الذي عاش عقوداً في لبنان، أو عاشها خارجه، يذكر أنّ لبنان كثيراً ما يلتصق بصفة المحنة أو الأزمة أو المعاناة. لم يمرّ عيدٌ منذ طفولتي، إلّا ويطلع غسان تويني أو غيره باستشهاد بليد عن المتنّبي، «عيد بأية حالٍ عدتَ، يا عيدُ». نغّصوا علينا الأعياد حتى قبل اندلاع الحرب. فصحافة ما قبل الحرب كانت أيضاً تعجّ بالشكوى والأنين، لكنّ معظمها لم يكن يحمل شكاوى الناس، بل شكاوى زعماء الطوائف والسفارات. صحيح أنّ لبنان عانى قبل الحرب الأهليّة، لكنّ معاناته لا تُقاس مثلاً بمعاناة شعب فلسطين. وكانت المبالغة في تصوير المعاناة من ضرورات المنافسة الطائفيّة. بيار الجميّل كان يتحدّث دائماً عن «خوف المسيحيّين»، فيما كانت ميلشياه تشكّلُ أكبر تنظيم لبناني مسلّح، ويتلقّى المعونة والتمويل من إسرائيل ودول الغرب ودول الرجعيّة العربيّة. أي أنّ المُسلّح كان يريدنا أن نقتنع أنه بجرائمه وقتله كان خائفاً، وأنّ قتله وجرائمه تهدف إلى تبديد الخوف، وأنّ على ضحايا قتلِه الاطمئنان لأنّ القاتل خائف. طبعاً، كلمة خوف عنده أو عند كميل شمعون أو عند البطريرك صفير، تعبّر عن خوفٍ حقيقيٍّ (طائفي) من تغيير ديموغرافي في لبنان، لصالح المسلمين. لا يختلف الخوف الطائفي هذا، عن خوف البيض في أميركا من تنامي أعداد الملوَّنين: أي خوف أقليّة تخشى من فقدان حظوتها، وهي التي لا تزال تمسك بمقدّرات الأمور وتؤمن إيماناً عميقاً بعقيدة تفوّق عرقي (في أميركا) أو طائفي (في لبنان).

وهذا العامل زرع في لبنان توتّراً دائماً، حتى أنّ دبلوماسيّاً أميركيّاً (عرفته طالباً في الجامعة) كان يقول لي ـــــــ وعن حقّ ـــــــ إنه تعلّم عن لبنان الكفاية، إلى درجة أنّه يعرف أنه عندما يتحدّث إعلام الغرب أو إعلام لبنان، عن خوف من اندلاع حرب أهليّة، فإنّ ذلك لا يكون إلا دخولَ لبنان في عتبة الحرب الأهليّة. لكنّ لبنان لم يكن يوماً، منذ تأسيسه، بعيداً عن عتبة الحرب الأهليّة. لا بل إنّ الوقوف على حافة الهاوية، أو على عتبة الحرب الأهليّة، بات من ضرورات التفاوض الطائفي بين المجموعات لتحسين المواقع ونيل الحصص. لكنّ التهديد السهل بالحرب الأهليّة، كأسلوب تفاوضي، لم يعد كما كان. اختلّت موازين القوى كثيراً بين الأحزاب والطوائف، عندما برز حزبٌ أذلّ إسرائيل على أرض المعركة. لم يعد هناك من طريق للتخويف من قِبل خصومه. هذا لا يعني أنّ النزاع العسكري لم يعد خياراً، لكنّ الحزب الأقوى لا يريده ــــــ على الأقل لم يرِده منذ نهاية الحرب، وهو عمل على مقاومة الجرّ إليه منذ عام ٢٠٠٠، بالرغم من محاولات كثيرة. مشهد ٧ أيّار/ مايو (الذي تحوّل في المخيّلة المناهضة للحزب إلى ملحمة عسكرية تفوق في تراجيديّتها نكبة فلسطين)، لكنّ محاولة إشعال حرب في ذلك اليوم، وبتشجيع سعودي ــــــ إسرائيلي أكيد وبموافقة أميركيّة، باءت بالفشل الذريع، لأنّ أرض المعركة توضّحت بعد نحو ساعة. خللٌ كبير حلّ في موازين القوى، والسمعة التاريخيّة للمقاتلين الجنبلاطيّين تبخّرت على الفور إلى غير رجعة. وكان خيار إشعال الحرب، من مضاعفات حرب تمّوز. أدرك التحالف الأميركي ــــــ الإسرائيلي ــــــــ السعودي، أنّ ثلاثة وثلاثين يوماً لم تفعل فعلها في هزيمة حزب الله أو في إضعافه، فيما كانت ساعاتٌ تكفي لهزيمة ثلاثة جيوش عربيّة في آن.
