بالمقارنة مع الأموال التي رُصِدت في أزمة عام 2008 لإنقاذ الاقتصادات الرأسمالية الرئيسية، تبدو المقاربة هذه المرّة أكثر بنيوية لجهة التركيز بشكل أكبر على قطاعات الإنتاج، بدل الاكتفاء بإنقاذ المصارف أو معالجة اختلالات الطلب، كما حصل في الأزمة السابقة. صحيح أنّ أزمة الطلب، هذه المرّة، تبدو أعمق بسبب شلّ حركة التبادلات الرأسمالية بالكامل، ولكنّها بخلاف المرّة السابقة تأتي مصحوبة بانحسار كبير في عملية الإنتاج، وهو ما يميّز هذه الأزمة عن سواها، ويعجِّل في انتقالها سريعاً إلى مرحلة الكساد، بعد مرور بفصلي ركود أو أكثر.
معالجة أزمة الطلب
المقاربة السابقة كانت تحفظ دوراً أكبر للمصارف المركزية، كونها مخوّلة أكثر من الحكومات الرأسمالية لمعالجة الاختلالات الناجمة عن انحسار الطلب، حيث تقوم المعالجة على تخفيض نِسَب الفائدة وشراء الديون الهالكة بغرض حثّ الشرائح التي تضرّرت من الأزمة على معاودة الإنفاق. ويترافق ذلك مع قيام الحكومات بتغيير السياسة الضريبية، لأنّ وظيفة الضرائب في أوقات الأزمات ليست مجرّد توزيع الدخل بل التحكّم به، إمّا عبر امتصاص السيولة الفائضة أثناء الكساد، أو عبر خلقها في فترات الانكماش والركود، وفي الحالتَين تكون الغاية هي توفير أداة نقدية إضافية لحثّ الناس، إمّا على زيادة الإنفاق أو على التقليل منه. في أزمة عام 2008، كانت الحاجة أكبر إلى تحريك الطلب بسبب فقدان المنازل والمدّخرات ولاحقاً الوظائف، وهو ما انعكس زيادةً في الإنفاق وحتى العجز، لأنّ الأزمة كانت تتطلّب التعويض عن فقدان الثقة بالاقتصاد، حتى لو تسبَّب ذلك بزيادة كبيرة في حجم الدين. ليس ثمّة وظائف جديدة هنا، على اعتبار أنّ قطاع الإنتاج لم يكن هو المتضرِّر الأكبر، ولكنّ معاودة تحريك العجلة الاقتصادية كانت تتطلّب الحدّ من اعتماد الناس على مدّخراتهم، وخصوصاً بعد فقدانهم الثقة في المصارف إثر أزمة الديون والرهونات العقارية، فاعتمدت سياسة الإنفاق وتخفيض الضرائب كحلّ مؤقت، ريثما يعود النموّ من جديد، وتبدأ بعده جباية الثمن كالمعتاد، عبر رفع الضرائب واعتماد سياسات التقشُّف على نطاق أوسع.

