لا غرابة في أن يعود سؤال التطبيع إلى الواجهة بقوة، مرة أخرى بعد الإعلان عن «صفقة القرن» التصفوية في واشنطن. فالصفقة تعتمد أساساً على قبول العالم العربي الرسمي بمشروع الاستعمار الاستيطاني على أرض فلسطين التاريخية، وما يعنيه ذلك من قبول تامّ بتجليات هذا المشروع من احتلال وتطهير عرقي ممنهج ونظام أبارثهيد، بل التمهيد العملي للتخلّص من الشعب الفلسطيني، إما من خلال حشر جزء منه في معازل عرقية ضيقة، وحشر جزء آخر في معسكرات اعتقال محكمة الإغلاق، أو عبر قبول البعض منه بمرتبة مواطنين/ ات من درجة ثالثة، ونسيان ما تبقّى في المنافي. كل ذلك يتطلّب انصياعاً كاملاً لعقلٍ مستعمَر يؤمن أنّ «الحوار بين الطرفين» غير المتكافئَين ممكن، بل ضروري، من أجل تحقيق «حلم الاستقلال» على جزء فسيفسائي من أرض فلسطين التاريخية.تحقيق يتطلب بالضرورة عودة «الطرفَين» إلى مائدة المفاوضات. أي توفير ورقة التوت لما تمارسه إسرائيل من مصادرة آلاف الدونمات من أراضي الضفة الغربية، والاستمرار في بناء الجدار العنصري، وحصار غزة الإبادي، إضافة إلى القبول بيهودية الدولة والتخلّي طواعية عن حق عودة ملايين اللاجئين إلى القرى والمدن التي طهّروا منها عرقياً، وصولاً إلى التخلّي الكامل عن هوية الشعب الفلسطيني كشعب في تجسيد وقح لأسطورة عدم وجود شيء اسمه شعب فلسطيني.
أصبح من الواضح، الآن، أن «التنازلات» الفلسطينية المطلوبة، هي القبول ضمنياً بما تفعله إسرائيل على الأرض من تغيير للحقائق في ظل حكومة تميّزت بفاشية غير مسبوقة، وعنصرية تخطّت بمراحل نظام الأبارثهيد الجنوب أفريقي، الذي يرقد في مزابل التاريخ بسبب رفض القيادات الجنوب أفريقية والمجتمع الدولي القبول بأكثر مما يُقدم للطرف الفلسطيني.
وعلى الرغم من خطورة كل ما سبق، تستمر اللقاءات العربية والفلسطينية مع الطرف الإسرائيلي. بل إن بعض الذين قاموا بهذه اللقاءات يجادلون في أنّ تعريف التطبيع لا ينطبق عليها، وأنها تأتي في إطار «الاشتباك» مع إسرائيل، ومحاولة التأثير على الرأي العام الذي يميل بشدة نحو اليمين والفاشية. بل إنّ البعض جادَل بأنّ ما يفصل «التطبيع» عن المقاومة هو شعرة.
ومن الطبيعي أن تُدلي اللجنة الوطنية ــــ القيادة الفلسطينية لحركة المقاطعة العالمية وأكبر تحالف لقوى واتحادات ومنظمات وشبكات المجتمع الفلسطيني ـــــ بدلوِها من خلال إدانة واضحة لهذه اللقاءات التي اعتبرتها تطبيعية. كذلك، دعت إلى «تصعيد الضغط الشعبي السلمي من أجل التنفيذ الفوري لقرارات المجلسَين الوطني والمركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي الوحيد لشعبنا، الداعية لفكّ الارتباط مع الاحتلال». قامت اللجنة، أيضاً، بالتذكير بأنّ «التطبيع يتناقض جوهريّاً مع نضالنا من أجل التحرّر الوطني والعودة وتقرير المصير. ويعي شعبنا خطورة التطبيع كذلك كسلاحٍ يستخدمه المستعمِرون [بكسر الميم] لاستعمار عقول المستعمَرين [بفتح الميم] لتذويت الهزيمة والقبول بالاستعمار كقدر محتوم، وكجسر للتطبيع مع الأنظمة الاستبدادية العربية من المحيط إلى الخليج».
إن الوضع الراهن يتطلّب التذكير بأنّ فلسطين الآن، تختلف عن فلسطين التسعينيات. تمّ ترسيخ ثقافة مقاومة جديدة ـــــ قديمة، تأخذ في الاعتبار حقيقة واضحة وضوح الشمس، ألا وهي أننا في حالة اشتباك مستمر مع احتلال استيطاني ذي طبيعة عنصرية وإبادية في الوقت ذاته. بالإضافة إلى كلّ أشكال المقاومة الشعبية وغيرها، انطلقت حركة المقاطعة بشكل تدريجي ومتصاعد، حين شهد عام 2004 انطلاقة الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل. كما شهد عام 2005 صدور نداء مقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض العقوبات عليها (BDS)، والذي يتمحور حوله إجماع فلسطيني غير مسبوق. ثمّ جاء عام 2007، ليكون عام الإعلان عن تأسيس اللجنة الوطنية للمقاطعة. وهنا، يكمن الفارق بين التسعينيات من القرن الماضي، وإنجازات القرن الحالي على صعيد المقاطعة، وهو أمر أصبح غنياً عن التعريف، إلا أنه لا بدّ من الإشارة إلى أنّ تسعينيات القرن الماضي، أيضاً، شهدت عقد «اتفاقية أوسلو»، التي مهّدت لصفقة 2020 التصفوية.
من المؤسف أنه، وفي الوقت الذي تُبذل فيه جهود جبارة للعمل على عزل دولة إسرائيل ومؤسّساتها المتواطئة عالمياً، والتصدي العملي للصفقة التصفوية، نجد من يصرّ على تقويض المقاطعة من خلال أفعال تطبيعية صارخة في مجالات عدّة. وكما أوضحت بيانات اللجنة الوطنية للمقاطعة في هذا الخصوص، فإنّ الخطر الذي تشكّله الممارسات التطبيعية، هو أنها تعطي إسرائيل ورقة التوت التي تستخدمها لتغطية جرائمها.
كثيراً ما تُساق المبرّرات الواهية من قبل المطبّعين من منطلق أن «الطرفَين»، أي المُستعمِر والمستَعمَر، يجب أن يتعايشا معاً، وإن كان ذلك بدون تغيير شروط الاضطهاد، لأنّ موازين القوى لا تسمح بتغيير ثوري في الوقت الراهن. وهنا تكمن سريالية المشهد الفلسطيني!
إن الخطر الأكبر، الذي يُستخدم من قبل القوى التطبيعية، هو أن البراغماتية السياسية تتطلّب فهم الواقع الدولي، ولكن للأسف، من منظور المُضطهِد. والواقع الدولي، من هذا المنظور، يرى أنّ الشعب الفلسطيني يتشكّل من السكان الواقعين تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي، منذ عام 1967. وعليه، فإنّ شعبنا في أراضي 48 يُحذف من تعريف الشعب الفلسطيني. أضف إلى ذلك، أنّ حوالى نصف الشعب الفلسطيني يعيشون في الشتات نتيجة عملية التطهير العرقي التي مورست ضدهم/ن عام 1948وبعدها، وجزء مهم من شعبنا في الوطن هم من اللاجئين.
إنّ إنهاء الاحتلال وحده لا يكفل الحقوق الأساسية لمعظم الشعب الفلسطيني، بل يحرم هذه الغالبية من حقّها غير القابل للتصرّف في ممارسة تقرير المصير. فقد أصبح التعريف السائد، منذ عام 1993، أنّ الشعب الفلسطيني يتكوّن من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة، وأنّ النضال الفلسطيني يهدف، في المحصلة النهائية، إلى الحصول على «استقلال» هاتين البقعتين الصغيرتين، بعد انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى ما بعد، أو داخل، حدود 1967. والأكثر خطورة في الوقت الراهن، أنّ لقب «شعب» يتمّ استخدامه لتعريف سكّان غزة، التي يعتبرها البعض «مناطق محررة»!. ولخلق حقائق على الأرض، قامت إسرائيل بالفصل الكامل بين هذه الفئات السكانية، ومنعت أي تواصل بينها، بشكل يفوق بمراحل ما فعلته قوات الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في القرن الماضي.
تكمن قوة نداء المقاطعة الفلسطيني ــــ BDS، الذي أصدره في عام 2005 أكثر من 170 حزباً ونقابة ومؤسسة وحركة في المجتمع الفلسطيني، في استيعابه لتجربة النضال الفلسطيني الطويلة ودراسته للتجربة الجنوب أفريقية، وبالأخص مواجهة المجتمع الدولي بواجباته والشرعية التي يدعي أنه يقوم على أساسها. يطالب النداء بحقوق شعبنا الأساسية وأهمها: إنهاء الاحتلال الاستيطاني وتطبيق قرار الأمم المتحدة 194، الذي ينص على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى قراهم ومدنهم التي اقتُلعوا وهُجّروا منها عام 1948، وإنهاء القوانين والسياسات العنصرية الممأسسة ضد فلسطينيي/ات الـ48.
لقد أعاد نداء المقاطعة، النضال الفلسطيني ضد احتلال عسكري مباشر وتطهير عرقي ممنهج، وتفرقة عنصرية بغيضة، إلى أبجدياته التي كانت قد أصابها الكثير من العطب نتيجة مغامرات سياسية ضارّة مرتبطة عضوياً باتفاقيات أوسلو. وبالتالي، تمّت العودة، ولسوء حظ النهج الأوسلوي التطبيعي، إلى التعريفات الرئيسية التي لا تميّز فئة فلسطينية على حساب الأخرى، بل تصرّ على وحدة شعبنا في كلّ مكان ووحدة نضاله من أجل الحرية والعودة وتقرير المصير.
لذا، يجب علينا مراجعة الكثير من الحسابات والأولويات، لأنّ غزة التي يتمّ صلبها على أسنان جرافة إسرائيلية، والضفة الغربية التي تختفي تدريجياً عن الوجود، والقوانين المغرقة في عنصريتها ضد فلسطينيي الـ48، واستمرار التطهير العرقي المُمنهج ضد شعبنا في القدس والأغوار، كلّها تحتّم علينا تكثيف جهودنا الجماعية لعزل إسرائيل، بالضبط كما عُزل النظام العنصري في جنوب أفريقيا على الرغم من كل محاولات إنقاذه من قبل «الأصدقاء» ودعوتهم إلى «الحوار البنّاء».
هذا النظام العنصري يرقد، الآن، في قاع مزبلة التاريخ، مع من حاول إنقاذه من مطبّعين أفارقة وغيرهم. لكن يبدو أنّ البعض منّا لم يستوعب أن ما هو على المحك، في زمن صفقة ترامب ـــــ نتنياهو، هي القضية الفلسطينية برمّتها: إمّا أن نكون أو لا نكون!

* محلّل سياسي في شبكة السياسات الفلسطينية ــــ «الشبكة»