محاولات إسرائيل مع أعوانها في لبنان لم تتوقّف منذ عام ٢٠٠٦، ولقد ساهم فيها الخلل السياسي بين الفريقَيْن المتنازعَيْن. فريق ١٤ آذار بالرغم من صراع الأجنحة والحزازات الشخصيّة في صفوفه بقي متراصّاً، واستمرّ في الوجود حتى بعد فكّ عقده الرسمي، لا بل إنّ هذا الفريق (بعقيدته وشعاراته وأهدافه) انتشر بين الشباب اللبناني، وهو يستحوذ على قطاع لا يُستهان به في الحراك الشبابي اللبناني. والكثير من اليسار اللبناني ـــــــ بالإضافة إلى تنظيم اليسار الديموقراطي المنحل ـــــــ متأثّر بـ١٤ آذار وبشعاراته وثقافته السياسيّة، وبعدائه الشديد لمشروع مقاومة إسرائيل. ويتلاقى في العداء لمشروع مقاومة إسرائيل، ورثة اليميني الانعزالي الطائفي (الذي بات سامي الجميّل يحمل لواءه بسبب غياب القيادة الفاعلة في «القوات اللبنانيّة» وبالرغم من صغر حجم حزب الكتائب)، مع يسار يقاوم مشروع مقاومة إسرائيل الحالي، بإحياء ذكرى مقاومة يساريّة لم تعد موجودة ـــــــ وهي لم تعد موجودة منذ أوائل التسعينيّات. أي إنّهم يروّجون للحنين كبديل لمشروع مقاومة إسرائيل الحالي.
أمّا في جانب ٨ آذار، فمشروع التكتّل وُلدَ ميتاً منذ التأسيس. نبيه برّي كان ولا يزال أقرب إلى ١٤ آذار منه إلى ٨ آذار، مع حاجته إلى التحالف مع حزب الله، لأنّ سنوات الخلاف والصراع أفادت في نتائجها حزب الله الذي كان في التسعينيّات يحقّق مكاسب انتخابيّة كبيرة. ولولا التدخّل المباشر من المخابرات السوريّة ــــــــ التي كانت تفرض بالقوّة على الحزب التحالف مع حركة «أمل» مخافة ظهور ضمورها آنذاك ــــــــ لكان الحزب حقّق شبه احتكار للتمثيل الشيعي، خصوصاً في الجنوب (لم يعد الأمر كما كانت عليه بالأمس، فالحزب والحركة باتا شخصاً انتخابياً واحداً يعزّز من شعبيّة طرفَيْن من خلال إبراز الانصهار الانتخابي بينهما). برّي كان في صلب ٨ آذار، فيما كان ينقذ ١٤ آذار في كلّ محطاته، لا بل هو بات المُصلح بين أبرز قوى ١٤ آذار، عندما تختلف (وهو يُصلح أيضاً بين قوى ٨ و ١٤ آذار). كان برّي يخوض الانتخابات النيابيّة على قوائم ٨ آذار، فيما هو يُضمر تمني نجاح ١٤ آذار، وقد ظهر ذلك جلياً في آخر الانتخابات، عندما دبّرَ أمر فوز مروان حمادة (بتزوير أكيد) على حساب حلفائه الدروز في ٨ آذار. أمّا سليمان فرنجيّة، فلا يرضى عن سعد الحريري بديلاً بعد اليوم، وفرنجيّة هو المؤتمن من النظام السوري على الخط. وإذا كانت ١٤ آذار هي عماد النظام السياسي الفاسد الذي برز بعد «الطائف»، فإن برّي (وفرنجيّة أخيراً) بات حارسه الأقوى. هذه لا يعني أنّ ٨ آذار شكّلت معارضة حقيقيّة للنظام، لأنّها بمعظم فصائلها دخلته، مباشرة أو بطرق غير مباشرة، عبر حلفاء. وحزب الله اختار لنفسه الوقوع في فخّ دخول النظام السياسي، من دون تحقيق أيّ مكسب غير نيل شرعيّة سياسيّة شكليّة أمام الدول الأجنبيّة، وعلى حساب شعبيّة الحزب الذي ـــــــ ليس فقط بسبب فساد حلفائه ـــــــ لم يحسن البتّة تمييز نفسه عن باقي رموز السلطة الفاسدة. كان المرغوب تسيير الأمور كي لا تقع الواقعة، ولو كان ذلك على حساب الطبقات الشعبيّة، التي لم يستطع الحزب بعد توضيح موقفه منها: هو مع صندوق النقد لكن بتحفّظ، هو مع الحفاظ على الثروات الوطنيّة لكن يتحمّس للخصخصة، هو يريد محاربة الفساد لكن لم يعثر بعد على فاسدين شيعة، ثم يتعجّب عندما تصدر ردّة فعل طائفيّة منظّمة كلّما ذُكرَ فساد السنيورة. وإذا كان نبيه برّي يضع قدماً في ٨ آذار وقدمَيْن في ١٤ آذار، فإنّ الحزب يُلقي بثقله في الخيار الرأسمالي، ويكتفي من الاشتراكيّة بشعارات السياسة الدولية للدول الاشتراكيّة أو اليسار الغربي. الحزب تطوَّع منذ انتفاضة تشرين لحماية النظام، وإعادة تشكيل الطبقة الحاكمة (حتى الساعة، لا يطالب حزب الله بعزل أو محاكمة السنيورة، أو محاكمة رئيس المحكمة العسكريّة الذي أطلق سراح المجرم عامر الفاخوري، لأنّه يخشى أن تؤدّي المحاكمات إلى زعزعة بنيان هذا النظام العزيز).

محاولات إسرائيل مع أعوانها في لبنان لم تتوقّف منذ عام ٢٠٠٦ ولقد ساهم فيها الخلل السياسي بين الفريقَيْن المتنازعَيْن


وفي هذا السياق الشديد التوتّر، اندلعت الانتفاضة اللبنانيّة. وفي هذا السياق غير المحسوم، وقعت واقعة الـ«كورونا»، وتلتها قبل أيّام فاجعة انفجار مرفأ بيروت. المؤمنون بيقين ديني بـ«المكتوب» يسهل عليهم تقبّل الفواجع، أو يسهل عليهم تفسيرها. أما الخارجون عن الإيمان الغيبي، فيمكن لهم ـــــــ لو أرادوا الإيمان بالحظ، وهذا يمكن أن يستبدل الإيمان الغيبي الديني بالإيمان الغيبي الوثني، جعل الحياة الدنيا لعبة نرد، ترمي فتفوز أو تخسر. أو يمكن التعامل مع النكبات السياسيّة بطريقة التلميذ الذي يلوم حظّه مع المعلّم أو المعلّمة كي يبرّر لأهله أسباب رسوبه. علقَ في ذهني بيان حركة «فتح»، في عام ١٩٧٠، عن وفاة عبد الناصر، إذ قال: «حظّكِ عاثر، يا فلسطين»، أي أنّ العدوّ الإسرائيلي فاز بورقة اليانصيب الرابحة. والمفارقة، أنّ حركة «فتح» كانت تخوّن عبد الناصر، قبل أيّام فقط من وفاته، بسبب مبادرة روجرز (والتي كانت حركة المقاومة محقّة في رفضها، مع أنها عادت وقبلت بأسوأ منها بكثير).
يمكن لمُشاهد أهوال لبنان المتوالية، لوم الحظّ أو تقبُّل مشيئة الله، التي لم يشرح لي أحد أسباب قبولها بالظلم الذي حلَّ بشعب فلسطين المسالم عبر العصور. فبعد انهيار الاقتصاد اللبناني، نشبت جائحة «كورونا»، وانتشرت وكأنها تقصّدت استهداف لبنان بالذات لتزيد آلامه آلاماً. لكنّ التعويل على التفسيرات الدراميّة، أو الميلودراميّة، لأهوال لبنان، ينفي عن شعبه عامل التقرير ويخفي عنه دور المتدخّلين الخارجيّين في شؤونه. فيصبح لبنان عرضةً لمؤامرة وحيدة من طرفٍ واحد، يصدف أنه الطرف الذي يشكّل هدف الحرب الإقليميّة والعالميّة ضدّه، بحجّة محاربة الإرهاب ـــــــ لكن بالتعريف الإسرائيلي دائماً وأبداً.
