لا يوجد، إلى الآن، منافسٌ جديّ للهيمنة المالية الغربية، وخصوصاً الأميركية، على الاقتصاد العالمي. يُهيمن الدولار الأميركي على الدورة الاقتصادية المالية ونظام ربط التحويلات المالية في العالم، ويملك صلاحيات هائلة في فرض إرادته على الأسواق وفرض العقوبات والتحكّم بمسارات التنمية للعديد من الدول. لا تمارس الولايات المتحدة أيّ شكل من أشكال التقنين في ممارسة هذه الهيمنة المالية في الوقت الراهن، ولا تظهر عليها بوادر ضعف على الرغم من التحدّيات التي تعصف بالاقتصاد الغربي والأميركي على وجه الخصوص. يتعزّز موقع الدولار الأميركي في خضمّ جائحة «كوفيد ــ 19»، ولا يتعرّض إلى الآن لتهديد جدّي أو مساءلة، على الرغم من الإجراءات المالية غير المسبوقة التي اتّخذها بنك الاحتياطي الفيدرالي في إجراءات التحفيز والتيسير الكمّي، عبر ضخّ كمية ضخمة من الأموال لتنشيط الاقتصاد وتجاوز الآثار التي تسبّب بها الفيروس المستجدّ. إجراءات كان من شأنها لو أنها طُبّقت في اقتصاد آخر، أن تعصف بالاستقرار المالي وتسبّب موجة كبيرة من التضخّم.
من أعمال فنان الكوميس الاسكتلندي جيم بايكي (1940 - 2017)، سلسلة «حرب النجوم» - «إمبراطوريّة الظلام»

وإذا أخذنا بعين الاعتبار مجالات السيادة الأميركية على القطاعات الأساسية في الاقتصاد الرأسمالي، التكنولوجيا والقطاع المالي، فلا يمكننا إغفال أنّ الدورة السلعية هي في أسواق آسيا، الصين تحديداً، بحيث لا مجال للكلام هنا عن سيادة غربية، بالنظر إلى أرقام التجارة العالمية، بل شرقية. لكنّ السيادة المالية، التكنولوجية، مضافاً إليها التفوّق العسكري، بالرغم من التغيّرات التي شهدها العالم بموازاة الصعود الصيني والحيوية الروسية، وظهور أكثر دينامية لبعض اقتصادات الدول النامية، تجعلنا لا نغادر العصر الأميركي، ولكن على الأقل تتيح لنا النظر إلى إمكانيات جديدة. أوضح هذه الإمكانيات هو التفوّق التكنولوجي للصين في مجال البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس من الإنترنت. وهو خرق مهم في مجال البنية التحتية للهيمنة التكنولوجية. في الأشهر الماضية، جرت عدّة أحداث لافتة، جميعها تشير إلى احتدام الصراع الصيني الأميركي ــ الغربي، في المجالات المذكورة. في بعضها تبادر الصين ــ ومعها روسيا ــ وفي بعضها الآخر يبادر الغرب.

تحالفٌ ضخم لمنافسة الجيل الخامس
هناك اعتراف دولي بتفوّق الصين في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس لخدمات شبكة الإنترنت، فهي كانت الأكثر استثماراً في هذا المجال، والأكثر حيازة لبراءات اختراع تخصّ هذه التكنولوجيا. لم يمنع حظر الحكومة الأميركية لشركة «هواوي» الصينية من إنشاء البنية التحتية الخاصّة بشبكة الجيل الخامس على أراضيها، من أن تسمح الحكومة البريطانية، في كانون الثاني/ يناير 2020، باستخدام معدّات «هواوي» في 35% من البنية التحتية لشبكة الجيل الخامس على أراضي المملكة المتحدة، على الرغم من محاولة أميركا ثني حلفائها عن التعاقد مع الشركة الصينية. إلّا أنّه في 5 أيار/ مايو، وأثناء انشغال العالم بتداعيات فيروس «كورونا»، أعلنت مجموعة من شركات التكنولوجيا والاتصالات الغربية الرائدة، في مقدمتها شركات أميركية، إطلاق تحالف: Open RAN Policy Coalition، (ائتلاف سياسة شبكات الدخول الراديوية المفتوحة)؛ وهو من أجل «تطوير السياسات التي ستعزّز اعتماد الحلول المفتوحة والقابلة للتشغيل المتبادل في شبكة الوصول اللاسلكي (ران)، كوسيلة لخلق الابتكار وتحفيز المنافسة وتوسيع سلسلة التوريد للمستوى المتقدّم للتقنيات اللاسلكية، بما في ذلك شبكة الجيل الخامس لخدمات الإنترنت»، كما ورد في تعريف التحالف عن نفسه. أيضاً، قال التحالف، في بيانه، إنّه يعتقد بأنّ الحكومة الفيدرالية الأميركية «لها دور مهم تؤدّيه في تسهيل وتعزيز سلسلة إمداد مفتوحة ومتنوعة وآمنة للتكنولوجيات اللاسلكية المتقدّمة، بما في ذلك شبكة الجيل الخامس». كلّ شيء في المبادرة يدلّ على أنّها مبادرة حضّرت لها جهات في الحكومة الأميركية بالأساس، فهي جاءت بعد أسابيع عدّة من اقتراح مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركيين من الحزبين استثمارَ أكثر من مليار دولار في تقنيات شبكة الوصول الراديوية المفتوحة (ران) المتعلّقة بتقنيات البنية التحتية في مدّ شبكة الجيل الخامس. كما أنّ المديرة التنفيذية للتحالف ديان رينالدو، كانت حتى وقت قريب نائبة مساعد وزير الاتصالات والمعلومات في وزارة التجارة الأميركية، فضلاً عن أنها كانت المديرة السابقة بالإنابة للإدارة الوطنية للاتصالات والمعلومات. إنّ هذا التحالف الضخم له هدف وغاية واضحة، هي استبعاد وإبدال مزوّدي خدمة الجيل الخامس الصينيين «هواواي» و«زد تي أي» عن الأسواق الغربية، والعالمية إذا أمكن، إضافة إلى سد الثغرة التكنولوجية الموجودة حالياً بين الشركات الغربية، والمسؤولة منها عن البنية التحتية لشبكات الجيل الخامس، وهي «إيريكسون» السويدية و«نوكيا» الفنلندية و«سامسونغ» الكورية (بشكل أقل)، وبين شركة «هواوي» الصينية، التي كما قلنا تملك السبق في هذا المجال، وخصوصاً عندما نعرف أنّ شركة «نوكيا» الفنلندية قد انضمّت بعد مدة قصيرة إلى هذا الائتلاف، وقد تلحق بها شركة «إريكسون». معظم أساطين عالم التكنولوجيا والاتصالات وشبكة الإنترنت، موجودون في هذا التحالف، ونذكر منهم: «مايكروسوفت»، «غوغل»، «فيسبوك»، «إنتل»، «كوالكم» وغيرهم. في المقابل، تسابق الشركات الصينية الزمن لبناء أكبر عددٍ من شبكات الجيل الخامس، فقد أعلن مسؤولون صينيون أنّ الحكومة الصينية في طريقها إلى الانتهاء من بناء حوالى 500 ألف محطة من شبكات تكنولوجيا الجيل الخامس للاتصالات، بحلول نهاية عام 2020. تعي الشركات الصينية حدّة المنافسة وطبيعة التحدّي. فبغضّ النظر عن التقدّم التكنولوجي والريادة لشركاتها في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس، إلّا أنّها تواجه المنظومة التكنولوجية الغربية مجتمعةً، وهو ما دلّ عليه تحالف الشركات الجديد.

