منذ 17 تشرين الأول المنصرم، ارتفعت وتيرة إصدار حاكم مصرف لبنان لقرارات متنوعة تهدف إلى «تنظيم» العلاقة بين المصارف وزبائنها، وتحديد آليات مختلقة لاحتساب سعر صرف الليرة اللبنانية. إن تدخل الحاكم المتزايد من دون وجود ضوابط قانونية واضحة ترعى الأحكام التنظيمية التي تنص عليها هذه القرارات، يطرح مسألة الطبيعة القانونية لهذه الأخيرة، ومدى امكانية الطعن فيها من أجل حماية المودعين. وقد تجلى هذا الأمر بشكل واضح في القرار الأساسي الرقم 13215 الذي اتخذه حكم مصرف لبنان بتاريخ 3 نيسان/ ابريل 2020، المتعلق بالاجراءات الاستثنائية حول السحوبات النقدية، والذي يستحدث مفهوم «الحسابات الصغيرة» بشكل اعتباطي. كما أن الحاكم، من أجل تطبيق هذا القرار، أصدر في التاريخ نفسه القرار الأساسي الرقم 13216 الذي أنشأ منصة إلكترونية تضم مصرف لبنان والمصارف ومؤسسات الصرافة، كي تحدد سعر الصرف وفقاً لمعايير غامضة لا تؤدي إلى احترام المساواة بين المودعين الذين يوجدون في الوضعية القانونية ذاتها، لا سيما إذا كان سعر الصرف سيختلف من بنك إلى آخر.
سيرجيو إنغرافاليه - ألمانيا

وقد وصل الأمر إلى درجة إدلاء بعضهم بتصريحات تنم عن جهل مطبق بكل المبادئ القانونية، معتبراً أن لقب «الحاكم» إنّما يمنح صاحبه استقلالاً تشريعياً وتنفيذياً وقضائياً. هكذا يخال المرء أن مصرف لبنان بات دولة ذات سيادة، ومستقلة بشكل تام عن الجمهورية اللبنانية.
لذلك، بات من الضروري التذكير ببعض المبادئ الأساسية، كي نفهم الطبيعة القانونية لقرارات حاكم مصرف لبنان. ومن أجل التأكيد أن استقلال مصرف لبنان هو مبدأ ضروري بقدر ما يحافظ على سياسة مالية سليمة للدولة، وهو لا يمكن له أن يتعارض بأي شكل من الأشكال مع مصلحة البلاد العليا. وكما أن القانون أنشأ مصرف لبنان، يمكن للقانون أن يعدل من صلاحياته، لا بل له أن يلغي المصرف برمته وينشئ مؤسسة اصدار نقد جديدة، أو أن يمنح امتياز اصدار النقد لمصرف خاص، كما كان الحال قبل 1964 عندما تولى بنك سوريا ولبنان هذه المهمة.
إن توضيح هذه النقاط يتطلب تحديد الطبيعة القانونية لمصرف لبنان، وبالتالي معرفة الأسس التي ينطلق منها الحاكم لاتخاذ قراراته. بالفعل، إذا عدنا إلى قانون النقد والتسليف الصادر بالمرسوم الرقم 13513 تاريخ 1 آب/ أغسطس 1963، يتبين لنا أن المشترع أسبغ على مصرف لبنان طبيعتين مختلفتين، وفقاً لما جاء في المادة 13 من القانون المذكور، إذ أعلنت صراحة أن «المصرف شخص معنوي من القانون العام ويتمتع بالاستقلال المالي»، بينما أضافت لاحقاً أنه يعتبر تاجراً في علاقاته مع الغير، لذلك «لا يخضع لقواعد الإدارة وتسيير الأعمال وللرقابات التي تخضع لها مؤسسات القطاع العام». وبالتالي، أناط القانون بمحاكم بيروت دون سواها صلاحية النظر في جميع النزاعات بين مصرف لبنان والغير.
يتبيّن لنا أن مصرف لبنان هو شخص معنوي من القانون العام فيما أنشطته المصرفية مع القطاع الخاص تجعل منه تاجراً يخضع في تصرفاته للقانون الخاص


يتبين لنا أن مصرف لبنان، بوصفه المصرف المركزي للدولة، هو شخص معنوي من القانون العام، فيما أنشطته المصرفية مع القطاع الخاص تجعل منه تاجراً يخضع في تصرفاته للقانون الخاص، إذ يتم فض النزاعات التي قد تنشأ بينه وبين سائر الاطراف أمام القضاء العدلي. وقد أكد مجلس شورى الدولة هذا التفريق إذ أعلن: «وبما أن النزاعات المقصودة في الفقرة الأخيرة من المادة 13 المشار إليها هي النزاعات التي يتصرف فيها مصرف لبنان في علاقاته مع الغير كتاجر، بمفهوم الفقرة الثانية من المادة ذاتها، أي كشخص من القانون الخاص، فتخضع تصرفاته كسائر التجار لصلاحية المحاكم العدلية ومراقبتها. أما سائر الاعمال التي يتصرف فيها المصرف المركزي كسلطة عامة مكلفة بتسيير مرفق عام، فتبقى خارج ولاية القضاء العدلي، عملاً بمبدأ التفريق بين السلطتين القضائيتين الادارية والعدلية» (قرار رقم 278 تاريخ 15/2/1995).
ولما كان مصرف لبنان يمارس سلطة عامة اقتصادية (police économique) تنبع من طبيعته كشخص معنوي عام، فهو يتخذ قرارات أحادية نافذة وملحقة للضرر تخرج عن طبيعة العلاقات التي تحكم القانون الخاص، حيث تسود المساواة بين مختلف الأطراف.
علاوة على ما تقدم، نلاحظ أن القرار الأساسي الرقم 13215 يستند في بناءاته إلى المادة 70 من قانون النقد والتسليف التي تحدد مهام المصرف المركزي المختلفة. «وبما أن المشترع قد أعطى والحال هذه بموجب المادة 70 من قانون النقد والتسليف حاكمية مصرف لبنان وسائل تنظيمية (Moyens Réglementaires) لتنفيذ سياستها النقدية ومنحها امتيازات السلطة العامة (Prerogatives de puissance publique) لاتخاذ أعمال أو تدابير من جانب واحد، تنشئ بحد ذاتها واجبات والتزامات للأشخاص الثالثين، علماً بأن القانون الخاص لا يعرف مثل هذا النوع من التدابير» (مجلس شورى الدولة، قرار رقم 160 تاريخ 6/12/1993)، يتيبن لنا أن القرار الأساسي المذكور هو ممارسة مباشرة لصلاحيات السلطة العامة التي أوكلها المشترع إلى مصرف لبنان، بغية تحقيق مهمّته التي يجب أن تهدف في نهاية المطاف إلى الحفاظ على المصلحة العامة.
وبما أن القرار الأساسي رقم 13216 يضع الأسس لتحديد سعر صرف الليرة اللبنانية بالنسبة إلى فئة معينة من الحسابات المصرفية، فهو يشكل تدبيراً اقتصادياً ومالياً له تداعيات أكيدة على النقد الوطني، من حيث قوته الشرائية. وبالتالي يكون المصرف المركزي قد اتخذ خطوة للتدخل في السوق بشكل فعال، وذلك استناداً لصلاحياته بوصفه جهة خوّلها القانون ادارة مرفق عام عبر سلطات خارقة (pouvoir exorbitant).
وبما أن القرار المذكور «متخذ بالاستناد إلى قانون النقد والتسليف، فهو من حيث طبيعته من عداد القرارات المتعلقة بالحفاظ على النظام العام» (قرار رقم 160 تاريخ 6/12/1993)، يكون هذا القرار خاضعاً لرقابة القضاء الاداري المتمثل في لبنان حالياً بمجلس شورى الدولة، بوصفه المحكمة الادارية العليا التي يعود لها مراقبة مشروعية هذا العمل وإبطاله لتجاوز حد السلطة.
إن التذكير بهذه المبادئ البديهية بات ملحّاً، لكون الهالة المصطنعة التي أحاطت بحاكم مصرف لبنان جعلت منه يتمتع خلال عقود طويلة بحصانة لا أساس قانونياً لها. ولا شك في أن سقوط هذه الهالة يعيد التذكير بواجبات الدولة ودورها الذي جرى تهميشه، من خلال استبدال منطق القانون والمؤسسات، بنظام الزبائنية الذي يقوم على سلطة الأمر الواقع لزعماء الطوائف الذين لا بقاء لهم إلا في ظل دولة ضعيفة.
*أستاذ جامعي