لكنّ الانفجار، أو التفجير، لا يمكن عزله عن مسار النظام اللبناني وفساده العارم، وعن مسار المؤامرات التي تشكِّل عنصراً عضويّاً فيه. لا يمكن التعامل مع فريق ١٤ آذار، على أنّه منفصل عن المؤامرات التي سبقت حرب تمّوز، ثم تزخّمت بعده ــــــ بحجّة السيادة من أعداء مشروع مقاومة احتلال إسرائيل، حيث لم يعد الاحتلال خرقاً للسيادة. على العكس، تزدهر في لبنان، الآن، حملة استجداء للاستعمار (لنا عودة إليها). كارمن لبّس (ذات الخلفيّة اليساريّة ـــــــ والخلفيّة اليساريّة في بلد مثل لبنان لم تعد تعني شيئاً باستثناء إلباس المواقف اليمينيّة الرجعيّة الحالية لباساً تقدّمياً بحكم تاريخٍ قديمٍ للفرد في عبور يساري ـــــــ كم استمرّت عضويّة سمير فرنجية في منظمة العمل الشيوعي، وكم استمرّ نشاطه في محاور يمينيّة مختلفة، وهل التصقت الصفة اليساريّة فيه إلا بهدف خدمة اليمين؟)؛ ونشط الشباب اللبناني في تدبيج عريضة نالت توقيعات بالآلاف، للمطالبة بعودة الاستعمار الفرنسي (وقد نالت العريضة استحسان وسائل الإعلام الغربيّة التي يدغدغ غرورها استزلام الكثير في لبنان للرجل الأبيض). واللبناني يحبّ الفرادة، لأنّ الفرادة ـــــــ في العقلية الانعزاليّة التقليدية التي باتت تسيطر على الثقافة السياسيّة اللبنانيّة ـــــــ لا تعني إلا تمييز لبنان عن محيطه العربي. اللبناني يريد الفرادة، لأنّه يستبطن عقليّة تفوّق العنصر الأبيض، وهو يثبت ولاءه لها عبر: ١) تقرّبه من الرجل الأبيض، خصوصاً ذوي النفوذ منهم. يكفي أن تقرأ تعليقات الشباب اللبناني على كل كلمة تصدر عن سفير دولة غربيّة في بيروت على «تويتر». ٢) عبر التمايز عن الثقافة والسياسة (الشعبيّة) العربيّة. ٣) عبر التقرّب من الموقف الصهيوني في الصراع العربي ـــــــ الإسرائيلي (هذه هي حقيقة عقيدة فؤاد شهاب العسكريّة). وكان لبنان حريصاً، في عام ١٩٤٨، على ترك الجيوش العربيّة تقوم بمهامها بناء على خطة ــــــ فاشلة حكماً ـــــــ فيما هو يتنصّل من المهام المُلقاة عليه، ويتمنّع عن الالتزام بتعهّداته. أكثر من ذلك، الرئيس اللبناني المطلق الصلاحية في لبنان ما قبل الحرب، كان يحرص بالتعاون مع أميركا، على منع أيّ تسليح جدّي للجيش بمواجهة إسرائيل. أي أنّ ما فعله الياس المرّ وغيره، في السنوات الماضية، كان منسجماً مع الدور اللبناني التاريخي المتواطئ مع مصلحة إسرائيل. ٤) عبر استيراد كمٍّ هائل من عنصريّات الرجل الأبيض نحو ذوي البشرة الداكنة، والمزايدة في كنّ الاحتقار لهم. ٥) استبطان معايير ومقاييس دول الغرب، التي لا تزال تبني سياساتها على أحكامٍ عنصريّة. تصوّروا ردود دول الغرب على انفجار