ما يوجد في العراق اليوم ليس دولة، وإنّما هو عصر استيلاء البداوة على الدولة المدنية
افتتح العهد الجمهوري (عام 1958)، بإلغاء أوّل مجلس حكومي للتنمية (مجلس الإعمار في العهد الملكي)، والذي كانت قد خُصصت له 70% من عائدات بيع النفط، ولم تكن مرّت على تفعيل المجلس سوى سنوات قليلة جداً، فلم يلحق أن يكمل تنفيذ رؤيته الاقتصادية. والبديل الذي وضعته الثورة، بعد سنتين من عمرها، كان خطة التنمية الخمسية التي بدأ تفعيلها عام 1962، أي أنّها بالكاد أتمّت عامها الأول عندما ماتت وذُبح زعيم الثورة. وقتها، كان لدى السياسيين والعسكريين ما هو أهم من التنمية وخطتها، التي جرى تجميدها، فانشغلوا سنوات عدّة بإزاحة بعضهم البعض، حتى نجح «حزب البعث» في تنفيذ انقلابه (عام 1968)، فألغى كل خطط النظام القديم وراح يجتثّه من الجذور. وبعد سنوات عدّة من الصراعات الداخلية، ينجح النظام الجديد في تأميم النفط (حزيران 1972) وعندها فقط تنطلق أكبر عملية تنمية في تاريخ العراق الحديث، وأطولها عمراً بمقاييس العراق، حيث استمرّت حتى عام 1980 عندما قرّر الديكتاتور صدّام حسين حرق كلّ ثروات البلاد، بل وثرواتها المستقبلية أيضاً التي سُجّلت باسم الدائنين ومصدّري الأسلحة، في حرب جنونية مدمّرة مع إيران، على مدى ثماني سنوات كاملة، جُمّدت خلالها ـــــ بالطبع ـــــ كل مشاريع التنمية. وعندما انتهت الحرب، لم يكن أحد في السلطة يتحدّث عن أية تنمية، فقد كان الاهتمام مركّزاً على أسئلة عقيمة مثل: كيف السبيل للخروج من بئر الديون الخرافية التي موّلت الحرب؟ وكيف سنَأْمن جانب عشرات الألوف من المسرّحين من الجيش، وآلاف الخرّيجين، في بلد منهك ومفلس؟ ويبدو أنّ القنوط، والجنون أيضاً، انتهيا بالديكتاتور إلى نتيجة مفادها أنّ شنّ حرب أخرى، ونهب بلد «شقيق» سيكونان الحلّ السحري لكلّ تلك الأسئلة، ويفتح خزائن علاء الدين. ونحن نعرف ما حصل بعد ذلك.
العراق، إذن، لم تُتح له أبداً الإمكانية لبناء قصته التنموية. إنّه لم يخض التطور الاجتماعي المتكامل لفترة زمنية كافية (تترسّخ خلالها تقاليد الحداثة، ويتمرّس الناس في القيم الجديدة)؛ وهذا النقص حرمه من تحقيق التراكم الثقافي المطلوب، والضروري، لتكوين الذهنية الحضارية الجمعية أو «ذاكرة المجتمع»، كما دعاها رفعت الجادرجي. إذا كانت الطبيعة البشرية، كما تقول نظرية التناشز الاجتماعي، تجد صعوبة في اللحاق بسرعة التطور الحضاري، وبالتالي تظلّ القيَم القديمة كامنة في الأفراد إلى أمدٍ بعيد، حتى بعدما تتجاوزها حركة المجتمع المادية، فكيف سيكون الحال وحركة التطوّر المادي هذه، نفسُها، تنقطع ما إن تبدأ، وتنتهي في كل مرة نهاية صادمة: انقلاب دموي أو تصفيات جماعية أو حرب شاملة؟ ربما لم يُبْتَلَ شعبٌ آخر، على حدّ علمي، بمثل هذه الظاهرة، وعلى هذه الدرجة من التطرّف.
العاقبة السيئة لهذا الخلل هي، كما يمكننا أن نتوقّع، إصابة البنية الثقافية للمجتمع والبنية الذهنية للفرد بهشاشة مستديمة. وهذه الهشاشة، بدورها، تُغري الأنماط الثقافية المتربّصة (كالثقافة البدوية في حالة العراق تحديداً)، فتهاجم الوعي الجمعي، مهاجمةَ الفيروس لجسد ضعيف المناعة، وتصادره. وقد حصل هذا الأمر، بحذافيره، عند سقوط الدولة العراقية (عام 2003)، وتفتيت البلاد قومياً وطائفياً، وإلى اليوم. فما يوجد في العراق، اليوم، ليس دولة، وإنّما هو عصر استيلاء البداوة على الدولة المدنية. وإذا كان هذا الطرح يذكّرنا بنظرية علي الوردي، فإنّ ما لم يتخيّله الوردي هو أنّ هذه العملية التي كانت في الماضي تحصل بشكل طبيعي، صار يتمّ تخليقها اليوم في مختبرات السياسة الدولية؛ والمشهد الرمزي الذي يختزل كل شرح لهذه الموضوعة، هو مشهد وقوف الجنود الأميركيين مكتوفي الأيدي، وهم يتفرّجون على نهب الغوغاء لدوائر الدولة. هذا هو الثمن الرهيب الذي ندفعه، وسنظلّ ندفعه إلى أمد طويل، لقطعنا المتكرّر لمسيرة التنمية بسكّين الجدالات الأيديولوجية العقيمة.
*كاتب عراقي