شغلت كشوف منابع النيل أذهان الرحالة والمستكشفين الغربيين، وجسّد هذا الشغف رؤية مركزية غربية استعمارية الطابع؛ وربما كان أول توثيق لهذه المحاولات ما دوّنه تاجر يوناني مجهول في القرن الأول الميلادي، في العمل الأشهر «الطواف حول البحر الإريتري: السفر والتجارة في المحيط الهندي». إلى أن زادت حركة الكشوف والاستعمار في القرن الخامس عشر من هذا الولع لاستكشاف «مملكة الحبشة المسيحية»، ومساعي مدّ العلاقات معها؛ حتى قام الرحالة الاسكتلندي جيمس بروس J. Bruce برحلته الشهيرة إلى منابع نهر النيل (1768ــــــ 1773)، وتمكّن من كشفها ورصدها رصداً جغرافياً بالغ الدقّة، في العمل الذي عكف على كتابته بعد عودته إلى بلاده ونُشر في عام 1790، بعنوان «رحلات لكشف منابع النيل» Travels to Discover the Source of the Nile، وذلك قبيل وفاته (1794).
مسارات عامة
سافر بروس ــــــ بدعم من السلطات البريطانية ـــــــ بدءاً من عام 1765 إلى سوريا، قبل أن يصل إلى الإسكندرية في تموز / يوليو 1768. وغادر القاهرة بهدف الوصول إلى منبع النيل، في رحلة شاقّة بمحاذاة النيل، ووصل إلى أسوان والبحر الأحمر ومصوع (1769)؛ ثمّ وصل إلى العاصمة الحبشية قندر Gondar، في وقته، في 14 شباط/ فبراير 1770، قبل أن ينتقل منها إلى «مملكة سنار» القريبة، في عام 1772، ومنها عائداً إلى الإسكندرية عبر رحلة شاقة، سالكاً مسار نهر النيل. وكانت رحلة بروس إلى قندر فريدة؛ حيث قدّم تفاصيل تاريخية كثيرة، تجاوزت إلى تقديم قراءات مغلوطة لافتراض جذور وهمية للأوضاع التي يرصدها في رحلته، مثل ما قدّمه في الفصل الثامن من الكتاب 2 (في المجلد 1) عن ظهور الإسلام، وتتبّع الجذور اليهودية لمملكة الحبشة المسيحية، ثم إفراد المجلّدين 2 و3 لتاريخ ملوك الحبشة، بدءاً من نسل النبي سليمان؛ وسط معلومات متكرّرة (وتوراتية أحياناً) تثقل تتبع الرحلة، لكنّها تفيد من ناحية أخرى في الفهم الدقيق لذهنية بروس.

منابع النيل
استكمل بروس في المجلّد 3 رصده لرحلته من مصوع وصولاً إلى عدوة، عاصمة التيجراي، وزيارته أطلال «مملكة أكسوم»، والاستقبال الكبير الذي حظي به في «قندر»، ولفت في فصل خاص (الفصل 11) إلى مقارنة مهمّة بين العادات الحبشية ونظيرتها الفارسية، وإن اتّسمت في مواضع بالمقارنة القسرية أو غير الواعية في حقيقة الأمر. وقدّم قبلها تقسيماً جغرافياً لأقاليم الحبشة، ثم الحالة الدينية. وافتتح بروس المجلّد 4 بتناول الأوضاع السياسية في «قندر»، وتقلُّده شخصياً منصب حاكم «راس الفيل»، وتوجّهه بعدها إلى غوتو Guotto والشلال الأول. ووصل في الفصلين 13 و14 إلى النقطة الرئيسة في رحلته، وهي الوصول إلى «منبع النيل».
لاحظ بروس بقدرٍ كبير من الصحّة، أنّ النيل ظاهرة فريدة في التاريخ الطبيعي، من جهة استغراق الفلاسفة القدامى في تناول أموره، فيما فشلت مساعي كشف منبعه طوال القرون الماضية. أمّا عن مصر، فلحظ، بقدرٍ من الشاعرية، أنّه وإن لم يخلق النيل مصر، فإنّها أول جزء (من حوضه) يستفيد منه؛ لقد ظلّت هناك، في وقت فيضانه الزائد، متجلّية في كامل بهائها، ولطالما قدّرت مصر رخاءها بمنسوبه. ويمزج التقاليد الكلاسيكية عن النيل (لا سيما العصرَين البطلمي والروماني) بوقع تقدّم خطواته نحو «منبع النيل»، في سرد يليق بجلال المشهد؛ ويؤكد أنه لم يقترب أيٌّ من البرتغاليين الذين وصلوا أولاً «في الحبشة»، من منبع النيل الذي يطلق عليه الأثيوبيون أباوي Abaoy، ولم يدّعِ هذا الشرف سوى بيتر بيز P. Paez. وممّا لاحظه بروس، أنه «لا يوجد ما هو أجمل من هذه البقعة، والتلال الصغيرة المرتفعة القريبة منّا... وهو أوسع وأجمل ما رأت عيني من مناظر طبيعية؛ فقمم المرتفعات مزيّنة بأشجار عظيمة الحجم، والبخار الصاعد، على الضفاف التي كنّا نجلس عليها أينما ارتحلنا، شفاف وصافٍ كأنقى أنواع البلورات؛ أما مجاز النهر، المغطّى بكثافة بنوع من الأشجار القصيرة، فإنه يتّسم بغلظة أوراق الشجر والأفرع، تغازل سطح الماء، وتزهر، بكميات كبيرة، زهوراً صفراء جميلة، لا توجد أية زهور برية أخرى تشبهها...».

