لم يكن ينقصنا في هذا البلد، المنخور في تركيبته السياسية حتى العظم، إلّا أن يتسلّل إليه، وعن سابق تصوّر وتصميم وتخطيط، العميل الفار من وجه العدالة عامر الفاخوري؛ فبين مجيئه إلى لبنان وتهريبه منه، وفي كلتي الحالتين جهاراً نهاراً، من خلال محميين من السلطة ومحميات فيها، يفتون ويقضون ويهرّبون... لا رادع يردعهم ولا مانع يمنعهم: لهم المطار الشرعي ليُستقبل من قبلهم وبالبزة الرسمية، والآخر خط عسكري خارج عن القانون، غير شرعي ومشتبه فيه، لا ندري ماذا يأخذ ولا ماذا يستورد، وإن بانت وجهته الحقيقية مؤخراً، والتي هي التهريب، ولكن السؤال الأهم هو: بأمرٍ ممن أو بتنسيق مع من؟ لقد أصبح بحكم المؤكّد، لمن فعل تلك الفعلة، أن له في السلطة متنفذاً وفي القضاء قاضياً يقضي على كل ما قدمه الشعب اللبناني من نضالات ودماء بذلها في قضيته الوطنية، وله في غرف الليل من يخطط ويرسم الخرائط ويحيك المؤامرات ويدس الدسائس، كي يرضي ذلك الرجل الأبيض ذي الشعر المذهّب، القابع في البيت الأسود، يقتل ويغزو ويحاصر ويُؤلّب ويفرض العقوبات... ليُسبّح بحمده، منتظراً منه كلمة شكر يستجديها ثمن ولاء أعمى، ملبوساً بدونية متوارثة أباً عن جد، لأن القابع في جهة الغرب من لبنان، بالنسبة له، دوماً على حق!لم يكن ينقصنا إلّا ذلك، ونحن نواجه مفاعيل السياسات المتبعة منذ سنوات، والتي أوصلت البلاد إلى الانهيار والشعب إلى المجاعة، بفضل نظام سياسي رُكّب على عجل كي يؤمن مصالح «التمدّن» القادم من الغرب، يلهج بكيل المديح له وهو مطأطأ الرأس، كسباً لودّ لن يناله، وموقع لن يشغله، إلّا إذا نفّذ المطلوب منه، حتى ولو كان على حساب حقوق الشعب أو من جيبه. هو ذلك المسار، الذي قسّم الخيمة إلى اثنتين، واحدة لضفة الخنوع والتبعية والارتهان وثانية ليشغلها من نكّل ببعضهم ذلك الفار من وجه العدالة خدمة لمشغّليه: وهمّ الذين ذلّوا أسياده وأولياء نعمهم، ومرّغوا أنوفهم في التراب وأجبروهم على الفرار، وتحت جنح الظلام، إلى ما وراء أسلاك القسمة ــــ التي رسمها أجدادهم المستعمرون عندما أعطوا لمن لا يستحق ما ليس له أو لهم ــــ وإلى عرض البحر، مذعورين مهزومين، ولمرتين.
لم يكن ينقصنا إلّا ذلك، ونحن نتعايش، بحكم الواقع، مع طغمة حاكمة ومستبدة، تنطق بلسان أسيادها الموزعين على أربع جهات الأرض، وفي مراكز النهب والسلب العالمية، من صناديق النقد إلى التجارة إلى أصحاب الرأسمال الفالت على فقراء العالم والمتفلت من كل الضوابط والكوابح؛ ينفذون الأوامر وهم صاغرون لا تثنيهم أخلاق أو يردعهم ضمير، باعوهما في سوق الولاء المفتوح على الحصار والعقوبات والتحكم والتبعية حدّ العمالة.
لم يكن ينقصنا مع كل ذلك، إلّا «كورونا»، الذي بالرغم من خطورته، إلّا أنه قدم لسلطة التسويات المتلاحقة الحاكمة «سُتَراً» كثيرة؛ فبه تستّر من نطق بحكم اعتبر فيه أن العمالة للعدو هي جرم جنائي يخضع للقوانين الوضعية كما بقية الجرائم وتسري عليها موجباتها. لم يدُر في خلد، من مرّ تحت ناظريه ذلك الملف، بأن معه تسقط كل القوانين وكل الاعتبارات؛ ففعل الخيانة الوطنية ليس له إلّا حكمان، الإعدام أو الإعدام ولا ثالث لهما إلّا الإعدام مرة ثالثة. هنا مربط الفرس ومن هنا يجب الكلام: من خان وقتل ونكّل واستمر في خيانته وتطوّر فيها ليترقى بعمالته من البديل الأصغر إلى الأصيل الأكبر، لا يمكن أن تصبح جريمته هذه ساقطة بمرور الزمن، فالزمن هنا لا يُقاس بالأيام أو بالسنين، بل بالفعل، والذي لا تُمحى مفاعيله إلّا بفعل يردعه ويدّفعه ثمن ما اقترقت يداه، وهذا لم تتفطن له بصيرة من قرأ الملف وأفتى فيه.
وبه أيضاً تسترت الحكومة ونأت بنفسها عمّا جرى، تحججاً بمبدأ فصل السلطات، الساقط في هذه القضية أساساً، والهروب إلى الشعر والعواطف عن العدالة الإلهية التي لا تسقط بمرور الزمن، ونظن هنا، بأن في الأمر مزحة ليس لها مكان في هكذا قضايا، وبه أيضاً تغطّت، ولو مرحلياً، عن سياساتها المتصلة بما سبقها وانحيازها لأصحاب المصارف ورأس المال، وتبنيها للورقة الإصلاحية، الساقطة أصلاً مع الحكومة المخلوعة بقرار الشارع، إضافة إلى عجزها عن اجتراح حلول للأزمة المتفاقمة بسبب انتهاجها للسياسات نفسها التي أوصلت الوضع إلى ما هو عليه، وبهذا المعنى سيشكّل «كورونا» في هذه الحالة، حليفاً موضوعياً للمنظومة السياسية الحاكمة في لبنان.
لم يكن ينقصنا مع كّل ذلك إلّا «كورونا»، الذي بالرغم من خطورته إلّا أنه قدّم لسلطة التسويات المتلاحقة الحاكمة «سُتَراً» كثيرة


إنّ العجز السلطوي إذن، السائر على عكازتي الهروب إلى الأمام والتستر بالغربال لحجب إرباكه، المرتبط أساساً بطبيعته الناتجة من تركيبة منظومته السياسية والمالية، لن يستطيع أن يؤمّن موجبات ما يمرّ به البلد اليوم؛ فمن المؤكد بأن انتشار «كورونا» هو حدث كبير بما يحمله من مخاطر على صحة المواطنين وسلامتهم، وهناك ضرورة لتضافر كل الجهود الرسمية والشعبية من أجل الحدّ منه وتخفيف نتائجة، مع ما يتطلب ذلك من تضامن شعبي بين المواطنين، ولكن في المقابل، هذا لا يعطي السلطة الحق بأن تترك لحيتان المال وطغمتهم المتمثلة بأصحاب رأس المال والمصارف التحكّم في مصير البلاد والعباد؛ تُذِل المواطنين وتسطو على أموالهم وتحجزها، فيما تُهرب المليارات إلى الخارج لأصحاب الحظوة من نواب ووزراء وسياسيين ومصرفيين.
إن من سبل مكافحة «كورونا» هو الحجر المنزلي على المواطنين، وهذا ما تحرص السلطة على التوجيه إليه وتُصدر لأجله التعاميم والقرارات، لكن في المقابل، وفي الوقت نفسه، ألا يجوز، تطبيق الحجر نفسه على أصحاب المصارف سارقي المال العام والخاص، فيُحجر على أموالهم وأصولهم ويُسترد منها المال المنهوب والآخر المسلوب، ومن حماتهم المتمركزين اليوم في قلب القرار السياسي والاقتصادي للسلطة الحاكمة؟
هو سؤال موجّه بالأساس إلى من يتسلّم دفة القرار السياسي والحكومي في البلد، بموقعه الرسمي أو ذلك غير الرسمي، وهو مقترن بآخر مرتبط بقضية فرار العميل الفاخوري في وضح النهار؛ نعم لقد بينت هذه القضية مدى سطوة العامل الأجنبي، وتحديداً الأميركي، على مفاصل في السلطة اللبنانية، الأمنية منها والقضائية والمالية، وبأن لها يداً طولى في قرارتها، وهذا أصبح معلناً، وبشهادة الأحداث التي جرت والتصريحات المتتالية لمسؤولين وسفراء ومبعوثين، ومن أمام مقرات رسمية، وعلى رؤوس الأشهاد والإعلام. لكن السؤال هنا موجّه إلى المتضرّرين من هذا النفوذ والحريصين على استقلال قرار البلد السياسي والاقتصادي، الرافضين للتبعية والاستتباع والارتهان، والذين يجاهرون بهذا الموقف الرافض لأيّ وصاية على البلد أو التحكم في مصيره... ألا يستوجب ذلك منع هذا التدخل في لبنان وقطع رجله ؟
بالمنطق الشكلي، فإن الجواب سيكون بالإيجاب، لكن بواقع الحال المعيش، فإنّ المنطق السائد، المُعلن منه والمُضمر يشي بعكس ذلك. لا يجوز وتحت أي ظرف تجزئة المواجهة، لا إلى قضايا ثانوية أو إلى ساحات؛ إن فرز الساحات والنظرة الأحادية حول كل واحدة لا يخدم المواجهة بل يُضعفها، فما يصلح في العراق وسوريا واليمن ولبنان وفلسطين وحتى أبعد من حدود العرب لتصل إلى إيران وأفغانستان وفنزويلا وكوبا وبوليفيا... هو نفسه، طالما أن «الفاعل المعلوم» هو ذاته، وهذا يعني، وبكل بساطة، أن المواجهة يجب أن تكون شاملة، والشمولية هنا تعني تعدّد الساحات لمواجهة الإمبريالية وأدواتها من أنظمة وطبيعتها والوظائف الموكلة إليها، بالإضافة إلى مؤسسات الإفقار والنهب والسلب المنتشرة على طول الأرض وعرضها، في إطار المشاريع المتحركة والمتلاحقة.
فمواجهة العربدة الأميركية، المتعالية في سلوكها والمستبدة، لا يكون إلّا من نقيضها، وهذا يعني بوضوح، نقيضاً يحمل قيماً ومفاعيلَ تكون بعكس الاستبداد والتعبية والارتهان؛ لا يحاور أو يساير أو يفاوض. فكسر التدخل في الشوؤن الوطنية لكلّ دولة لا يتم إلّا من خلال إجراء الحجر «أحصنة طروادة» التدخل، المرابطة عند كل مفرق أو تفصيل أو قضية؛ ففقدان المناعة الوطنية يعطي لـ«كورونا» العصر، الإمبريالية الأميركية، بوابات الدخول المشرّعة والشرعية: وها هو العالم اليوم أمام مفترق طريقين، واحدة يمثلها رأسمال متوحش، خارج عن القانون والسيطرة، عاث حروباً وقتلاً ونهباً وبأحادية موصوفة منذ التسعينات وحتى اليوم، الإنسان في آخر اهتماماته، إن لم نقل ليس مُدرجاً فيها أصلاً، وثانية، للنقيض، الذي يحاول، بما ملكت يداه أن يساهم في تخفيف آثار هذا التوحش الفالت. الخيار واضح، فلنبادر، لقد آن الأوان.
* عضو المكتب السياسي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني