ليس المكان سوى تضاريس يمنحها المرء من ذاته حياة يشكّلها بحسب أمزجته ووعيه ومشاعره وأفكاره، ويُلبسها لبوساً يتفاعل مع الزمن ليصوغ ذاتاً جمعية على قدر ما يطمح ويحلم، بما يبرز حجم أصالته وما يحمل من حيوية في خوضه المستمر للكفاح مع الوجود، وما يكابده من قلق وجودي ومعرفي، ولسنا هنا نستعرض كمية من معلومات تاريخية موجودة في بطون الكتب، إلا لنقدّم نموذجاً حضارياً أممياً انبثق من جبل وهضاب أبت إلّا أن تشقّ الصعاب وتركب الأمواج العاتية وتخطّ بيمينها صفحات ناصعة من شرق العالم إلى غربه، فدخلت بجدارة زمن الله محاولة ما استطاعت التغلّب على مقيداتها الشخصية وتراثها ومقيدات ما في الواقع من محاولات الإلغاء والتحجيم والتآمر والتهميش على المستويات كافة.نبدأ بلمحة عن تاريخ جبل عامل أو عاملة، ومن أسمائه جبل الجليل، قال اليعقوبي في كتاب البلدان: وجبل الجليل وأهله قوم من عاملة وعدّها من جند دمشق. هذا الجبل بدأ منذ ما قبل القرن الثامن الهجري إلى عهدنا الحاضر، بالتأثّر والتأثير بالأحداث المتلاحقة التي ساهمت في خلق الهواجس المعبّرة عن شخصية عاملية قلقة أرادت التجذّر في أرضها ومحيطها وتأكيد ذاتها وهويتها، ولم تزد الهجرة العاملية هذه الشخصية إلا حضوراً وتأثيراً وقلقاً، فهي أرادت تأكيد أنّ ثقافتها باقية وليست هجينة أو غريبة، وأنّ انتماءها متجذّر وعميق بالأرض والتراث والهوية العربية الإسلامية، وما فُرض عليها من حصار وضغوطات وحروب ومؤامرات أرادت اقتلاعها لم ولن تبلغ غايتها، ما دام هناك إنسان بسيط متواضع مثقف واعٍ أصيل مخلص ومجاهد لا يبيع نفسه ولا يرهنها ولا ينقطع عن جذوره ويسهم في اندثارها.
لقد كان لعلماء جبل عامل قصّة مختلفة، إذ تحلّوا بجملة من الميّزات التي أهّلتهم ليلعبوا دوراً رياديّاً على مستوى الأمّة، على الرغم من كلّ الصعاب التي واجهتهم في مختلف الأزمنة التي عايشوها، حيث كسر مفهوم الخطاب العاملي كلّ الأطر المغلقة ثقافيّاً وعلمياً، فبثّوا روح الإصلاح والتغيير، فكان خطابهم حضاريّاً بامتياز، تعدّى حدود السطحيّة والمألوف، واتّصف بحسّ المبادرة والنقد، وصولاً إلى إحداث الصدمة ورفع الغبن عن وعي الفرد والجماعة. ومع أنّ عدد علماء الشيعة العامليّين يبلغون نحو خمس علماء الشيعة في جميع الأصقاع، وبلادهم أقلّ من عشر عشر بلاد الشيعة، إلا أن أثرهم كان كبيراً على العالم الإسلامي، من لبنان إلى النجف، ومروراً إيران، حيث كان التشيّع العاملي أبرز من ساهم في بناء تشيّعها، وصولاً إلى الهند وغربها في كوجارات ومدراس، حيث تشهد مقبرة آل خاتون في فناء قصر قطب الدين شاه على الأثر الحضاري البالغ الذي زرعه هؤلاء في تلك الأصقاع البعيدة. فلقد لمع علماء فطاحل نشروا العلوم، وبرز محمد بن مكي العاملي المعروف بالشهيد الأوّل، وأثّر في الحاضرة العلميّة في بغداد، حتى إنّ أستاذه فخر الدين الحلّي يقول عنه: «لقد استفدت من تلميذي محمد بن مكي أكثر ممّا استفاد مني». وأصبح الشهيد الأول بعد رحيل أستاذه أفقه فقهاء الآفاق.
