البديهيات المتعارف عليها في عالم السياسة والأفعال وردود الأفعال، في كلّ دول العالم تقريباً، هي غيرها في لبنان. تصبح الفجوة هائلة حين يتعلّق الأمر بمقارنة الوضع اللبناني بوضع بلدان يتغنّى كثيرون من أهل السلطة خصوصاً، بأنّهم ينتمون إليها أو يتشبّهون بها. يعاني لبنان، الدولة والشعب والنظام السياسي، من أزمة شاملة وجذرية ومدمّرة. يفترض ذلك بشكل عفوي، طبيعي ومنطقي، البحث في الأسباب الفعلية، بعمق وبمسؤولية وموضوعية، ومن ثم محاولة استخلاص النتائج الضرورية، من أجل المعالجة التي تستجيب للأساسي من المصالح الوطنية والشعبية، في الحقول المعنيّة الأساسية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والتربوية...لا يحصل ذلك، رغم تناسل الأزمات وتتابع الكوارث وآخرها كارثة الانفجار الرهيب ــــــ الفضيحة في مرفأ بيروت، ورغم أن الآتي من الكوارث والمصائب والخسائر قد يكون أفدح وأدهى! الذي يحصل هو، وعلى صعيد كلّ أطراف السلطة تقريباً، مراوحة في اجترار وعلك المواقف والتوجّهات السابقة. يقترن ذلك بمقدار، يقلُّ أو يكثر، من المناورة والشطارة ومحاولة الضحك على الذقون. تُراوح استنتاجات الجميع، دائماً وأبداً، في نطاق «الصيغة» القائمة: صيغة المحاصصة الطائفية والمذهبية وما أنتجته: الدويلات، والنهب، وعدم المحاسبة، وانتهاك الدستور والقوانين والسيادة... وما يؤدّي إليه ذلك من الانقسامات وتعطيل المؤسّسات وازدهار الممارسات الميليشياوية... إلى التبعية للخارج والارتهان له، من أجل الحفاظ على المكاسب أو الحصول عليها.
في مجرى ذلك، يتركّز جهد أطراف السلطة الموزّعين بين الموالاة و«المعارضة»، على استغلال كلّ صغيرة وكبيرة (ولو كانت بحجم كارثة عظيمة)، من أجل تحقيق مكاسب من ضمن منافسة مغلقة ومستأثِرة. جُل هذه المكاسب يتركّز في تعزيز النفوذ السياسي، وفي الكسب غير المشروع الذي هو، عموماً، أشبه بسرقة موصوفة ووقحة، يحميها التضامن «المهني»، وتبرّرها سياسة التقاسم ذات القناع الطائفي والمذهبي، وتكرّسها وتعزّزها التبعية للخارج.
أبرز ما يندرج في هذا النطاق، ما يعتبره رئيس الجمهورية توحيد مركز القرار (على غرار ما كان قائماً قبل عام 1975 ضمناً). المقصود استعادة صلاحيات رئاسة الجمهورية وإلغاء إصلاحات «الطائف» التي ظلّت معطَّلة طيلة ثلاثة عقود، ليتحوّل «الإصلاح والتغيير» «العونيان» إلى مجرّد استعادة غلبة طائفية زالت كل مبرّراتها: كغلبة سياسية واقتصادية، وكدور خارجي (الانتداب الفرنسي)، وكأساس طائفي (زوال الحصرية المارونية الدرزية بقيام «لبنان الكبير» عام 1920). ثم، بالطابع الفئوي والاستئثاري لممارسة هذه الغلبة، فضلاً عن تحوّلات السياسة في المنطقة والعالم، وتحوّلات الاقتصاد والمصالح... وأخيراً التحوّلات الديموغرافية المتواصلة والمُختلّة على نحو مطرد...
في النطاق نفسه، مع هامش أوسع في المناورة، تصدر دعوات لتطبيق الدستور. هي دعوات أُطلقت، دائماً، للتخويف والابتزاز وليس لسلوك طريق احترام الدستور والالتزام بواجب تطبيقه. وهي، بالتالي، كانت تتبخّر وتزول عندما تحقّق غرضها في تبادل الصفقات أو الصفعات، أو توزيع المغانم أو إعادة تقاسمها... ينطبق ذلك على دعوة كلّ من الرئيس نبيه بري (رئيس المجلس)، ورئيس الحزب التقدمي وليد جنبلاط اللذين طالبا، أخيراً، (لأول مرة بالنسبة لجنبلاط)، بقانون انتخاب غير طائفي!
ثمة، في الخانة نفسها، مَن هم ساكتون لا يعنيهم الإصلاح من قريب أو بعيد، حتى من قبيل المناورة وتحقيق المكاسب. بين هؤلاء وسواهم، يقف فريق المقاومة على رأس الجبل يراقب التوازنات: قلِقاً، بشكل لم يعُد مبرراً، من كل تغيير جدي، سياسي واقتصادي وحتى إداري، لمصلحة الأكثرية الشعبية. هاجس الأولوية والحماية حوّله إلى فريق حارس للأسس والتوازنات التقليدية، فيما هو، في حقل المقاومة ضد العدو الصهيوني وحماته، يخوض صراعاً جذرياً بل ثورياً بكلّ معنى الكلمة! وهو يتحمّل، من أجل النهوض به وتأمين استمراريته، كلّ الصعوبات والتضحيات والعقوبات...
طبعاً، تندرج، في هذا السياق من المراوحة في نطاق الحفاظ على صيغة المحاصصة الطائفية، رغم بعض التمويهات، كلّ التدخّلات الخارجية، العربية والدولية وما يواكبها من تأييد قوى وجماعات، لا تتورّع، دعماً لتدويل كامل للأزمة، عن رفع شعار استدعاء التدخّل الخارجي لإنقاذ لبنان. لا تخرج المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون، في حديثه الملتبس، عن ضرورة العبور إلى «نظام جديد» عن السياق المشار إليه. لم يأتِ الرئيس الفرنسي ليعتذر من الشعب اللبناني عن دور سلطات بلاده المنتدبة في فرض المحاصصة الطائفية في لبنان، بل لترقيع الوضع الكوارثي الذي سببته، والعودة للاحتفال بإنجاز مزعوم لم ترتضِه فرنسا لنفسها حين اختارت النظام العلماني الأكثر جذرية في العالم!
هكذا، ليس في جعبة أطراف السلطة، الأساسيين وغير الأساسيين، ما يمكن أن يشكّل ردّاً ملائماً يرتقي إلى حجم الكارثة التي ضربت لبنان ولا تزال تهدّد بالمزيد من الخسائر التي قد تصيب الكيان اللبناني نفسه: في وحدته وشروط بقائه السياسية والاقتصادية والأمنية... حتى دعوات، مثل تلك التي صدرت عن مسؤولي حزب الله، بحذر وبخفر، كعقد «مؤتمر تأسيسي» لمعالجة الأزمات اللبنانية، قد جرى التعامل معها بوصفها محاولة لإعادة النظر بـ«المناصفة» الطائفية المؤقتة في الدستور، لمصلحة «المثالثة» بحيث يصبح التمثيل في المؤسسات السياسية والإدارية وفق معادلة الثلثين للمسلمين والثلث للمسيحيين!
هذا بالإضافة إلى أنه في الخارج، الأميركي الغربي خصوصاً، ثمة أولوية لا علاقة لها بمعالجة الأزمات والكوارث، إنما بدعم مشروع الاغتصاب والتوسّع الصهيوني: إمعاناً في الاعتداء على حقوق شعب فلسطين، وبغرض الهيمنة على المنطقة. سلاح المقاومة هو العنوان المحوري في ذلك، وبسببه تفرض العقوبات أو تعرض الرشاوى والمساعدات!
لا يناقِش أي متابع موضوعي ومسؤول في أنّ حجم الأزمة قد كشف فشل وانهيار وإجرام النظام السياسي وصيغته التحاصصية الطائفية، وليس فقط مسؤوليته عن والخسائر والنكبات والأزمات. هذا استنتاج هو أساس كلّ تناول صحيح وسليم ينطلق من الحقيقة والواقع، وكذلك من المصالح الوطنية اللبنانية. السهام ينبغي أن توجه إلى صيغة النهب بالمحاصصة الطائفية للتخلّص منها لمصلحة بديل مدني يزيح فطريات الدويلات الميليشياوية والتابعة والتي منعت قيام وطن ودولة. ذلك هو أساس البرنامج الوطني، ومن أجل بلورته في مشروع وصيغة، ينبغي أن تُبذل كل الجهود وتُشتق كل المبادرات...
كل نقاش لا يبدأ من هنا، خاطئ أو مغرض، إذا لم يكن سيء المقصد ومشبوهاً!
* كاتب وسياسي لبناني

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا