منذ إعلان انتشار فيروس «كورونا» المستجدّ على مساحة العالم، و تحوّله إلى وباء عالمي، ونحن نرى يوماً بعد يوم تبعات صحية، اقتصادية، اجتماعية، وسياسية. كذلك، نرى ضعف وهشاشة بعض الأنظمة، التي لطالما كان منظّروها يسوّقون لها على أنّها مستقبل الحضارة، ومثالٌ يحتذى لكل ما اصطُلِحَ على تسميته بدول العالم الثالث أو النامي.

وهنا، لا أريد الخوض في الحديث عن التبعات السياسية على دول الاتحاد الأوروبي، أو العلاقات الدولية بين الولايات المتحدة وحلفائها من دول شمال الأطلسي، أو بين هذه الدول وأخرى، في اصطفافات مختلفة مثل الـ«بريكس» أو غيرها.
ما يلفتني، هو بالتحديد تبعات هذه المعضلة العالمية على نظرتنا وتحليلنا لأُسُس النظام الاجتماعي الاقتصادي، الذي دأبنا كبيادق على المشاركة فيه، من حيث ندري أو لا ندري، وعلى خدمته من دون أن تُتْرَك لنا الفرصة للتفكير في بديلٍ له، أو تعديلاتٍ تتماشى مع مصالح الفئات الأكثر فقراً، مثلاً لا حصراً. لا بل كان يدأب هذا النظام وأدواته، ولا يزال، على كمّ كلّ الأفواه والأصوات المغرّدة خارج السرب، بشكلٍ فاضحٍ حيناً، باستخدام قوّة السلاح أو السجن وغيرهما، أو بشكلٍ «ديمقراطيٍّ» أحياناً أخرى، ليتماشى مع «أرباب الديمقراطية في الغرب»، بحسب تعريفهم لهذا المصطلح، مستخدماً المال والإعلام، والإعلاميّين، والقضاء والنواب وغيرهم.
وبما أنّ الـ«كورونا» يشلّ كوكبنا، منذ قرابة الثلاثة أشهر، لا بدّ لنا أن نستغنم الفرصة (إن صحّ التعبير) لنأخذ قسطاً من التفكير وإعادة التقييم لأمورٍ كان النظام الحالي يفرض علينا، بالرّوتين اليومي ونمط الحياة السريع، التسليم بها، بدون نقاشٍ يُذكر.
فقد اتّضح، خلال هذه الأزمة وجود مشكلة هو أنّ الأمن الصحّي والأمن الغذائي والأمن الصناعي للسلع الحيوية الأساسية، إما مفقود كلياً ـــ وهذا حال جميع دول العالم الثالث والنامي كما يُصطلح على تسميته ـــ أو في أحسن أحواله تشوبه شوائب ونواقص كما هو الحال في أوروبا، والولايات المتحدة، وغيرهما من دول العالم التي صَنّفت نفسها أولى.
فبعد نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الولايات المتحدة فيها (وأقول فقط الولايات المتحدة) دأبت هذه الدولة، وهي عبارة عن الراعي الأبرز للشركات المتعدِّدة الجنسيات والرساميل الكبيرة، على تصنيف وتوزيع الأدوار على باقي دول العالم، بما يتناسب مع حاجة أصحاب الرساميل والشركات المتعدّدة الجنسيات (وليس حتى مع ما يتناسب مع متطلّبات الشعب الأميركي)، لتستمر في إنتاجها وربحها وسيطرتها بأقلّ الأكلاف، من دون الأخذ في الاعتبار حاجة هذه الدول وشعوبها ومصالحها الخاصّة.
فكان، على سبيل المثال لا الحصر، المطلوب من دولٍ كالبرازيل، إنتاج القهوة أو الكاكاو أو زيت النخيل دون غيرها من المنتجات الزراعية أو الصناعية، وبيعها للشركات الأُم كي تقوم هي، بالصناعات الغذائية المناسبة وإعادة تصديرها إلى باقي دول العالم، ومن ضمنها البرازيل، بما يضمن الربح بأقلّ كلفة ممكنة. كذلك الأمر بالنسبة إلى الصناعات، حيث قامت أخوات هذه الشركات باستخدام أراضي الدول النامية، ومخزونها من الثروات الطبيعية والمواد الأولية واليد العاملة الرخيصة، (وبالمناسبة هي رخيصة لأنّ النظام العالمي أرادها كذلك) للقيام بإنتاجها الصناعي بالشكل الذي يناسبها. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، أخذت هذه السياسة بالتوسّع بشكلٍ أسرع وأوحش، فكانت إحدى النتائج، أن تقبض هذه الشركات ومعها الولايات المتحدة، على اقتصادات باقي الدول وأمنها الغذائي والصحي والصناعي، وبالتالي الأمن السياسي والقومي.
وبالعودة إلى لبنان، فقد كانت هذه السياسات المرسومة والمعمول بها منذ الاستقلال، وباستخدام اليمين اللبناني وبقايا إقطاع القرن التاسع عشر وما قبله، هي القاعدة، مع بعض بوارق أملٍ تظهر هنا وهناك، من خلال التحرّكات العمّالية، والطلّابية، وقانون الأحزاب، وقانون العمل والضمان الاجتماعي، والجامعة اللبنانية، وتحرّكات الريجي... من الخمسينيات حتى سبعينيّات القرن الماضي، فجاءت الحرب الأهلية لتقضي على هذا الأمل، وهكذا كان.
أما بعد التسعينيات، فقد عاد المشروع، وبشكل أشرس، من خلال رجال أعمال متوحّشين، ولكنّهم يلبسون بزّاتٍ رسمية، وياقات تحمل على الاعتقاد بأنّهم أصحاب مشاريع تنموية كبرى، ستحوّل البلد إلى هونغ كونغ الشرق، أو هكذا أوهمونا، لتمرير المشروع.
للأسف، كان معارضو هذه السياسات يواجَهون دائماً، بأنّهم يغرّدون خارج السرب، وأنهم يعارضون من أجل المعارضة، وأنّ المستقبل الحديث والعالم المعاصر يقضيان بتغيير هذه العقلية والأفكار اليسارية المهترئة، لأنّها ما عادت تُناسب النظام العالمي الجديد والمعاصر، فـ«الشُّغُل ماشي والبلد ماشي». وللأسف أيضاً، كان القصف لهذه المعارضة الحقيقية، يأتي أكثره من أحزابٍ وتياراتٍ كان يفترض بها أن تحمل لواء اليسار والاشتراكيّة، وليس من أحزاب يمينيّة كانت يومها في حالة إقصاء من ضمن الصفقة السورية ـــــ السعودية. وكان الأجدر يومها، أن تخلع هذه الأحزاب والتيارات عنها ثوب الحمل، وتلبس ثوب اليمين التي كانت تقوم بحملته بدلاً عنه.

الآن وبعد مضيّ هذه السنين كلّها، أصبح من الممكن الجزم، بأنّ المشروع الأكبر هو التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي والتوطين


ارتكزت هذه السياسات على قتل الزراعة الوطنية، وذلك على حساب بيع الأراضي، وتشييد الأبنية، وتحويل المساحات الخضراء إلى مشاريع عمرانية وخدماتيّة، بحُجّة أنّ الزراعة لم تعد تستطيع منافسة دول الجوار والعالم. كذلك الأمر بالنسبة إلى دعم الصناعات المحلية. لا بل الأخطر كان محاولة القضاء على الجامعة اللبنانية الوطنية، على حساب جامعات خاصّة «غبّ الطلب» ومعاهد، انتشرت كالفطر تقوم بتخريج أعدادٍ هائلةٍ من الجامعيين من دون توجيهٍ يتماشى مع حاجات البلد، تماماً بما يخدم القطاعات الخدماتيّة والسياحية والعقارية. فكنّا، وما زلنا، نرى خرِّيجي الـBusiness والـBusiness Administration (التي يجب أن تُلفَظ باللغة الإنكليزية) وأخواتهما، خرّيجين لم يبقَ لهم ما يعملونه في هذا الوطن، فكانت التضحية بهم وتصديرهم إلى الخارج، الشّريك في المؤامرة.
أما النتيجة على الصعيد العملي، فكانت أن نرى المزارعين في الساحل يبيعون أراضيهم لإقامة المسابح والمنتجعات، على حساب حقول الموز والليمون وغيرهما. لا حاجة لنزرع، فلنذهب إلى المسبح إذا كان بمقدورنا أصلاً، ولنأكل البرغر هناك.
مزارعو الجبل اضطُرّوا إلى تشييد المباني على أراضيهم الزراعية، ومن ثمّ إلى بيعها لأهلنا في الدول العربية، فحتّى قانون التمليك للأجانب لم يضمن حقّنا في الحفاظ على أملاكنا كلبنانيين، حيث إنّ الإيجار كان ليضمن على الأقل استمرارية المدخول على المدى الطويل، إذا كان هناك من سياحةٍ أصلاً، والأمر غير مستغرب، فرئيس الوزراء كان شيخاً عربياً رحمه الله.
مزارعو البقاع كانوا الأخيرين في محاولة الصمود، حيث لا بحر ولا سياحة، فإما انتقلوا إلى زراعة الحشيشة وتخدير ما تبقّى من عقول في هذا الوطن، وإما باعوا محصولهم بأبخس الأثمان أو أتلفوه. الحرفيّون حدّث ولا حرج، فالصناعة اختفت أو كادت تختفي.
وكمثالٍ على ذلك، يكفي أن ينظر كلٌّ إلى محيطه، أو قريته، أو مدينته ليلاحظ الكمّ الهائل من محالّ الأكل والشاورما، والنرجيلة، والـOMT،وتصليح وبيع الهواتف، والدكاكين التي لا تبعد عن بعضها البعض عشرات الأمتار، فالجميع يعمل بالـBusiness الآن، أربح و«أكلس». تَراهُم يفترشون مداخل محالّهم التجارية مع نرجيلاتهم، لقتل الوقت والعقل والجسد. أين سياسة الدولة في التوجيه نحو القطاعات المهملة، كيف يمكن أن نجد عاطلين عن العمل في حين أنّ الزيتون يندثر بدون عناية، عاطلين عن العمل وأراضيَ لا نجد من يستصلحها ويزرعها؟ أم أنّ الزراعة أضحت عاراً في زمن العولمة في لبنان؟ وإن بقي لديك أمل للتفكير، فإنّ البرامج الفنيّة اليوميّة التافهة، أو أخبار المشاهير التافهين، كفيلة بقتل الوقت المتبقّي، وبالإجهاز على ما تبقّى من عقولنا وثقافتنا.
هذه «الحريريّة» السياسية، ومن الظلم تسميتها كذلك، ولكن هكذا اصطُلِح، اعتمدت على شُركاء وأدوات، من دونهما لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه. فكان دور الساسة الشركاء في الترويكا، والدويكا، ورجال الدين، والجمعيات الخيريّة والـNGO، الذين لم نعد نسمع بهم خلال الأزمة الحالية، ودور الإعلام، ودور مخرجي البرامج السخيفة، ومدراء المحطّات الإعلامية الذين ألغوا البرامج التثقيفية (أين أصبح برنامج المميّزون مثلاً...؟)، ودور المصارف، ودور الفاسدين في إداراتهم إلخ... إذاً، فكلٌّ يعمل من موقعه على خدمة هذه المنظومة الكبيرة، من حيث يدري أو لا يدري، وبالمقابل كانت الأغلبية المظلومة من شعبنا يتم إسكاتها بتوظيف استنسابي وعشوائي (طفرة موظّفي الدولة والقطاع العام والجيش والأمن مثلاً)، أو من خلال دفع أقساط المدارس والجامعات الخاصّة، أو بتنفيعات التلزيمات، أو بشطب ضبطِ مخالَفة، أو بغضّ النظر عن سرقة كهرباء من العامود، أو بالإخراج من السجن من دون محاكمة، أو بحماية مرتكبين وسارقين وقتلة أحياناً في قصور الزعماء، أو بكل وقاحة بمساعدات قبل الانتخابات، والقائمة تطول. الأقليّة المعترضة مهمّشة مادياً وإعلامياً وطائفياً، وبدون حيلة أو أدوات للمواجهة، تماماً كالولد المعنَّف الذي يتحدّى والده، والمباراة هنا غير عادلة. وهكذا كنّا، كشعب لبناني، على قياسنا أيضاً، فاسدين ومشاركين في الحفاظ على هذه المنظومة الحاكمة، من دون أن ندرك المآل الخطير الذي بدأنا نلمسه قبل الـ«كورونا».
وأمام كلّ هذا يأتي السؤال، كيف كان يأتي المال بدون إنتاج، ومن أين ولماذا كانت الدول المتموّلة، والتي تعرف «البير وغطاه»، دائماً مستعدة لإمداد هذه المنظومة بالمال اللازم للحفاظ على «لبنان»؟
الآن، وبعد مضيّ هذه السنين كلّها، أصبح من الممكن الجزم، بأنّ المشروع الأكبر هو التطبيع مع العدوّ الإسرائيلي، والتوطين، والقبض على قرار الدولة السيادي والسياسي، مقابل شطب الدَّين. طبعاً هذا الكلام ربّما كان معروفاً للكثيرين سابقاً، وقد حذّرونا منه، إنّما في حينها، وكون الأغلبية كانت منشغلة في روتينها اليومي بما يخدم هذه المنظومة كما أسلفنا، من دون أن تتمكّن من التقاط أنفاسها لترى الصورة الكبرى للمشروع، كان هكذا كلام يُشار إليه بالخيالي، واللامنطقي، و بنظريّة المؤامرة لدى البعض... وقد عملت كلّ الأدوات التي ذكرتُها على التأكّد من أنّ أيّ رأيٍ من هذا القبيل يكون مصيره التهميش. والأمثلة كثيرة، من نجاح واكيم إلى سليم الحصّ....
كان المسار العام للسياسة «الحريرية»، يقوم بتحويلنا باختصار من مجتمع مُنتِج، إلى مجتمع استهلاكي ومديون، حتى السياحة لا دور لها فيه بدون بنى تحتية مناسبة، (نقل عام مثلاً) أو بدون استقرار أمني لن نجده يوماً، طالما الكيان الصهيوني موجودٌ على حدودنا. فهل كان المسؤولون عمّا آلت إليه الأمور يدركون ما يفعلون؟ وفي الحالتين مصيبة!
الشرح يطول. أما في زمن الـ«كورونا»، وبعدما شُلّت مفاصل التجارة الدولية، وأصبحت البلدان كلّها منشغلة في حلّ أزماتها الداخلية، فتتّضح لنا فداحة ما فعلنا بوطننا ومجتمعنا. في حين يصرّ القيّمون على السياسة «الحريرية» وأدواتها من الإعلام وغيره، على الاستمرار في النهج الريعي نفسه، من خلال كرنفالات التبرّعات والتهريج ما شاء اللّه، علّهم بذلك يقضون على الذاكرة الوطنية.
لقد اكتشفنا أنّه إذا فُرِض علينا الحصار، سنموت جوعاً، وإن كنّا نمتلك بعض «المعلّبات» (المستوردة طبعاً)، حيث إنّنا غير قادرين على صناعة «فتّاحة علب» لنأكل ما عندنا من مونة!
إنّها ربّما الفرصة المناسبة لالتقاط أنفاسنا، والتفكير في الأسباب التي دفعتنا إلى هنا، وطبعاً التفكير في الحلول.
فلتكن هذه الفرصة لإعادة الاعتبار إلى زراعتنا، إلى صناعتنا الوطنية، وهنا مثالٌ عن مهندسين لبنانيّين خرّيجي جامعتنا الوطنيّة يدأبون على صناعة أجهزة تنفُّس، وغيرهم كثُر، ونحن قادرون.
فلنُعِد تقييم أولويّاتنا في الأمن الغذائي، والصحي، والصناعي، وبالتالي السياسي والقومي. فلنُعد الاعتبار إلى مزارعينا، وحرفيّينا، وصناعيّينا، فهم الأساس، وليس لأصحاب الرساميل الضخمة في البنوك، التي اتّضح أنّها في الأزمات تساوي حبراً على ورق. فنحن اليوم، في أحوج ما يكون إلى مزارع القمح منه إلى وجهاء يخبّئون ملايين الدولارات في مصارف لا يستطيعون التصرّف بها، لم نعرف يوماً ما هي مهنتهم، وما هو نشاطهم اليومي، غير مشاهدتهم في المآتم والأعراس والمناسبات الاجتماعية، يحتلّون الصفوف الأولى، ويمهّدون لانتخاباتٍ بلديةٍ هنا، أو نيابيّةٍ هناك. ما هو دورهم في الحلقة الإنتاجية التي كدنا نفقدها؟ ماذا يصنعون؟ ماذا يزرعون؟ ما هي الخدمة التي يقدّمونها إلى المجتمع من خلال وظيفتهم؟ وهنا طبعاً، لا أتحدّث عن الذين كسبوا مدّخراتهم بأعمالهم الشريفة والمعروفة، بل عن الأشخاص الذين لم ينجح أحدٌ يوماً في معرفة ما هو مصدر رزقهم.
نعم نحن بحاجة إلى «نفضة» جديدة، قد نكون أيضاً بحاجة إلى مدّ يد العون من بعض الدول الصديقة، أو المشرق كما يُشاع حاليّاً. لِمَ لا؟، ولكن حذارِ فالأساس هو تغييرٌ داخليٌّ لهذا النمط الاقتصادي الاجتماعي، وهو التغيير نحو ما يُعرف بالدولة والمؤسّسات، دولة القانون والكفاءات. نعم، إنه شيءٌ لم نعرفه يوماً في لبنان حتى يومنا هذا، دولة توجِّه إنتاجها واقتصادها، بالشراكة مع القطاع الخاص ربما، ولكن بعد أن تقبض على مفاصل الأمن الصحّي والزراعي والصناعي، وبعد أن تؤمّن لمواطنيها بمقابل إنتاجهم وعملهم، حياةً مدنيةً وحمايةً اجتماعيةً تليقان بعصرنا الحديث.
أما التهليل والتزمير لمشاريع خارجية، فقد يكونان استبدالاً فقط للعولمة الحالية بعولمةٍ من نوعٍ جديد... وعَوْدٌ على بدء.

* طبيب لبناني يُقيم ويعمل في باريس