بنيوية الأزمة
لا تبدو هذه المعادلة ممكنة اليوم مع انتقال الأزمة إلى قطاع الإنتاج. صحيح أنّ ثمة فائضاً في العرض، خصوصاً في القطاعات الريعية من الاقتصاد العالمي (النفط)، ولكنّ ذلك لا يجعل منها أزمة طلب مجدداً، بدليل تراجع الدور المنوط بالمصارف المركزية لمصلحة الحكومات مباشرةً، بكلّ ما يعنيه ذلك من تحوُّل في شكل المقاربة الرأسمالية للأزمة. إذ بالإضافة إلى التدخّل المباشر للحكومات، ثمّة تغيّر واضح في وجهة الدعم، حيث لم تذهب غالبية الرُزم التي أُقرّت للمصارف وأسواق المال كما حصل سابقاً، بل وُجِّهت في معظمها إلى قطاعات الإنتاج الصغيرة والمتوسّطة التي تضرّرت أكثر من سواها بإجراءت الإقفال. ويبدو أنّ الاتّكال على هذه القطاعات سيكون كبيراً، ليس فقط في معاودة تحريك الاقتصاد، بل أساساً في الحفاظ على نمط التراكم الداخلي الذي تأثّرَ كثيراً بموجات العولمة، قبل أن يأتي الفيروس، ليعطّله تماماً حتى في ظلّ إعادة الاعتبار إليه مع العودة الكبيرة للحمائية الاقتصادية. الأزمة بهذا المعنى ليست أزمة طلب، حتى تقتصر المعالجة على تكليف المصارف المركزية بضخّ السيولة وسحبها عبر إعادة توزيع الدخل، بل هي أزمة تُصيب قلب النظام الذي هو عملية الإنتاج، سواء عبر التراكم في الداخل أو في الخارج. ومن هنا يأتي استبعاد دور المصارف مرحلياً، لمصلحة قنوات الإنتاج التي ذهبت السيولة ليس فقط للحفاظ على خطوط عملها، بل أيضاً على قواها العاملة، كون استئناف الإنتاج بسرعة يتطلّب المحافظة على مهارات هؤلاء العمّال، بحيث لا تُضطر هذه المنشآت التي دُعمت حكومياً إلى إنفاق هذا الدعم على العمالة نفسها، بدلاً من تشغيل خطوط الإنتاج بالسرعة التي تريدها هذه الحكومات. الخشية هنا ليست من عمليات التسريح بحدّ ذاتها، بل من تأثيرها في حال كانت كبيرة ـــ وهي كذلك بالفعل ـــ على فعالية العملية الإنتاجية وبنيتها، خصوصاً أن الوجهة مستقبلاً ستكون ليست فقط لخفض الأكلاف، بل لإنتاجية تعتمد على عدد أقلّ من العمّال، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالعمالة الماهرة في القطاعات ذات الإنتاجية العالية والتي ذهبت معظم رُزم الدعم إليها.
صحيح أنّ ثمة فائضاً في العرض وخصوصاً في القطاعات الريعية من الاقتصاد العالمي (النفط) ولكنّ ذلك لا يجعل منها أزمة طلب مجدداً


تحدّيات معاودة الإنتاج
بعد حلّ مشكلة الهيكلية الإنتاجية الجديدة، والاحتفاظ بالعمالة من عدمه، ستكون الحكومات الرأسمالية أمام تحدٍّ آخر، وهو التكيُّف مع استمرار أزمة تقييد الحركة التجارية، لجهة حرية تنقُّل السلع والرساميل وحتى الأفراد. فالصناعة، الآن، حتى في ظلّ الحمائية التجارية، لا تستطيع بحكم طابعها العالمي مزاولة الإنتاج في نطاق الدول الوطنية، لأنّ التبادل لم يعد يكتفي حتى بالفضاءات الإقليمية، وهو أمرٌ غير مرتبط بالعولمة وحدها، بل بنمط التراكم الرأسمالي منذ الثورة الصناعية. استقدام المواد الخام اللازمة للصناعة من دول الجنوب في حقبة الاستعمار، أدخل هذه الدول في المنظومة الرأسمالية ولو على شكل أطراف، وحين صعدت منها تجارب مثل الهند والبرازيل وأندونيسيا و... إلخ ـــ الصين تجربة مختلفة إلى حدّ كبير ـــ لم تجد أمامها بعد انهيار المنظومة الاشتراكية سوى طريق التطوُّر الرأسمالي. فانضمّت إلى أطر العولمة المختلفة، وعلى رأسها منظّمة التجارة العالمية لتحفظ لها دوراً في الأسواق الدولية، على اعتبار أنّ جزءاً كبيراً من صناعاتها بات يملك مزايا تنافسية تؤهّلها، ليس لمنافسة الدول الصناعية الرأسمالية بالضرورة، وإنّما لجعل أنماط التبادل التجاري على مستوى العالم متناسبة أكثر مع مساهمتها. هذا التشبيك يجعل من دولة نامية صناعياً كالمكسيك، قادرة على منافسة الولايات المتحدة تجارياً، لا بل على ترجيح كفّة الميزان التجاري معها لمصلحتها. المقصود هنا، هو استحالة العودة صناعياً وتجارياً حتى إلى ما قبل العولمة، لأنّ أشكال التبادل هذه غيَّرت حتى في طبيعة الإنتاج، وفي تركيبة القوى العاملة، إلى درجة أنّ النكوص عنها قد أصبح مستحيلاً، ويمكن اعتبار الحمائية التجارية التي يقودها دونالد ترامب ذروة هذا المسعى. وهي ذاتها لا تريد «النكوص» إلّا بمقدار ما يسمح لها بجني مكاسب أكثر من العولمة، على حساب شركائها الرأسماليين الرئيسيين مثل الاتحاد الأوروبي. في المقابل، ثمّة صعوبة بالغة في الحفاظ على سلاسل الإنتاج، بشكلها الحالي الذي يفترض حريّةً مطلقة في تنقُّل الرساميل والبضائع واليد العاملة. بمعنى أنّ السلعة أو السلع المنتَجة بهذه الطريقة، وبعد تحوّلِها إلى قيمة مضافة على مستوى العالم ستخسر من قيمتها لجهة الكلفة والجهذ المبذول والتسويق ونمط الاستهلاك، وكلّ ما يتعلّق بمزاياها التنافسية مع السلع الأخرى، وبالتالي ستزداد صعوبة إنتاجها في حال استمرار القيود الحالية لفترة أطول. وهو ما ينطبق أيضاً على فرص وصولها إلى المستهلكين بكميات كبيرة، وبشكل متزامن، أي ما لم تكن في متناول المستهلك في الصين والولايات المتحدة وأوروبا والبرازيل «في الوقت ذاته».

خاتمة
وعلى الأرجح، أنّ هذا هو ما سيتغيّر في المرحلة المقبلة حين يعود النشاط الإنتاجي بشكل مقيَّد، إذ ستحدِّد «الأسواق الجديدة» التي سيكون الوصول إليها محدوداً في البداية، كلفة الإنتاج الحاصلة في «بلد واحد»، وما إذا كانت أقلّ أو أكثر من سابقتها التي كانت تصل إلى أسواق أبعد، وكان إنتاجها بسبب طبيعته المعولمة يتطلّب ليس فقط تجميع مواد أولية من مصادر مختلفة، بل أيضاً تصنيعها في أماكن متعدّدة. والحال أنّ هذه الكلفة ستنعكس بدورها على بنية الإنتاج، لجهة عدد العمّال والزمن اللازم للعمل، وحتى كمية الجهد المطلوب، بحيث يخرج المنتَج ليس فقط «بمواصفات جديدة»، بل أيضاً إلى سوق لم تستقرّ آليات التبادل فيها بعد. لكن هذا المتغيّر لا ينسحب على المعالجات النقدية التي تقوم بها الحكومات الرأسمالية والمصارف المركزية، فالتعاملات النقدية والمالية والمؤشّرات الكلّية للاقتصاد أكثر ثباتاً بكثير من عملية الإنتاج، مع أنها تتحدّد بها في النهاية، وهو ما يجعلها العنصر الثابت في كلّ التقلّبات الحاصلة حالياً، والتي سبق لها كذلك أن حصلت للاقتصادات الرأسمالية في مفاصل تاريخية عديدة. التدخّل في السوق مركزياً بهذا المعنى (سواءً عبر الحكومات أو المصارف المركزية)، هو الهيكل الذي يحفظ النظام الرأسمالي من الاندثار، ويبقي تقلّباته عند حدود معيّنة، بحيث لا تنهار آليات التوزيع إذا حصل ركود أو انكماش، ولا تتعطّل قنوات الإنتاج لدى الوصول إلى الكساد. ضخّ السيولة وسحبها من السوق، ومعها التحكُّم بأسعار الفائدة والسياسة الضريبية هي أدوات لا تصدأ بالفعل، ومع الكينزية التي وجدت المخرج لأزمة فائض الإنتاج ازدادت صلاحيتها أضعافاً مضاعفة. لكن ذلك لا يغني عن نقدها باستمرار، وفي كلّ منعطف تمرّ به الرأسمالية، لأنّ معرفة طريقة عملها هو السبيل الوحيد لتجاوزها لاحقاً، حين تنضج الظروف لذلك.
* كاتب سوري