العودة من «الحبشة»
شهد بروس، خلال رحلته، أحداثاً وتفاعلات مهمّة، ففي نهاية عام 1769 مات شريف مكة من دون حسم خلافته، فيما واصل الفينيسي كارلو روزيتي صديق الأمير علي بك الكبير (1760 ــــــ 1772) ومستشاره الحميم (الذي صادقه جيمس بروس خلال وجوده في القاهرة) الإشارة إلى مزايا إعادة فتح البحر الأحمر أمام التجارة الهندية، والاستيلاء على جدّة تحديداً، فيما كانت البكوية المملوكية تمرّ بحركة تجديد. ونظر المماليك باهتمام بالغ إلى القوى الأوروبية المنتشرة على سواحل الشام والبحر الأحمر، ولهذا الغرض وقع محمد بك (1772 ــــــ 1775) وخليفتاه، إبراهيم بك ومراد بك، معاهدات تجارية معها.
وفي هذا العالم الذي شكّلت التجارة فيه عماده، رأى بروس من منظور «استعماري» بحت، أنّ أهل مملكة سنار التي توجّه إليها بعد اكتمال رحلته في الحبشة، لم يتحولوا للإسلام إلا من أجل التجارة مع القاهرة، كما أنّ الإسلام والحكّام المسلمين توسّعوا جنوباً بحكم الضرورة، من أجل التجارة مع سنار، غير أنّ رواية الرحالة روبيني الذي مرّ بسنار في القرن السادس عشر، تؤكّد أنّ الإسلام أصبح ديناً حقيقياً في سنار، وليس مجرّد واسطة للتجارة، فقد استقبله الملك عمارة، وبحسب ما أورد روبيني في رحلاته، فقد «أكرمني إكراماً كبيراً، كما كان يكرم أحفاد الرسول (الأشراف) الذين يعيشون في أرض كوش (سنار)... لقد أحبّني الملك وجميع خدمه...»، مع إشارته الواضحة إلى كون «حكّام الفونج سوداً ومن غير العرب»، وهي الإشارة التي تدعمها رواية بروس.
لاحظ بروس بقدرٍ كبير من الصحة أنّ النيل ظاهرة فريدة في التاريخ الطبيعي من جهة استغراق الفلاسفة القدامى في تناول أموره


وسرد بروس قيام تجارة الفونج على حركة القوافل التي كانت تحكمها الاتفاقات السياسية بين السلطات المعنية، سواء داخل السلطنة أو خارجها. وقيام دور السلطان فيها على مراعاة الطرق البعيدة مع دول مثل مصر. وكان تجّار سواكن هم الأكثر ثراء في المنطقة، يليهم التجّار في سنار. وجاء تجّار مصر وكردفان في المرتبة التالية. وتمتع تجار الشايقية بأكبر مجال جغرافي للحركة التجارية في المنطقة، وكانوا يصلون إلى سنار ودارفور ومصر وسواكن. وكانت التجارة المصرية أكثر أهمية من حجمها وقيمتها، لأنها جلبت للعائلة المالكة الأسلحة النارية والذخيرة والسلع الفارهة.
واختتم بروس رحلته بمقابلة «درامية» مع محمد بك أبو الدهب (الذي خان علي بك الكبير وأجبره على الفرار إلى سوريا)، في القاهرة في كانون الثاني/ يناير 1773، بسّطها في الفصل 13، وعرض الأخير عليه تولّي منصب عسكري واستمراره إلى جواره. لكن جيمس بروس رفض وقفل عائداً إلى فرنسا، ومنها إلى بلاده، لكتابة مشاهداته في رحلته لكشف منابع النيل والتي تجاوزت العنوان المذكور بكثير، وشكلت سفراً ثرياً بمشاهدات حقبة مهمّة للغاية.

خلاصة
أوضحت ملاحظات بروس، ربما من دون قصد، العلاقات المتشابكة والمتداخلة بين أطراف شتّى، وقدّمت صورة كاملة عن الأوضاع فيها، وأثارت ملاحظاته ومشاهداته دروساً عميقة بين ثنايا سرده، من بينها أنّ الاستعمار لم يكن وليد لحظة تاريخية بعينها، أو عملية تاريخية منقطعة، بل كان نتيجة تراكمات وأعمال أسهمت بشكل مباشر في خضوع المنطقة للهيمنة الغربية، قبل عقود متفاوتة من وقوعها في يد الاستعمار.

* باحث في الشؤون الأفريقية