هائل من نوع انفجار بيروت، لو كان قد حدث في تل أبيب. حكومة كلينتون عقدت مؤتمر قمة جمعت فيه عرَباً لإدانة تفجيرٍ ضد إسرائيل. لو أنّ التفجير وقع في تل أبيب، لكان الكونغرس الأميركي أمر بصرف مليارات الدولارات لعون إسرائيل (الحكومة الكندية لم تستحِ من إعلان مدّ لبنان بمساعدة بقيمة ٥ ملايين دولار، أي أقل ممّا يُنفقه أمير نفطي على مائدة قمار في ليلة واحدة). وزيارة ماكرون، كانت مثل زيارة السادات في عزّ أزمة «ووترغيت»: زعيم غربي يأتي إلى الشرق كي يستمتع بتعاطف وهتافات يفتقر إليها في بلاده ــــــ وقد لاحظت صحافة فرنسا ذلك. لكنّ هؤلاء اللبنانيّين أضافوا عنصراً جديداً إلى قائمة تقمّصهم المبتذل للرجل الأبيض: باتوا يتقرّبون من الصهيونيّة ويبرّؤون ساحتها. وكما أنّ التحالف مع إسرائيل (من قبل الكتائب وأنور السادات) بدأ بصيغة «هؤلاء العرب هم أسوأ من إسرائيل»، فإنّ هذا الخطاب تسلَّلَ إلى الخطاب الشبابي اللبناني ويطرح تساؤلات: ماذا تفيد المقارنة مع إسرائيل، في غير تحسين صورة إسرائيل وتجميلها أمام العرب؟ خطاب معارضة طغاة الخليج الذين استولوا على مشروع معارضة النظام السوري ــــــ ومعارضة النظام السوري حقّ وواجب على الأحرار ـــــــ أدّى إلى تقرُّبٍ من إسرائيل وتسديد خدمات لمشروعها الدعائي. قسم سوريا في صحيفة النظام السعودي «الشرق الأوسط»، وصحيفة النظام القطري «القدس العربي»، يكاد يكون نسخة مُترجمة عن الصحف العبريّة، وبالمعايير الصهيونيّة نفسها، وبحماس وابتهاج بالقصف الإسرائيلي، عندما يحدث («القدس العربي» تستثني فقط غزة من مناطق حماسها للقصف الإسرائيلي).
لبنان يعاني من نظامٍ فاسدٍ يتشارك فيه الزعماء الطائفيّون، ورجال الدين ــــــــ ورجال الدين كانوا منذ التأسيس في عهد الاستعمار، من عماد النظام الطائفي ومن مُشكّلي ثقافته المهيمنة، وكانوا أيضاً من الفاعلين في تأجيج الحروب الأهليّة متى دعت الحاجة، ولعلّ البطريرك الراعي يستدعي هذا الدور التاريخي، في دعوته المشبوهة والخطيرة إلى «الحياد» ــــــــ الفساد والمحاصصة. وانفجار المرفأ، هو النتيجة الطبيعيّة لنظام الفساد والمحاصصة. المحاصصة تعني الاستنجاد بأقرب المنال من الطائفة، بينما الكفاءة إن وجدت تصبح عائقاً، وإن انعدمت تفيد لأنّ ذلك يسهِّل تمرير قرارات الطائفة المنصورة. وزراء جبران باسيل خير دليل: هم أكفأ في الاختصاص والشهادات من معظم وزراء حركة «أمل» مثلاً، لكنّ كفاءتهم لا تفيد، لأنّ الغرض تمرير مشاريع الزعيم. وهكذا، بدلاً من أن يُحدِث منصور بطيش تغييراً جذريّاً في عمل وزارة الاقتصاد، انجرّ إلى حروب باسيل ضدّ العمّال السوريّين في لبنان.
