الحياد مصطلح دقيق جداً، وأخطر ما فيه أنه لا يعيش من دون نقيضه: السلاح. الحياد يرمز إلى السلام، مع كل ما يحمله السلام من إيجابيات، فيما نقيضه يرمز إلى الحرب مع كلّ ما تحمله الحروب من مآسٍ. وبما أنّ هذه هي طبيعة الأشياء، يتوجّب على كلّ من يطمح إلى الفوز في الحياد أن يفكّر قبل كلّ شيء بكيفية وآلية حماية حياده. وبالنسبة إلى لبنان، لا بدّ من استعراض سريع لما يمكن أن يتوفّر من آليات تشكّل حماية لورشة بناء الحياد، وخصوصاً أنها ورشة تسلّح قبل أن تكون إجراءً دبلوماسياً، إذ لا قيمة للدبلوماسية من دون سلاح يحميها. هذا هو منطق شريعة الغاب التي يعيش العالم في ظلّها. ولا ضرورة أساساً لتقديم إثباتات على ذلك، لأنّ الأمور واضحة وضوح الشمس في هذا العالم المتوحّش.
هل يمكن الاتكال على الأمم المتحدة كآلية لحماية حياد لبنان؟ التجربة كافية لأن نعطي كلبنانيين إجابة سلبية على هذا السؤال. وأوّل إخفاقات الأمم المتحدة، تمثّل في عجزها عن إلزام إسرائيل باحترام بنود اتفاقية الهدنة اللبنانية ــــــ الإسرائيلية (هدنة رأس الناقورة 23 آذار / مارس 1949)، وخصوصاً أنّ الأمم المتحدة تترأس اللجنة المختلطة للهدنة المنصوص عنها في المادة السابعة، والقاضية بأن يكون رئيس هيئة الأركان العامّة للإشراف على الهدنة، والتابع لمنظمة الأمم المتحدة، هو الذي يترأس شخصياً الاجتماعات، وهو الوحيد الذي يحق له أن يختار من ينوب عنه، ما يجعل من الأمم المتحدة شريكاً ثالثاً كامل الصفة في هذه الاتفاقية. معروف أنّ إسرائيل تكره هذه الاتفاقية، لأنّها تشكّل النص الدولي الوحيد الذي ما زال على قيد الحياة، والذي يعترف في مادته الخامسة بأنّ حدود لبنان الجنوبية هي مع فلسطين. وإسرائيل موقِّعة على هذا النص. هذا بالإضافة إلى سبب آخر تكرهه إسرائيل، وهو أنّ المادة ذاتها تنصّ حرفياً على أنّ «خط الهدنة يتبع الحدود الدولية بين لبنان وفلسطين»، ما يعني أنّ إسرائيل ترسم لنفسها خطاً حدودياً لطالما رفضت أن ترسمه على باقي الجبهات. إذاً، رغم اتفاقية الهدنة، فإنّ الأمم المتحدة لم تستطع أن تمنع إسرائيل حتى عن احتلال العاصمة بيروت، ناهيك بعدم تنفيذ أي من قراراتها الدولية، بدءاً بالقرار 425 (19 آذار / مارس 1978)، بينما أرغمتها المقاومة على الانسحاب بعد 22 عاماً وشهرين وستة أيام من صدوره. وإذا كان هذا هو وضعنا الحزين مع الأمم المتحدة، فهل يمكننا أن نتّكل، لحماية حيادنا المنشود، على الجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي أو حركة عدم الانحياز؟
يبقى أن نلجأ إلى الدول المتعارف رسمياً وتقليدياً على اعتبارها «صديقة للبنان»، وفي مقدمتها مثلّث الصداقة الدائمة الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا وبريطانيا. من المؤكد أنّ إسرائيل، وهي الدولة العدو للبنان والأكثر تهديداً له، هي صاحبة الحظوة الأولى عند الدول الثلاث السابقة الذكر، وخصوصاً الولايات المتحدة التي قامت بتغطية كل الحروب الإسرائيلية على لبنان، وما زالت ترعى العدوان الإسرائيلي المتواصل عليه، براً وبحراً وجواً. وبريطانيا وفرنسا خاضعتان لسلطة الولايات المتحدة، هذا إذا اعتبرنا جدلاً أنهما تفضلان لبنان على إسرائيل.
التجربة التاريخية، في شأن الضمانات الدولية لحماية استقلال الدول وسيادتها، لا يفترض بها أن تشجّعنا كلبنانيين على الخوض في مخاطرة انتحارية كهذه. والمثال الأبرز نأخذه من منطقتنا، وليس من مكان بعيد عنّا. نأخذه من قبرص.
التجربة التاريخية في شأن الضمانات الدولية لحماية استقلال الدول وسيادتها لا يُفترض بها أن تشجّعنا على الخوض في مخاطرة انتحارية كهذه


ففي مطلع الستينيات من القرن الماضي، أُعلن قيام جمهورية قبرص المستقلّة بموجب اتفاقيات عُقدت في زوريخ ولندن، بين بريطانيا واليونان وتركيا وممثلين عن الطائفة القبرصية اليونانية والطائفة القبرصية التركية. وبموجب هذه الاتفاقيات، قام الدستور القبرصي على مبدأ التوازن في الصلاحيات، و«التعايش» بين «العائلتين الروحيّتين»، كما نصّ على أن تقوم الدول الثلاث بحماية الاتفاقية، وبالتالي ضمان سيادة واستقلال وحرية وسلامة أراضي جمهورية قبرص. تفاءل الكثيرون خيراً بهذه الضمانات، ولا سيما أنّ الدول الثلاث الراعية والحامية والضامنة، دولٌ أعضاء في حلف عسكري دولي واحد هو «حلف شمال الأطلسي». ناهيك بوجود قاعدتين كبيرتين، جوية وبحرية لبريطانيا على الأراضي القبرصية، بإقامة دائمة غير محدّدة زمنياً، ما قيل إنه يزيد في تعزيز صدقية الضمانات والحماية. ولكن لم تمض ثلاث سنوات، أي في عام 1963، حتّى دخلت قبرص في مأزق دستوري، بسبب خلافات بين «العائلتين الروحيّتين» المتعايشتين «ميثاقياً». وفي عام 1974، قامت تركيا، وهي من أصحاب الرعاية والحماية، باجتياح قبرص والتنكيل بأهلها شرّ تنكيل وتقسيمها كأمر واقع. لم يحرّك الراعي والحامي والضامن البريطاني، ساكناً في وجه شريكه في «الحلف الأطلسي». أما اليوناني، فعضّ على جروحه وراح يتألّم بسبب عجزه عن نجدة أهله وأقربائه، لأنّ ذلك سيدخله في حرب كبرى مع تركيا وبريطانيا، لا يقدر عليها. ولقد مضى حتى الآن 46 عاماً على هذه الحال.
هذه التجربة القبرصية التي يتناساها الجميع تقريباً، تحتّم علينا طرح تساؤلات وجودية خطيرة، تساؤلات يحتّمها جهلنا المعتق لتعقيدات العلاقات الدولية ولحياة الدول والشعوب. فمَن مِن أهل «المجتمع الدولي» يمكن الاتّكال عليه لتوفير الحماية لحيادنا المنشود، وفي جوارنا أسوأ أنواع الكيانات العنصرية الشريرة، التي لا حدود لعدوانيّتها ولدمويتها، والتي يغدق عليها «المجتمع الدولي» الرعاية الحقيقية، والحماية الحقيقية، والتمويل الحقيقي، والتسليح الحقيقي، والتشجيع الحقيقي على المضي قدماً في عدوانيّتها وتوحّشها، الذي يتجاوز كلّ أنواع التوحّش، التي عرفتها النظريات العنصرية على امتداد مئات السنين. كما يسميها «المجتمع الدولي»، «الديمقراطية الوحيدة في منطقة الشرق الأوسط».
للحقيقة وللتاريخ، وأول الحقيقة كلمة صدق، علينا الاعتراف بأنّ المقاومة عندنا هي الجهة الوحيدة، محلياً وعربياً، التي عرفت كيف تتعاطى مع هذا الوحش الصهيوني، الذي لا يشبع من الارتواء بالدم. ونحن كلبنانيين خبراء به. فإذا كنّا لا نريد لهذه المقاومة أن تستمر في ردع الإسرائيلي عن العودة إلى بيروت، علينا بناء جيشٍ وطنيٍّ مهنيٍّ قويٍّ جرار، قادر على أن يردع، بكل ما لكلمة الردع من معنى، العدو الإسرائيلي عن عدوانيّته المستدامة. طبعاً إنّ بناء جيش كهذا يتطلّب مئات المليارات من العملات الصعبة، وفي مقدمتها الدولار، وامتلاك أسلحة برية وبحرية وجوية تضاهي أسلحة العدو المباشر، تقنية وفعّالية. بالإضافة إلى العديد الواجب إشراكه في هذه الورشة العملاقة، التي لو لم تلجأ سويسرا إلى ورشة مثيلة لها، لما قام حيادها أساساً ولما استطاعت أن تحمي هذا الحياد. فالحياد لمن يحميه، تماماً كما السلاح لمن يحميه. الحماية لا تكون إلا ذاتية، وأما الاتكال على الخارج فيقودنا إلى التساؤل عن أي خارج نقصد، والعالم كلّه يدوّي حروباً ومحاور دولية متحاربة. كلّ ذلك والسؤال الأكثر قوة وإيلاماً يقول: ما هو الثمن الذي تطلبه الدول منّا مقابل أن تحمي حيادنا واستقلالنا وسيادتنا وسلامة أراضينا... ولو على الطريقة التي حمت بها بريطانيا وتركيا واليونان استقلال وسيادة وسلامة أراضي قبرص؟
هنا أيضاً حين نستخدم مصطلح «الحياد السويسري»، علينا أن نكون على بيّنة فعلية من تكوين هذا الحياد وقوته الحربية الضاربة. فقد بنت سويسرا مجتمعاً، بكل ما تعنيه كلمة مجتمع من معنى، وجعلت منه مجتمع حرب موحّد النظرة وموحّد الأهداف، حيث كلّ مواطن فيه منتج ومقاتل ومثقف، بمعزل عن أيّ حكم قيَمي حول ثقافته... كما «الكيبوتس» الإسرائيلي، مُتَّحدٌ اجتماعي حربي، كلّ فرد فيه منتج ومحارب ومثقّف بالعنصرية التوراتية التلمودية.
إن أمراً خطيراً ووجودياً كهذا، لا مفرّ من تناوله بهدوء ورصانة وعدم التذاكي، وخصوصاً أن الثقة بين اللبنانيين هي ما دون الحضيض نتيجة لهذا النظام القائم على التمييز العنصري «أبارتهايد»، والتكاذب المتواصل، والفساد والإفساد، والذي دمّر المجتمع وجعل الشعب يتوزّع على معتقلات طائفية ـــــــ مذهبية، بعدما سقط إلى ما دون التشكّل الاجتماعي، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن. فكما يقول المثل في قرانا الطيّبة والحزينة اليوم: «حارتنا صغيرة ومنعرف بعضنا»، وبلدنا الغالي أساساً حجمه صغير ومن الصعب إخفاء النوايا الضخمة فيه. بناءً عليه، كيف يمكن أخذ موضوع «الحياد الإيجابي» على محمل الجد، إذ من الواضح أن «الثقافة» السياسية لأصحاب النظريات عندنا، لا تهتم كثيراً بأساس مشروع الحياد الإيجابي الفعلي.
وللتذكير فقط، إليهم رواية ولادة الحياد الإيجابي: بعد مؤتمر باندونغ المؤسّس لحركة عدم الانحياز، أواسط الخمسينيات من القرن العشرين، عُقد لقاء ثلاثي ضمّ عبد الناصر ونهرو وتيتو، بدعوة من الأخير في جزيرة بريوني الجميلة، مقرّه الصيفي في بحر الأدرياتيك. وفي ذلك الاجتماع، أطلقوا نظرية الحياد الإيجابي التي كان نهرو قد أقنع شريكَيه بها. وعندما استفسر الصحافيون منه عن المقصود بالحياد الإيجابي، أجابهم مباشرة: التنمية. فأين السياسيون في لبنان من موضوع التنمية... بينما الفساد عدو التنمية؟!
وعليه، من الواجب التأكيد أنّ الحياد يفترض بناء القوة الذاتية لا الاتكال على القوة المستعارة، والحمايات الخارجية هي في الأساس مناقضة للحياد، هذا إذا ما حدثت معجزة المعجزات فتوفّرت الحماية بلا مقابل. نعم إنّ الحياد لمن يحميه، كما السلاح لمن يحميه.

* كاتب وباحث لبناني