يبقى الخامس والعشرون من أيار/مايو 2000، يوماً مميّزاً في تاريخ لبنان والأمّة العربيّة، بل والإنسانية جمعاء، لأن المحتل الذي اندحر عن أرضنا في ذلك اليوم، بلا قيد أو شرط، لم يكن محتلاً للأرض في لبنان فحسب، بل محتلاً للإرادة في العديد من أقطار أمّتنا، ومحتلاً لما يُسمى بـ «المجتمع الدولي» الذي لم تنكشف يوماً ازدواجية المعايير لدى القيّمين على شؤونه، كما انكشفت من خلال موقفه من الكيان الغاصب، وحروبه العدوانية ومجازره وتوسّعه وعنصريّته منذ تأسيسه.صحيح أن هذا اليوم لم يكن المحطة الأولى في هذا الصراع، ولن يكون المحطة الأخيرة، لكنه بالتأكيد جاء تتويجاً لمسار بدأته المقاومة اللبنانية، بكل قواها منذ أواخر ستينيات القرن الفائت، وازداد زخماً بعد غزو 1982 وحصار بيروت. وقد شكّل تحولاً تاريخياً في حياة الأمّة، بل العالم كله. هكذا نستعيد اليوم المحطّات المشرّفة: فمن الاندحار الإسرائيلي غير المشروط في عام 2000، إلى الانتفاضة الفلسطينية في العام ذاته، إلى إعادة احتلال مدن الضفة عام 2002، إلى المقاومة العراقية عام 2003، إلى حرب تموز عام 2006، إلى حصار غزّة والحروب عليها منذ عام 2007، إلى صمود سورية واليمن منذ عام 2011... مروراً بأحداث عدة إقليمية ودولية، لعلّ أبرزها ما شهده بالأمس البحر الكاريبي، حيث أقدمت الناقلة الإيرانية، في مناخات عيد الفطر وعيد التحرير، على اختراق الحصار الأميركي لفنزويلا.
وفي الوقت نفسه، علينا أن ندرك أن السنوات العشرين الماضية كان لها عند أعدائنا عنوان واحد هو محاصرة هذا الانتصار الكبير، والقوى التي ساهمت في إنجازه، وإفراغه من مضامينه. فتجربة العدو في صراعه معنا، أنه كان في كل مرة تلحق الأمّة فيه هزيمة وتحقق انتصاراً، يسعى إلى الالتفاف عليه وتجويفه والانقلاب على نتائجه، كما حصل مع الوحدة المصرية – السورية عام 1961، ومع المدّ القومي العربي برمته في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وصولاً إلى حرب تشرين نفسها وسياسات إجهاض نتائجها.
لكن العدو فوجئ هذه المرة، إذ وجد أمام انتصار يصعب الإجهاز على نتائجه، أنجزته مقاومة تزداد قوة ومنعة رغم كل التجارب الصعبة التي مرّت بها من فتن داخلية، وحروب خارجية، عسكرية وأمنية، وحصار اقتصادي وتحريض طائفي ومذهبي وعرقي.
غير أن عدونا لم ييأس بعد، وخصوصاً أن في واقعنا اللبناني والعربي والإقليمي من الثغرات الناجمة عن تفشي الفساد والاستبداد والتبعية ومنطق الإقصاء وتغليب المصالح الفئوية على المصلحة العليا، ما يسمح له أن يواصل محاولاته للثأر من ذلك الانتصار التاريخي. هكذا نراه يعمد إلى محاصرة خيار المقاومة بجوع الناس وأوجاعهم. لكن منذ متى كان الاستسلام لمشيئة الأعداء طريقاً إلى حماية شعوب بكاملها من الجوع والوجع؟ الأمثلة من حولنا، وفي العالم، كثيرة على عدم واقعيّة هذه المقولة.
غير أن هذا لا يُعفينا من الانكباب الدقيق على دراسة أوضاعنا، كي نطوّر ما حققناه من إيجابيات، ونتخلص مما وقعنا فيه من أخطاء وسلبيات. علينا أن ندرك أن الأخطار الخارجيّة مهما عظمت لا تعفينا من مواجهة المشكلات الداخلية، وأن مقاومة الاحتلال الأجنبي وتداعياته هي الوجه الآخر لمقاومة الاختلال الداخلي، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً...
ومقاومة الاحتلال والاختلال لا تعني فتح جبهات متعدّدة كما يردد بعضهم، بل هو تزخيم للمقاومتين معاً: فكلما تقدّمنا في مواجهة المشروع الصهيو – استعماري، متمثلاً باحتلال الأرض والإرادة، تقدّمنا بالمقابل في مواجهة تداعيات هذا المشروع على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كما أن أيّ تقدم في مواجهة الفساد والاحتكار والاستبداد والطائفية والمذهبية، يوفر لنا فرصة أكبر في مقاومة أعداء وطننا وأمّتنا.
من جبل عامل 2000... إلى البحر الكاريبي 2020 تقصر المسافة، وتتعزّز إنجازات المقاومة، تأكيداً على معادلة آمنا بها جميعاً، هي أن تحرير الأرض والإنسان في مكان، هو تحرير للأرض والإنسان في كل مكان.

* كاتب وسياسي لبناني