تصعب الكتابة عن الانفجار، عندما لا تكون قد أفقتَ من صدمته، لكنّك تتيقّن أنّ هذا النظام، بحكومة حسان دياب أو من دونها، يعجز عن المحاسبة والتحقيق. وينسيك هول الصدمة والانشغال بالتغطية، أنّ تعداد الضحايا عمليّة مستمرّة، وأنّ رفع الأنقاض سيستمرّ لأسابيع، وأنّ كلّ يوم سيحمل معه حكاية مأساة جديدة. تكبر المأساة في ذهنك، فقط عندما تكون الضحيّة شخصاً تعرفه، ولكلّ ضحيّة شخصٌ يعرفها ويحبّها أو تحبّه. حكومة حسان دياب فشلت في اليوم الأول: لم يتم اعتقال أيّ شخص حتى الساعة، باستثناء عمّال تلحيم فقراء. الكلام عن فرض إقامة جبريّة من قِبل الجيش على مسؤولين، كان نكتة ضحكَ لها بدري ضاهر. وبدري ضاهر، يمثّل طائفة ومعسكراً، وحسن قريطم يمثّل طائفة ومعسكراً، معاقبة واحد ستسجلب غضب الطائفة، الديني والدنيوي، وسينبري رئيس السلطة الدينيّة في الطائفة ليشكّل حماية فعّالة للفاسد (تماماً كما فعل البطريرك الحيادي، الراعي، بالنسبة إلى رياض سلامة: لم يكن الراعي حيادياً إزاء فساد سلامة، بل كان متعاطفاً ومُحبِّذاً وداعماً). ولم يجرؤ الإعلام، ولا حكومة حسان دياب ـــــــ الساقطة ـــــــ ولا الشباب الهائج على مواقع التواصل، على المطالبة بالحدّ الأدنى من الإجراء البديهي: عزل وسجن مدير مخابرات الجيش، ووضعه (مع قريطم وضاهر) على ذمّة التحقيق. مخابرات الجيش كانت المسؤولة الأولى (قبل مدير الجمارك ومدير المرفأ ـــــــ على فسادهما)، عن أمن وسلامة المرفأ والمنطقة المحيطة به. ليس هناك من مطلب واحد بمعاقبة مدير المخابرات. مدير المخابرات الحالي عزيز، وإن بدرجة أقلّ من سلامة، على قلب الإدارة الأميركيّة. والمسّ بالعزيزين على قلب الإدارة الأميركيّة، يعلو على أي محاسبة وعلى أي محاربة للفساد.
مضت أيّام فقط على الانفجار المروّع، الذي فاق في إرهابه الكثير من تفجيرات الحرب الأهليّة. لكنّ حكومة دياب فشلت في الامتحان منذ الساعات الأولى، ولم يُسعفها البيان الجنائزي البكائي المعهود لرئيسها. لا بل هي أعاقت التحقيق، عندما نفت رسميّاً أي ضلوع خارجي. من يفعل ذلك قبل التحقيق؟ وهل يمكن نفي ضلوع دولة كانت ترسل إلى لبنان، ولسنوات طويلة، سيّارات وشاحنات وحميراً مُفخّخة، وتفجّرها في أحياء مكتظّة، ثمّ تعلن مسؤوليّتها (عبر إذاعة «صوت لبنان» التي كانت تديرها) باسم منظمة «جبهة تحرير لبنان من الغرباء»، وهي منظّمة وهميّة اخترعتها المخابرات العسكريّة الإسرائيليّة، لاستعمال قتل اللبنانيّين لتأجيج وتيرة الحرب الأهلية الوحشيّة أصلاً. حكومة دياب مرتهنة للفريقَيْن الممثلَيْن فيها، ولا يمكن لها أن تستهدف محسوبين عليهما (قد يكون في حكومة حسان دياب من حصّة ١٤ آذار، أكثر ممّا من حصّة ٨ آذار، وناصيف حتّي، كان كاتب بكائيات دوريّة عن رفيق الحريري في نشرة عائلته، لكنّ جبران باسيل بات يمتلك وزراة الخارجيّة كما يمتلك برّي وزارة الماليّة).
يكذب على الشعب اللبناني من ينصحه بترقّب نتائج مسار حكومة حسان دياب. ويكذب أكثر من يعده بأنّ الحكومة المنبثقة من النظام الفاسد، ستحاسب المسؤولين عن كارثة المرفأ. و يكذب، أيضاً، من يعد الشعب اللبناني، بعد مهزلة محكمة الحريري الإسرائيلية، بأنّ تحقيقاً دوليّاً سيأتي بنتائج نزيهة: يكفي أن يطالب بها وليد جنبلاط كي تعلم أنّ الاقتراح فاسد ومشبوه معاً. ويكذب أيضاً من يزعم أنّ الحراك الذي انطلق في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، سيُغيِّر النظام وأنّه سيأتي بجديد. لا ينفع مع هذه الطبقة الحاكمة إلا الضرب بالمطارق، ومن دون هوادة. وقصور الزعماء الفاسدين لا تزال المقدّمة الطبيعيّة لتفجير الغضب الشعبي، لكنّها لا تزال مزدانة ومُشعشعة وسط الظلام الدامس. وهي تصلح أكثر من أيّ يوم لإيواء العائلات المهجَّرة. هل مَن يخطو الخطوة الأولى؟
* كاتب عربي
(حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)