الأمن السيبراني والإنترنت السيادي
كان التحضير لسياق المواجهة الرقمية يجري على قدم وساق، تكشف عن ذلك تصريحات وإجراءات الرئيس الأميركي دونالد ترامب في حربه التجارية مع الصين ضد شركة «هواوي»، وكذلك تصريحات لمسؤولين أوروبيين وأميركيين آخرين من مختلف المستويات. نذكر هنا ما قاله واحد من كبار سدنة المعبد الأميركي في العالم الحديث، وهو مارك زوكربرغ مؤسس شركة التواصل الاجتماعي الأشهر «فيسبوك»، والذي طالب «بضرورة التصدّي لنهج الصين في تنظيم خدمات الإنترنت»، وشدّد على «المخاطر المحيطة بهذا الأمر في تنامي الدول التي تهيمن وتنظّم الإنترنت لشعوبها على غرار الصين»، وهي خطوة، كما قال، مخالفة «للقيم الغربية»، وناشد زوكربرغ دول الغرب بالتصدّي للنهج الصيني وطرح بديل ديموقراطي للدول التي تحاول السير على هذا النهج. الدول الأخرى التي ستحاول السير على هذا «النهج» في تنظيم خدمات الإنترنت، هي تلك التي لا يسمح حجمها وأهميتها ونسيجها الاجتماعي باختراق سيادتها وأمنها، من خلال الهيمنة الرقمية الغربية، وهي التي اكتشفت أنه أصبح بالإمكان تنظيم إنترنت سيادي يفصلها عن «القيم الغربية» التي يبشّر بها زوكربرغ، وتتمكّن بالتالي من الحفاظ على استقلالها ووحدة أراضيها وأمنها، كمقدمة وشرط ضروريين للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في عصر العولمة الرقمية. في مقدمة هذه الدول روسيا التي قامت في نهاية 2019 باختبار ناجح للإنترنت «السيادي»، كما أعلن نائب وزير الاتصالات الروسي، بحيث لم يعُد شرط اشتغال الشبكة الروسية اتصالها بالشبكة العالمية. ويفرض القانون الذي وقّعه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أيار/ مايو الماضي، «قيام مزوّدي خدمة الإنترنت الروس بتركيب أجهزة خاصة تقدّمها الحكومة، تتيح السيطرة على مركزية حركة البيانات وتنقية المحتوى، ما يتيح للحكومة السيطرة على مفاصل الشبكة». «في المضمون، سيؤمّن هذا المشروع حماية شبكات الاتصالات العسكرية والعامة والمدنية في كل أنحاء روسيا، وذلك يصبح أسهل عندما تقوم الدولة بالإمساك بكل مفاصل الإنترنت الآتي من الخارج»، هذا بحسب موقع «روسيا اليوم». هنا، نرى المقدّمة الضرورية للأمن المالي، السياسي والمعلوماتي، العلمي والرقمي. من الممكن عبر هذا الضبط والاحتواء للتدفّق المعلوماتي الكمّي الصادر كما الوارد، في وقت ما، أن تكون هناك سردية مغايرة للسردية الغربية، تحدٍّ للهيمنة الإيديولوجية، حقيقة مغايرة ورؤية مغايرة للعالم، تقود إلى واقع مغاير، يجنّب البلدان المعنية سيناريو التدمير والتداعي، كما توضح أمثلة البلدان التي نعيش فيها، نحن قرّاء هذه السطور.

اليوان الرقمي الصيني والتكنولوجيا المالية الجديدة
قُدّرت المعاملات المالية الرقمية والمدفوعات الإلكترونية التي أجراها المستهلكون الصينيون العام الماضي ــ أساساً عبر الهواتف المحمولة ــ بـ50 ترليون دولار، بحسب مجلّة «ذي إيكونوميست» البريطانية. لم تجرِ هذه المدفوعات، كما معظم المدفوعات والمعاملات المالية في دول أوروبا وأميركا وباقي المراكز المالية والتجارية في الخليج العربي وآسيا ودول أخرى تملك طبقات اجتماعية قادرة على الاستهلاك الموسّع، عن طريق حسابات بنكية أو عن طريق عملاقَي الـ«كريديت» وبطاقات الائتمان «ماستاركارد» و«فيزاكارد»، بل جرت وتجري ضمن عملية رقمية مستقلّة، داخل حدود الصين، ذات مرونة وفعالية أعلى، تؤمّنها شركتان صينيتان عملاقتان هما «تينسنت» و«آنت». تتوسّع التكنولوجيا التي تؤمّنها هذه الشركات خارج حدود الصين، أيضاً، مثل جنوب شرق آسيا (أخبرني صديق مقيم في الصين أنّ هذه الخدمة متوفّرة أيضاً في الإمارات العربية المتّحدة للمواطنين الصينيين حصراً، وليس للمقيمين في الصين)، ولا يعدّ هذا مريحاً للأميركيين، بطبيعة الحال، فهو كما يقول ماثيو فافاس في «ذي إيكونوميست» منفصل عن أميركا وعن شركاتها، والأهم، عن معاييرها. تتمّ الحركة هنا، خارج المنظومة المالية الأميركية، والمال لا يمرّ عبر المصارف والمؤسسات المالية المرتبطة بمنظومة «سويفت». من الضروري، هنا، توضيح أن «سويفت» هي منظومة الربط العالمية الأضخم بين الأسواق والمؤسّسات المالية العالمية، وتضم أكبر المؤسسات المالية وأكثرها تأثيراً، وتتمّ عبرها معظم عمليات الربط والوساطة المالية عبر الدول. يخضع هذا النظام للهيمنة الأميركية بشكل رئيسي، بالرغم من أنّ مقرّه في بروكسل، ويعتبر الدولار اللاعب الرئيسي في العملات المتداولة عبره. وبهذا، تستطيع الولايات المتحدة الأميركية استبعاد أي دولة من شبكة التدفّقات المالية، وبالتالي حرمانها من عمليات التمويل الضرورية لكلّ العمليات التجارية الحيوية. إنّه ببساطة عصا غليظة قادرة على تحطيم الأقدام، ولَي الأذرع. وعبر التفلّت منه، من خلال استبداله والالتفاف عليه، بما أنّ منازعة الولايات المتحدة الهيمنة المالية عبره أمر غير واقعي، تقوم الصين بتوسيع قنواتها عبر تلك التكنولوجيا المالية الرقمية الجديدة الرائدة. كما أنه، وبما يذكّر بعملة الـ«بتكوين» Bitcoin الرقمية التي تبيّن أخيراً محدوديّتها (ربما لعدم ارتباطها بدولة أو بتحالف، وعدم امتلاكها أساساً مادياً واقعي، وهذا بحث آخر)، تقوم الصين بالعمل على إصدار عملتها الرقمية الخاصّة بها، وهو للمناسبة ما تشرع به وتخطّط له دول أخرى أيضاً. العملة الرقمية الصينية الجديدة، ستكون مدعومة بالذهب، وستصدر عن البنك المركزي الصيني. وما إن يغدو تداول هذه العملة خارج حدود الصين، سيحدث تبدّل مهم في البنية المالية للنظام العالمي لجهة الهيمنة الغربية (المطلقة)، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. وهنا أيضاً، يتفادى إتمام المعاملات والتدفّقات المالية المرور عبر البنوك والمنظومات المالية كوسيط إجباري للتسوية، فتحدث كل هذه العمليات عبر التكنولوجيا الجديدة المكتفية بذاتها، بذات الدولة الصادرة عنها وذات المتعاملين. نعم، هذا يبدو جديداً تماماً على الخريطة الحالية للقوى المهيمنة. وهو يبدو نقلة نوعية سيشعر بها الجميع. خصوصاً إذا ما ذكرنا أنّ هناك منظومات مالية أخرى تحاول أن تتّخذ مكاناً في سوق المال والتحويلات المالية، نذكر منها منظومة «سيبرفت» الروسية، ولكن لا يمكن الحديث عن منافستها لـ«سويفت»، في الوقت الراهن على الأقل بأي شكل من الأشكال.
بين منظومة الجيل الخامس والتكنولوجيا المالية الجديدة والأمن السيبراني ارتباطٌ أساسي يستند إلى الأساس الرقمي للعمليات المالية الجديدة، وأيضاً إلى اتساعها، وحاجتها إلى أشكال تكنولوجية وبنية تحتية ضخمة قادرة على تأمين المرونة المطلوبة، وكذلك حاجتها الملحّة للأمن والسيادة الاقتصادية والمالية التي لا تتحقّق إلا بتوفير الأمن التكنولوجي والرقمي. يبدو أنّ من يعمل على تعديل خريطة القوى، ويسعى لاتخاذ مكان يرقى بشعبه إلى مستوى أفضل وأكثر عدلاً في التبادل العالمي والتقسيم الدولي للعمل، يعمل على الربط بين الأمرين. أمّا الطرف الآخر الذي يريد تأبيد الهيمنة، فيسعى إلى سدّ الثغرات التكنولوجية الناشئة عبر توحيد قوى المركز في أوروبا وأميركا واليابان، والحفاظ على امتياز الإجازة والمنع، والموت والحياة.

* باحث سوري