برزت النهضة العلمية فـي جبل عامل، في منتصف القرن الثامن الهجري ـــــ الرابع عشر للميلاد ـــــ وذلك بعد عودة الشهيد الأول محمد بن مكي العاملي المتوفّـى عام ٧٨٦هـ، من العراق إلى جزين؛ حيث أسّس أول مدرسة عاملية. ويقول الشيخ علي الزين: «إنّ مدارس جبل عامل قبل احتلال العثمانيين لسوريا، كانت عامرة بالتلاميذ والأساتذة والعلماء من الشيعة». تزوّد الشهيد الأول من معين علمي ثريّ، وصار مرجعاً للمذاهب الفقهيّة الخمسة لبراعته، وكان يقول: «إني أروي عن نحو أربعين شيخاً من علماء المسلمين في مكّة والمدينة وبغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس». بعد قرنين من الشهيد الأوّل، سطع نجم الشهيد الثاني الذي أكمل مسيرة من سبقه، وأثرى بخطابه المنهج الذي ينحو نحو الوحدة ومحاربة الجهل والخرافة، حيث نلمس في خطابه الجرأة الفكريّة في الطرح، ونجد النقد والعقل الحواري المنفتح والروح التجديديّة.
أما بهاء الدين العاملي، فقد تولّى مشيخة الإسلام مرّتين زمن الشاه عباس الصفوي، مواجهاً في خطابه كلّ أشكال الجمود والتخلّف والخرافات، داعياً إلى ابتعاد العلماء عن الحكّام. وقد منع من سبّ الخلفاء، وركّز على رفع مستوى الناس العلمي والمعرفي، كما دعا بقوّة إلى إخضاع النقل والروايات إلى سلطة العقل. وما ميّزه، عبقريته العلمية التي ترجمها مزيداً من الابتكارات في الهندسة والفلك والعمارة والفيزياء.
وإذا ما أردنا عرض الدور الريادي للمدارس الدينية العاملية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر مدرسة شقراء: أنشأها السيد أبو الحسن موسى فـي أواخر القرن الثاني عشر. وكانت من أعظم مدارس جبل عامل.
مدرسة بنت جبيل: أنشأها سنة ١٢٩٧هـ / ١٨٧٩م، العالم الفقيه الشيخ موسى شرارة، وانتقل إليها طلّاب مدرسة حنوية، وجمعت عدداً وافراً من أفاضل الطلاب وتخرّج فيها الكثيرون.
مدرسة جبع: وهي مدرسة أنشأها الفقيه الجليل الشيخ عبدالله نعمة المتوفى سنة ١٣٠٣هـ / ١٨٨٥م، وكانت حافلة بالطلّاب مدّة طويلة ثم أفل نجمها فـي حياته.
مدرسة عيناثا: جاءها فيمن جاء ناصر بن إبراهيم البويهي، وعكف على تلقّي العلم فيها على الشيخ ظهير الدين بن الحسام وسكن بها حتى وفاته سنة 852/1449. وخرج من عيناثا العديد من العلماء الفطاحل. ويذكرها البعض باسم مدرسة عيناثا الأولى تمييزاً لها من المدرسة التي انبعثت مجدداً في عيناثا، والتي أسّسها العالم الفقيه السيد نجيب فضل الله.
مدرسة شحور: أنشأها العالم الصالح السيد يوسف شرف الدين واستمرت مدة من الزمن.
وكذلك نذكر مدرسة طيردبا: أنشأها العالم الفقيه الشيخ حسين مغنية. وغيرها كثير من المدارس الدينية.
من الأعلام الذين ذاع صيتهم السيد محمد الجواد الشقراوي العاملي، صاحب كتاب ما يُعرف بـ«مفتاح الكرامة». شارك السيد جواد العاملي الناس والعلماء في الدفاع عن النجف الأشرف ضد عدوان الوهابيين، الذين حاصروا مدينة كربلاء المقدّسة سنة 1216هـ.. ومن الأعلام أيضاً في عصرنا الحديث، برز اسم السيد محسن الأمين المولود «فـي قرية شقراء من بلاد جبل عامل سنة ١٢٨٤هـ / ١٨٦٧م». عُرف عنه بساطة العيش والمظهر، ويذكر أنّ شاه إيران السابق عابه في مظهره عندما التقاه فـي أثناء رحلته إلى طهران، فكان جوابه الصاعق له: «نحن ننظّف قلوبنا وأنتم تنظّفون ثيابكم». قضى الأمين حياته فـي العراق بالدراسة والتدريس وسافر إلى إيران، وتنقّل من مدينة إلى أخرى، يجتمع بمشايخها وبرجالاتها ويأخذ عنهم العلم أمثال: الشيخ عبد الكريم اليزدي، وصدر الدين الموسوي، ومحمد البهاري، وغيرهم. انتقد نظام الدراسات الدينية العليا منادياً بالتجديد في سلسلة من الملاحظات التي جمعها تحت عنوان «إصلاح المدارس» والتي أدخلها ضمن المجلّد الأول من مؤلّفه «معادن الجواهر» الصادر في عام 1929م.
نتعرّف إلى الأثر العاملي في النجف، كما نجد ذلك في كتاب علماء جبل عامل وتجديد الدراسات الدينية في النجف (1870 ــــــ 1960م) تأليف الدكتورة صابرينا ميرفان، باحثة ومستعربة فرنسية، حيث تقول: «وهناك أيضاً علماء آخرون تصاهروا مع عوائل عراقية أثناء فترة دراستهم، كيوسف شرف الدين الذي تزوج بامرأة في النجف، وكمثال من بين الأمثلة، فإنّ والد موسى عزّ الدين تزوج بامرأة من عائلة محبوبة».
إنّ عائلة شرارة كان لها فرع في جبل عامل وآخر في العراق، علماً بأن زقاقاً في النجف كان يُطلق عليه «درب بيت شرارة». وإنّ عائلة إبراهيم كانت تملك بيتاً في النجف لإيواء طلبة العلوم الدينية. وثمّة علاقات متنوّعة تجمع العامليين بالنجفيين، بدءاً بتلك التي يقيمها الطالب مع أستاذه، ثم تلك التي يقيمها الطلبة في ما بينهم. إلى جانب ذلك، فانّ ندوات رجال الدين كانت عبارة عن وشائج من التحالف أو التصاهر بين الأفراد والعوائل، إضافة إلى الأمور المتعلّقة بالتوافق الفكري بين الأشخاص أو الصراعات الشخصية.
نذكر السيد عبد الحسين شرف الدين، والعلامة السيد موسى الصدر الإمام العالم والمقاوم والمنفتح فكرياً، وصاحب الحضور المتعدّد الجوانب جهادياً وفكرياً وحركياً، ناهيك بتصانيف العلامة الشيخ محمد جواد مغنية والسيد هاشم معروف الحسني، وغيرهما علمياً وفقهياً.
كثيرةٌ هي العائلات والبيوتات العلمية والفكرية والأدبية، التي أغنت وتغني التراث والتاريخ بإسهاماتها المتنوّعة، وسأعرض لإسهامات ما تميّز به آل فضل الله الحسنيون من عطاءات علمية في التاريخ العلمي والجهادي والأدبي، يؤكد مدى ارتباط الإنسان العاملي وشفافيته بهويته، وما كابده ويكابده من أجل التجذّر وإغناء الواقع وما تميّز به من تفكير منفتح الآفاق لامس حدود الكون، وحمل هموم الأمّة في صدره وقلبه وعقله. فالإنسان العاملي مجبول على حب الكرامة وعلى التمسّك بالهوية وعلى رفض التحيّز والعصبية، ويأبى الذاتيات والحسابات. وإن كانت هذه الأمور قد اختلطت عليه اليوم وتشابهت لوجود قوى وشعارات تملأ الساحات، فإنه لن يتخلّى عن الحق ولو بعد حين، بوجه خاص ونحن في أجواء مناسبة الذكرى العاشرة لرحيل المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله، وما ارتبط به من جذور عائلية علمية عريقة، فهو من هذه البيئة العاملية النشطة التي لم تهدأ يوماً، ولم تستكن، وليس هو منقطعاً عن الجذور وطائر يغرّد وحيداً في الصحراء كما يحاول البعض تصوير المسألة.
هذا المرجع الذي يرتبط اسمه بتاريخ عريض من الجهاد وقوة العزيمة في خط المقاومة، كما العطاء الفكري والروحي والتعبوي والاجتهادي المميّز من النجف إلى النبعة وبئر العبد وحارة حريك، إلى كلّ العالم الذي تخطّى بعطاءاته المتنوّعة والغنية المتّسمة بالعقلانية والاعتدال، كل ما انغلق في دنيا الفقه والاجتهاد والتفسير وغيرها وجرى التضييق عليه وتغييبه وتهميشه عن الساحة لحسابات مختلفة. فجدّه لأبيه السيد نجيب الدين فضل الله، الفقيه والعالم المعروف بمواقفه الجريئة وحظوته العلمية والدينية، ثم والده السيد عبد الرؤوف فضل الله العالم الرباني الذي التحق في النجف الأشرف بشقيقه العابد الزاهد آية الله السيِّد محمَّد سعيد فضل الله، الذي عرضت عليه المرجعية الشيعية في حينه وأباها، وقد تأثر بالفقيه والعارف السيِّد عبد الهادي الشيرازي. اهتم بمساعدة المحتاجين واليتامى وتربية الجيل على الأخلاق الإسلامية. ودعا الناس إلى مقاطعة المحتلّين الصهاينة وحثّهم على الجهاد.
ومن أولاد السيد نجيب، برز أيضاً في سماء التقى والزهد والشعر، العلامة السيد عبد اللطيف فضل الله في عيناثا، وهو ــــــ عمّ المرجع السيد محمد حسين فضل الله ــــــ إذ كان مربياً للمؤمنين الترابيين الطيبين الذين أضحوا لاحقاً من المقاومين للاحتلال الصهيوني، من أمثال الشهيد القائد سمير مطوط، وكان يمتلك شخصية روحية وعلمية وأدبية عالية ومؤثرة وصاحب عقل وقلب مفتوح لحل مشاكل الناس وتوعيتهم دينياً وثقافياً، ولا يزال هذا الدور وهذه المسيرة التنويرية مستمرّة مع نجله سماحة السيد علي فضل الله إمام بلدة عيناثا ورئيس لقاء الفكر العاملي.
لا ننسى أيضاً الثائر السيد محمد جواد فضل الله العالم والشاعر، وهو شقيق المرجع السيد محمد حسين فضل الله، أثناء تواجده في النجف الأشرف، كان على صلة قويّة مع صديقه الوفي، السيّد علي الخامنئي مرشد الثورة الإسلاميّة في إيران، حيث كانت تربطه به علاقة وثيقة، وكان السيِّد الخامنئي ولا يزال، متأثراً إلى حدٍّ كبير بذكاء السيِّد محمّد جواد فضل الله وحضوره وشخصيَّته، إذ ترك أثراً كبيراً في المجتمع الإيراني وبوجه خاص العلماء منهم. وعند قدومه إلى لبنان وإلى حيّ السلّم، أنشأ حسينية ومركزاً إسلامياً وكان يعمل على تأسيس الجو الرسالي والإسلامي بجد وإخلاص، ولكن وافته المنية وهو في بدايات عطاءاته.
لم ينقطع العمل الرسالي والجهادي والاجتماعي والعلمي في حي السلم وبنت جبيل وبئر العبد، فاستمر مع شقيقه العلّامة الحجة الراحل السيد محمد علي فضل الله، الذي تصادف ذكرى وفاته السنوية الأولى هذه الأيام، إذ امتلك شخصية روحية وتقوائية عالية ومؤثّرة، وكان منزله مقصداً للناس لقضاء حاجاتهم وحلّ منازعاتهم وتميّز بصفاء الروح وطهارة الفكر وبقربه الشديد من الناس وبتواضعه وسجيّته وورعه وبتربيته لجيل من الرعيل الأول لقادة المقاومة، أمثال القائد الجهادي والميداني الكبير الشهيد خالد بزي.
كما لا ننسى أيضاً علماء كباراً آخرين، كان لهم حضورهم وسيرتهم ومنهم العالم السيد صدر الدين فضل الله الذي درس على يد كبار علماء النجف، وامتزج بأدبائها وشعرائها، فكان له معهم مطارحات ومساجلات، ولا ننسى نجله المجاهد والأديب السيد عبد المحسن فضل الله .كذلك، برز السيّد محمد حسن فضل الله في عيناثا في جبل عامل ونشأ فيها، ثم هاجر إلى النجف سنة 1920م، وحضر فيها الأبحاث العالية في الفقه وأُصوله، وكان واسع الاطلاع بالتفسير والحديث والأدب وقرض الشعر وله تقريرات في علمَي الفقه والأصول.
نعتذر عمّن لم نذكره من علماء آخرين مرّوا في تاريخنا ولم يكن مرورهم مرور الكرام، بل أثّروا وتأثّروا وحاولوا جاهدين حماية هويتهم وتراثهم والدفاع عن شخصيتهم الخاصة وارتباطهم بالهوية العربية والإسلامية. هذه البيوتات العلمية وهذه العائلات على طول جبل عامل وامتداده وتاريخه القديم والحديث، شكّلت حالة من التوازن العلمي والروحي والفكري في وجه التسطيح والتجهيل والعصبية والتخلّف ومحاولات استلاب الناس في وعيهم ومسؤولياتهم، ودفعهم أكثر إلى الانغماس في مظاهر اليوم وشكلياته التي اخترقت كلّ تلافيف حياتنا اليومية. هذه البيوتات والعائلات العاملية أكدت عبر تاريخها المشرق روحية الحوار، ومواجهة ذهنيات الاختناق داخل الذوات المذهبيّة والطائفيّة والحزبيّة والعائلية ونجحت في ذلك إلى حدّ كبير.
إضافة إلى ما تقدّم من علماء كان هناك مجاهدون ومقاومون شرفاء، من أمثال أدهم خنجر وصادق الحمزة ومحمود الأحمد بزي والسيد عبد المنعم فضل الله، وقفوا أحراراً عبر تاريخ هذا الجبل، ورفضوا الخنوع والخضوع وأبت نفوسهم الذل والهوان، واليوم لا تزال المسيرة مستمرّة في وجه الصهاينة ومشاريع التطويع الأميركية والاستكبارية والاستعمارية الحديثة، التي لم تغادر فصولها كما حصل في العراق مع وقاحة فرض النفط مقابل الغذاء. من هنا المسؤولية كبيرة في حفظ واقع الناس الحياتي والمعيشي ورفع الحرمان عنهم بالفعل، لا بالكلام والشعارات، وحفظ كراماتهم وأبسط حقوقهم وعدم إذلالهم، فلا يعقل أن نكون من المساهمين في سحقهم، ثم نطلب منهم الصمود، فمساهمة البعض داخلياً في الاستبداد الاقتصادي والاجتماعي يتقاطع مع استبداد الخارج، فكلاهما جشع ورخيص. ولكن الأنكى من يستعمل الدين كملجأ للمحرومين يمنّون النفس به بدل النهوض والقيام للمطالبة بالحقوق، فذلك غاية الوقاحة والحقارة واستحمار الناس على حد تعبير علي شريعتي.
إنّ المطلوب اليوم التمسّك بكلّ ما هو مضيء في تاريخنا، كي نؤكّد وحدتنا وقوّتنا ومنعتنا ونندفع نحو التلاقي وهدم جدران العصبية


ببساطة، بات كثيرون في عالم المال والسياسة والدين والإعلام والفكر مجرّد وسائل لتحقيق رغبات الآخرين من أشخاص وجهات ودول وكيانات بلا أدنى تفكير. لم يكن جبل عامل ولا العامليون، يوماً، خارج مركز الوطن أو قلب الأمة، بل كانوا توّاقين بحسّهم وآفاقهم للتآلف والانسجام مع المحيط، على الرغم من أنّ الآخرين يعدّونهم من الأطراف التي تشكّل عبئاً عليهم كباقي الأطراف. ولم يكن جبل عامل يوماً مقابل جبل طائفي أو مذهبي آخر. حتى أيام الاحتلال، كانوا منفتحين على إخوتهم في الوطن، فهم أصلاً يأبون في تركيبتهم وجبلّتهم التقوقع المذهبي والطائفي.
التحديات كبيرة، اليوم، أمام الجميع في كل المناطق ولأي طائفة أو مذهب انتموا، وهناك مشاكل جمّة وخطيرة، منها الجوع الفكري الذي يسيطر علينا عدا الجوع الجسدي، بإزاء الامتلاء الانفعالي والغرائزي الذي يأخذ علينا كلّ كياننا، الأمر الذي ولّد عندنا سذاجة في التفكير، كما خلق عندنا اندفاعاً في العاطفة ربما بلغ إلى حدّ التهوّر والفتنة عند أبسط موقف أو مناسبة، وهو ما جعل إنساننا يعيش في دوامة استغلال المستغلّين وتضليل المضلّلين. من هنا، لا بدّ لنا أن نمتلك زمام شخصيتنا المتحرّرة من القيود المناطقية والمذهبية في عملية حركة وارتقاء، وأن نقرأ كلّ ما يجمعنا به تاريخنا المشرقي، وأن يتحرّك الإسلام كما المسيحية كما السُّنية في داخل حياتنا وخارجها كقوّة فكرية قائدة وشفافة غير مؤطّرة. فهل سيتخلّى المؤثّرون في المشهد اليوم عن أنانياتهم ويطلقون الأديان من عقال توظيفاتهم؟
إنّ المطلوب اليوم التمسّك بكلّ ما هو مضيء في تاريخنا، كي نؤكّد وحدتنا وقوّتنا ومنعتنا ونندفع نحو التلاقي وهدم جدران العصبية، وإلا سنبقى في دائرة الفوضى والاختلال وردّات الفعل وفقدان القدرة على التأثير، وهو ما يزيد غربتنا وانقطاعنا عن كل ما يثبّتنا على أرض تهتز تحت أقدام الجميع.
نحن أحوج ما نكون اليوم إلى جيل مرتبط بما يمثل التاريخ المضيء من خط مشرّف رسالي حضاري أممي، لا جيل معلّب مرتبط بشكل آلي خاوٍ بزعيم وحزب وتنظيم ومذهب وطائفة وعائلة، يفعل فعل مجتمع الفراعنة والأباطرة حيث يخدم زعماءه ورعاته بلا وعي، بما يؤدي تلقائياً إلى شعور الزعيم والمسؤول بأنه من الفراعنة والأباطرة في المال والسياسة والتفكير على حدّ تعبير الشيخ محمد الغزالي: «إن الفراعنة والأباطرة تألّهوا لأنّهم وجدوا جماهير تخدمهم بلا وعي».
كلّ ذلك يفرض على جميع القوى والأحزاب المتسيّدة اليوم، أن تعيد ترتيب علاقاتها بتاريخها الذي تنتمي إليه وتراجعه بمسؤولية وحكمة، بعيداً عن الحساسيات وأن تبني جيلاً متواصلاً مع تراثه وتاريخه، لا أن تبني جيلاً نربّيه أيديولوجياً بإطار تنظيمي ضيّق، حيث ينعق مع كل ناعق، بل جيلاً جديراً بالمسؤولية ولعب الدور في مواجهة ما يحاك من مؤامرات. فالمسؤولية في ذلك كبيرة، ولا تقل أهمية وشأنية عن مشروع المقاومة بكل أصنافها، كونه ملتصقاً بها وجودياً، فالذهنية والروحية والحفاظ عليهما وبناؤهما بشكل صحّي، تتطلّب وعياً وجهداً ودرجة عالية من المسؤولية والتقوى والإخلاص في العمل والوجدان والفكر.
ندعو اليوم أن يهب الله شرقنا علماء كباراً يكتبون تاريخاً مشرقاً من جديد بلا تهييج للغرائز، ولا قرقعة لطبول الطائفية.

* أكاديمي وحوزوي