم سيعمد بعض الأفرقاء السياسيين ـــــــ كما درجت العادة ـــــــ إلى توظيف تلك الفاجعة واستغلالها في سبيل تحقيق المكاسب الفئوية، والعمل على غايات سياسية تعمِّق الانقسام الداخلي، وتسبِّب مزيداً من التأزّم، وقد تقضي على أيّ أمل بإنقاذ لبنان، أو وضعه على طريق الخلاص؟لقد كان واضحاً منذ الأيام الأولى لفاجعة بيروت، أنّ حسابات الاستثمار السياسي لدى البعض، قد تغلّبت على أيّ منطق يقتضي الوحدة والتعاون والتضامن حول الوطن ومصلحته في ظروف عصيبة كهذه، ويتطلّب التعالي على الخلافات والحسابات الفئوية الضيقة. لقد طغت الانتهازيّة السياسيّة، وتمظهرت في مجالَين، الأوّل في العداوة السياسيّة، والثاني في طلب المزيد من السلطة.
في المجال الأول عُمل على توجيه الاتّهام إلى المقاومة ـــــــ تلميحاً أو تصريحاً ـــــــ في محاولة لتشويهها، بما ينسجم مع التّوجّه الأميركي ـــــــ الإسرائيلي الهادف إلى إضعافها وحصارها، واستخدام أدوات داخليّة إعلاميّة وسياسيّة لتحقيق ذلك الهدف، حيث لا يتمّ توفير أيّ حدث أو وضع في الداخل اللبناني، إلّا وتعمل تلك الجهات على توظيفه للإساءة إلى المقاومة والإضرار بها. وفي هذا الموضوع، ينبغي القول إنّه لا يوجد أفتك بالوطن ومصلحته وإنقاذه، وأضرّ به، من تسعير الانقسامات بين أبنائه، وزرع الفتنة بين فئاته. وغير صادق من يدّعي الحرص على الوطن، وبناء الدولة؛ وهو لا يكفّ عن خطاب التحريض والفتنة والعداوة، بل حتى العنصرية في بعض الأحيان تجاه مكوّن أو آخر من المكوّنات الوطنية.
أمّا في المجال الثاني، فقد عُمل على توظيف الفاجعة بهدف إعادة تكوين السلطة في مجمل مواقعها، وخصوصاً في مصدرها الأساس ـــــــ أي المجلس النيابي ـــــــ من خلال المطالبة بانتخابات نيابية مبكّرة، وتقصير ولاية المجلس الحالي، والسعي لإفقاد المجلس ميثاقيّته...
وهو ما يحتاج إلى أكثر من نقاش وسؤال، نورده في ما يلي:
1 ـــ ألا يقتضي الدستور الالتزام بمواعيد محدَّدة لإجراء الانتخابات النيابية؟
2 ـــ هل من المبرّر العمل على تقديم أكثر من سابقة في تجاوز تلك المواعيد، بما يؤدّي إلى نوعٍ من التسيّب في انتظام العملية الانتخابية وعمل المؤسّسات؟
3 ـــ هل نملك حاليّاً، وفي هذه الظروف الاقتصادية والماليّة الدقيقة والحسّاسة، من ترف الوقت ما يتيح لنا صرف مجمل الجهد في إعادة تكوين السلطة، أم أنّ هذا الجهد يجب أن يُصرف في أولويّة إنقاذ لبنان اقتصادياً وماليّاً واجتماعيّاً، والمسارعة إليه، للحؤول دون انهياره؟
4 ـــ هل تغيّر بعض الوجوه النيابية، أو حصول تغيير طفيف في الثقل النيابي لهذه الجهة أو تلك؛ هو الذي يُحدث فارقاً جوهريّاً في مشروع الإصلاح ومواجهة الفساد، أم أنّ هذا المشروع يحتاج إلى مقاربة مختلفة لعوامل وأسباب من نوع آخر؟
5 ــ ألا يحتاج هذا الأمر إلى نوعٍ من التوافق السياسي على مبدأ تقصير ولاية المجلس الحالي، وهو ما قد لا يكون متوفّراً حالياً، ما يفضي إلى توفير سببٍ إضافي لزيادة التأزّم السياسي ورفع منسوبه، وهو ما لا يخدم مشروع الإنقاذ الوطني.
6 ــ ألا ينبغي التوافق هنا على قانون انتخابي مختلف عمّا هو موجود حالياً، بما يفضي إلى الدفع نحو إعادة بناء الدولة، ومعالجة مكامِن الخلل فيها، لأنّ تحديد الهدف من الانتخابات يقود إلى تحديد أيّ قانون انتخابي نريد، فإن كان الهدف إعادة بناء السلطة، ليأخذ هذا الطرف أو ذاك حصة إضافية منها، فليتمّ اعتماد القانون الحالي؛ أما إن كان الهدف إعادة بناء الدولة، فليُعمل حينها على اختيار القانون الانتخابي الذي يفضي إلى تلك النتيجة ومواصفاته.
7 ــ بناءً على ما تقدّم، ألا يحتاج الأمر إلى معرفة مكامِن الخلل في النظام القائم، وإلى تعريف الفساد، ومعرفة حدوده ومناشئه، حتّى يمكن وضع رؤية وخطط وبرامج لمعالجة ذاك الخلل ومواجهة الفساد؛ في حين أنّ التأكيد على إعادة تكوين السلطة من خلال انتخابات نيابية مبكرة حصراً، بمعزل عن أية رؤية أو استراتيجية لتحقيق الإصلاح وإعادة بناء الدولة؛ قد يستبطن نوع استغلال سياسي بهدف تعديل موازين القوى الداخلية، والحصول على نصيب أوفر من السلطة. وهو ما سوف يؤدي إلى زيادة الاحتراب السياسي، وتأجيج صراعاته، في وقت أشدّ ما نحتاج فيه إلى مغادرة هذا التأزّم إلى التضامن والتعاون الوطنيين.
إنّ ما ينبغي قوله، هو أنّ الأزمة إن كانت في السلطة حصراً، فهو ما يتطلّب طريقة مقاربة، قد تكون الانتخابات النيابية قطب الرحى فيها. وأما إن كانت الأزمة في النظام اللبناني السياسي والاقتصادي ــــــ بل في الاجتماع اللبناني العام ــــــ فهو ما يحتاج إلى طريقة مقاربة مختلفة، وإلى رؤية علمية هادفة تُعنى بمعالجة مكمَن الخلل في ذاك النظام، حيث قد تكون الانتخابات النيابية إحدى مفرداتها، وواحدة من سبُلها، في حال حصولها بناءً على قانون قادر على التعبير بشكل أفضل عن أي تغيير في اختيارات اللبنانيين وفئاتهم، أي قانون يساعد على تكريس قيم الوحدة والتضامن والتقارب بينهم، ويسهم في إيجاد أسس مناسبة لنموذج من الدولة المدنية ــــــ أي الدولة اللاطائفية ــــــ يتمّ التوافق عليه من قبلهم.
لكن من الواضح هنا، أنّ مشروع الإصلاح بهذا المستوى يتجاوز معطى الانتخابات إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، بحيث يكون البحث عندها منصبّاً على صوغ مشروع قادر على إحداث تغيير جوهري في النظام القائم، بما يؤدّي إلى تحقيق الإصلاح، ومواجهة الفساد، وإعادة بناء الدولة.
بمعنى آخر؛ لو فرضنا أنّ الانتخابات النيابية قد حصلت منذ اليوم، وعادت مجمل تلك القوى السياسية إلى الندوة البرلمانية من دون وجود إرادة جدية وصادقة لدى أغلبها ــــــ بالحدّ الأدنى ــــــ لتحقيق الإصلاح ومواجهة الفساد، ومن دون التوافق على مشروع يفضي إلى إعادة بناء الدولة على أسُس مختلفة؛ ففي هذا الحال لن تقدّم تلك الانتخابات فارقاً في هذا المشروع، حتى لو حصل تغيّر ما في بعض الوجوه النيابية، أو تبدّل ما في الثقل النيابي لهذه الجهة أو تلك.
وفي المقابل، لو فرضنا أنّ مجمل تلك القوى السياسية الممثّلة في المجلس الحالي قد توافقت على تحقيق الإصلاح، وعلى مشروع هادف لبناء الدولة، وحصل لديها نوع إرادة جديّة وصادقة لمعالجة أكثر من خلل في النظام القائم؛ فسوف يتحقّق عندها مستوى أو آخر من ذلك الإصلاح، وذاك المشروع، حتى لو لم تحصل تلك الانتخابات المبكرة، لأنّ الأمر مرهون ـــــــ بشكل أساس ـــــــ بإرادة تلك القوى السياسية المؤثّرة في المجلس النيابي، ومدى جدّيتها وصدقيّتها في ذلك، لأنّ مؤديات ذلك المجلس ونتاجه إنما هو في الواقع حصيلة الإرادة السياسية وغير السياسية لتلك القوى، أو لمجملها والغالب منها.
8 ـــ أمّا الحديث عن ظرف استثنائي، فيمكن مناقشته بما يلي:
أوّلاً: إنّ ما يقتضيه هذا الظرف هو العمل سريعاً على منع انهيار الدولة، وليس إطلاق العملية الانتخابية بهدف تعديل بعضٍ من الثقل النيابي لهذه الجهة أو تلك.
ثانياً: قد يقتضي الظرف الاستثنائي إعادة تكوين السلطة، بناءً على مشروعية شعبية مختلفة بشكل فارق؛ لكن عندما يكون الاجتماع السياسي المراد إجراء الانتخابات المبكّرة فيه اجتماعاً طائفياً ومذهبياً بالدرجة الأولى ـــــــ كالاجتماع اللبناني ـــــــ فهو ما سوف يؤدّي إلى إنتاج مجلس مستنسخ عن سابقه، أو مشابه له إلى حدٍّ بعيد. والانتخابات النيابية المتكرّرة خير شاهد على هذا الأمر. إلّا إذا عُمل على تغيير القانون الانتخابي، إذ إنّ ما يُحدث الفارق بشكل أساس في النتيجة الانتخابية هو طبيعة هذا القانون، أكثر مما يُحدثه تغيّر أو آخر في المزاج الشعبي لهذا المجتمع أو ذاك. وهو ما يتطلّب الاتفاق مسبقاً على هذا القانون وعلى وظيفته والهدف منه، ليكون أشدّ عدالة وتعبيراً عن أوسع تمثيل شعبي ممكن في لبنان، وليفسح المجال أمام قوى جديدة أو قديمة يحرمها القانون الحالي من أن تُمثّل في الندوة البرلمانية، وليكون قادراً على الإسهام في معالجة مكامِن الخلل في النظام القائم، بل في الاجتماع اللبناني العام، وليكون له دوره المؤثّر في إعادة بناء الدولة.
* أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا