«حوار بعبدا» الذي انعقد (ولم ينعقد!) الأربعاء ما قبل الماضي، هو نموذج عن الإمعان في المكابرة والمعاندة من قبل الطرف الأساسي في الفريق الحاكم (وضمناً الفريق المقاطع). وهو محاولة لتسخيف حجم الأزمة أو الاستخفاف بها، فضلاً عن احتقار عقول الناس لجهة المضي في تصوير أنه «ليس في الإمكان أفضل ممّا كان»! يزيد من خيبة الداعين أيضاً، أنّ ذلك الحوار قد اجتمع، على الدعوة إليه ومحاولة تأمين نصاب المدعوين لحضوره، رئيسا الجمهورية والمجلس النيابي. الرجلان لا يجمعهما ودّ منذ سنوات طويلة، لكن، سعيا معاً هذه المرة تحديداً، لمحاولة إنجاح الاجتماع وفق الصيغة التي تمّ اعتمادها. رغم ذلك، كان النصاب «الوطني» (أي الطائفي!) شبه مفقود، والنتائج شديدة التواضع إلى حدود الفشل شبه التام. ذلك أنّ ما كان يُرجى من التضامن، ولو الشكلي، في مواجهة «الخطر الأمني» خصوصاً، قد أدّى إلى تعميق الانقسام الداخلي بين أطراف الصراع التقليديين. هؤلاء، كما كان شأنهم دائماً، قد عجزوا عن الاتفاق على أي أمر إيجابي. أما ما ينعقد عليه اتفاقهم، عادةً، فتمرير الصفقات وتقاسم المغانم وتحاصص المؤسسات والإدارة والموارد الرسمية والوطنية، فضلاً عن الإمعان في انتهاك القوانين والدستور وتعطيل الإصلاحات... ودائماً لحساب تعزيز المحاصصة والدويلات والعصبيات والنهب والفساد والتبعية...«حوار بعبدا» ينتمي إلى مرحلة أَفَلَت. هو يتجاهل الأزمة والنقمة. الأزمة، من جهتها، باتت أزمة نظام وكيان ومجتمع بالكامل، وليس فقط أزمة اقتصادية مدمرة يصاحبها انهيار مخيف في كل الحقول والميادين الاقتصادية والاجتماعية. لقد تحوّلت أكثرية غير مسبوقة من الشعب اللبناني إلى الفقر الفادح والخراب، بحيث انهارت مصادر عيشها وتقلّصت مداخيلها وأفلست مؤسساتها الصغيرة والمتوسطة بتسارع يُنذر بكوارث حقيقية قد تصل إلى حد المجاعة. هذا إلى تدهور الخدمات وصولاً إلى تسارع احتمال توقفها كلياً. إنها فوضى شاملة تلك التي تضرب البلاد بسبب سوء منظومة سياسية واقتصادية، وبسبب جشع حفنة من كبار المستفيدين ممّن سخَّروا كل شيء، في الدين والدنيا، من أجل تحقيق وتعظيم مكاسب وأرباح أسطورية بكل السبل وبأقذر الأساليب، ومن خلال السلطة والتسلّط، بالدرجة الأولى. حَصَرَ حوار بعبدا المدعوين بأطراف السلطة دون سواهم. هو لم يشأ حتى الاستماع إلى أصواتٍ من داخل النظام نفسه، طالما أنّ بعض أصحابها قد رحّب بانبثاق إرادة شعبية تطالب بالتغيير والمحاسبة.
أما النقمة التي اكتُفي من بعض تداعياتها باحتمال تهديد السلم الأهلي، فقد كان الهدف من ذلك تجاهل المستلزمات الضرورية لمعالجتها، وأوّلها إحداث تغيير جذري في الأنظمة السياسية والاقتصادية... وكذلك في العلاقات في الداخل ومع الخارج.
لقد تجاهل الرئيسان الداعيان، مئات آلاف اللبنانيين الذين نزلوا إلى الشارع بدءاً من 17 تشرين الأول إلى اليوم. تجاهل الحوار أيضاً مئات آلاف آخرين، ممن لم ينزلوا إلى الشارع، أو كان جزء منهم متعاطفاً أو مؤيداً لطرف من أطراف السلطة، إلّا أنهم ساخطون، ولا شك، على السلطة الفعلية وإصرار قواها النافذة على المضي في التقاتل على المواقع والتكالب على الحصص رغم كل ما يحصل! ويقترن كل ذلك باضطراب الوضع الأمني المفتوح على أشكال من المخاطر العنفية وصراع العصبيات وتفكّك البلاد، بدعم وتحريض وتآمر خارجيين لتقسيم البلد ودفع أبنائه إلى الاقتتال على غرار ما حصل في السابق.
يجتمع أكثر الحاضرين والمقاطعين من أطراف السلطة على الإمعان في خداع المواطنين اليوم، كما في السابق. هدفهم الأول هو السعي لتحميل نتائج الأزمة لغير المسؤولين عنها، وخصوصاً من هم في مواقع القرار الأساسي في السلطة. وكلاهما يسعى بكل الطاقة لتشتيت الاعتراض الشعبي وتفكيكه وإغراقه بالانقسامات والعصبيات. ويندفع بعضهم في تبنّي تحقيق أهداف خارجية، أميركية وصهيونية أساساً، للإطاحة بالمقاومة ضد العدو، ولتمرير صفقات تصفية القضية الفلسطينية وفرض هيمنة استعمارية على المنطقة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وأدواتها.
لم تتأخر المنظومة السلطوية، أيضاً، في السعي لضبط إيقاع الحكومة التي فرض عليها القبول بتشكيلها عبر وكلاء وموظفين، ضمن إيقاع الممارسات التحاصصية السائدة. كلّ الآمال التي عُلّقت من قبل عديدين على تغيّر ما، عبر حكومة الرئيس حسان دياب، تتأكد خيبة أصحابها كلّ يوم. الحكومة محاصرة من داخلها وخارجها من قِبل كبار المسؤولين في البلاد. الانقلاب السريع على خطة الحكومة رغم تواضعها، كشف استشراس هؤلاء في المضي بسياسة النهب، وفي تدفيع المواطنين كامل أثمان الأزمة، وفي إفلات المرتكبين من مجرّد شراكة في العزم وهم الذين كان لهم الغنم وحدهم بالنهب والسرقة والفساد. اضطرار مدير عام المالية للاستقالة خير دليل. أما حصيلة تقرير «لجنة تقصي الحقائق» النيابية، برئاسة إبراهيم كنعان ورعاية رئيس المجلس، ففضيحة صافية لجهة تزوير الأرقام وتضييع المسؤوليات ومنع استرداد المال المنهوب وخدمة المسؤولين والمصارف وحاكم المركزي. وقد استدعى هذا التقرير لتمريره التهويل بإسقاط الحكومة، عبر مناورة هزيلة لمصلحة تكليف الرئيس سعد الحريري!
إذاً «حوار بعبدا» وكل حوار يشبهه سواء بنصاب كامل أو ناقص، لن يحمل سوى المزيد من التأزم والكوارث. وحده ميزان قوى تنهض لتكوينه قوى متضررة وازنة، سياسياً وشعبياً (تحت وطأة الأزمة المتعاظمة خصوصاً)، هو ما يمكن أن يفرض صيغ حوار جديدة، وبالتالي احتمالاً واقعياً للعبور إلى المعالجات الصحيحة التي تستدعي مؤتمراً تأسيسياً فعلياً لإنقاذ لبنان وشعبه من الكارثة التي أوصلها إليها النظام السابق. بالتأكيد من هنا ينبغي البدء. ذلك يعني المباشرة بإجراء مراجعة مسؤولة للمرحلة السابقة بما يعيد إلى الانتفاضة طابعها وزخمها الشعبي السياسي والمطلبي ويحررها من الاستخدام والاستغلال الداخلي من قِبل أطراف في السلطة، أو من قِبل أطراف خارجية لإطاحة مكاسب وطنية لبنانية في حقل المقاومة والتحرير.
ضمن السياق آنف الذكر، لا بدّ أن يقود أي تقدير مسؤول وجدي إلى ضرورة بناء مركز وطني شعبي سياسي واسع لأخذ زمام المبادرة ولحجز موقع، بالبرنامج والأولويات والتعبئة، في الصراع الدائر بشأن المعالجات وبشأن مستقبل البلاد جميعاً!

* كاتب وسياسي لبناني