تناول الجزء الأول من هذا المقال (السبت 2020/02/22) ضخامة وخطورة الأزمة التي يكابدها الشعب اللبناني. هي أزمة شاملة تفاقمت بشكل دراماتيكي، بحيث أنّ جلَّ ما تستطيعه الحكومة الحالية، التي تشكّلت إثر سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري، هو بعض الترقيع الذي لن يرتقي إلى مستوى المعالجات الضرورية المطلوبة. تلك المعالجات لن تنهض بها، سوى حكومة مغايرة يفرضها ميزان قوى راجح، بشكل كبير، لمصلحة قوى التغيير الجذري. ذلك يتطلّب الاستمرار في الانتفاضة وتطويرها والتخلّص من بعض السلبيات التي رافقتها في بروفتها الأولى. تقع على قوى التغيير الوطنية مسؤولية محورية في هذا الصدد. دور هذه القوى ينبغي أن يصبح عاملاً مهمّاً في إحداث تحَوّل انعطافي في مسار قوى التغيير الجذري نفسها، أولاً، وفي مسار الانتفاضة العامة، تالياً.

الأزمة مستمرّة. هي طاولت، بشكل مباشر وأليم، الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وولَّدت فيهم شعوراً عاصفاً بوجوب التحرّك والاحتجاج وطلب التغيير. مئات آلاف اللبنانيين اندفعوا من دون تردّد، كاسرين «تابوات» (محرّمات) لم يقربوها من قبل: الجرأة على الزعماء، رفض منظومتهم التحاصصية، فضح نهبهم للبلاد. ممارسة محاسبة مباشرة وطلب تعميمها على كلّ الفاسدين والمعتدين على حقوق الناس، وموارد الدولة ومؤسساتها... اكتشف المحتجون بفرح، وسذاجة أحياناً، أن الأزمة تستهدفهم جميعاً، من دون تمييز بين أتباع دين وآخر ومذهب وسواه ومنطقة وأخرى... أطاح التمرّد الشعبي عوائق كثيرة، طالما اجتهد الحكّام في تشييدها لتضليل المواطنين، ولإثارة الانقسامات في ما بينهم، وبالتالي لإدامة التحكُم بهم بعيداً عن التبدّلات والمفاجآت.
من المهم، في هذا السياق، ملاحظة أنّ معظم الشعارات التي كانت تنادي بها قوى التغيير الوطني قد ملأت الساحات والتظاهرات، بشكل شبه كامل. لكن، رغم ذلك، لم تكن تلك القوى هي قوة المبادرة والتأثير الأساسية. من هنا، واستناداً إلى خبرة تجارب سابقة، تنبثق أهمية تخطّي هذه المفارقة عبر مسار وبرنامج تتحدّد معالمهما الرئيسية على النحو الآتي:
1 ــ في الشأن السياسي: لئن مثّلت التكتلات والاستقطابات الطائفية أو المذهبية حاجة ما، في بعض المحطات التاريخية، إلا أنّ تشكُّل «لبنان الكبير»، قبل حوالى 100 عامٍ، خلق واقعاً ديموغرافياً وسياسياً مغايراً. متطلبات ما بعد الاستقلال عام 1943 لم تعُد هي نفسها. رعى الانتداب الفرنسي نشوء منظومة سلطة «كوتا» طائفية لمصلحة بورجوازيات محلية تابعة. لم تصمد سلطة الغلبة والامتيازات والانقسام أمام التوترات، وإن صمدت أمام التحوّلات. فُرص التغيير بعد أزمات عديدة ومتكرّرة، جرى احتواؤها: بعد أحداث عام 1958، بإسقاط التجربة الشهابية. بعد الحرب الأهلية (1975 ــ 1990) بتعطيل إصلاحات «الطائف». بعد خروج القوات السورية بإحلال الوصاية الأميركية محلّ الإدارة السورية...
استشرت منظومة المحاصصة، وتمكّنت، رغم تبدل واختلاف توازناتها، من الهيمنة على كل المؤسسات: عطّلت الدستور والقانون والمحاسبة. أنشأت دويلات وكونفدرالية طائفية على حساب الدولة المركزية والوحدة الوطنية. رعت مساراً مخيفاً لنهب الوطن والمواطن، وصولاً إلى المشهد المروِّع والمأساوي الذي بات معه لبنان بلداً مُفلساً وفاشلاً ومعرّضاً لأسوأ الاحتمالات: تحرير النظام السياسي من المحاصصة الطائفية والمذهبية وملحقاتها، هو ما ينبغي أن يكون جوهر عملية إعادة تأسيس ثانية، وهو الهدف الوطني الأول المؤدي إلى الإنقاذ العام. يتّصل بذلك إقرار نظام مواطنة مدني يحاصر الشأن الطائفي والمذهبي في أضيق نطاق، تمهيداً للتخلّص نهائياً من الطائفية السياسية: في قانون الانتخاب، وفي توزيع السلطات، وفي الأحوال الشخصية (بشكل اختياري في المرحلة الأولى على الأقل). يتّصل بذلك، أيضاً، بناء سلطة قضائية مستقلة تكون في خدمة العدالة والقانون لا في خدمة السلطة والحكّام.
2 ــ توكأت منظومة المحاصصة، دائماً، على الارتباط بالخارج والاستقواء به بثمن الولاء والارتهان. منذ التأسيس إلى اليوم، للخارج دور فاعل في تحديد سياسات البلاد، الداخلية والخارجية، وفي إقامة التوازنات داخل سلطاتها (اتفاقاً أو خلافاً). له، بالتأكيد، دور بارز في مفاقمة حروبها وأزماتها المتنوعة بما فيها الأزمة الاقتصادية المرعبة الراهنة. ثمة هدف استعماري كبير، حالياً، بدفع لبنان، خصوصاً، إلى فوضى عارمة من شأنها تعطيل مقاومة شعبه ضد العدو الصهيوني وحماته. المقصود، طبعاً، المشروع الأميركي الصهيوني («صفقة القرن»)، الموجّه ضد الشعب الفلسطيني وضد كل الشعوب العربية. الموقف من هذا الأمر ينبغي أن يُطرح، في سياق تحرّري شامل: ضرورة التكامل ما بين فعل المقاومة ومشروع التغيير، وليس وضع أحدهما في تعارض مع الآخر.
3 ــ معالجة الأزمة الاقتصادية، التي تضرب كل الشعب اللبناني غير مستثنية إلا، تقريباً، طبقة الـ1% منه، تبدأ، مباشرة، بوقف دفع فوائد الدين فوراً (6 مليارات دولار). كذلك، بجدولته على مراحل مديدة وبفوائد زهيدة بعد شطب الجزء الأكبر منه. ينبغي أن يأتي ذلك من ضمن مسار جدّي لاستعادة الأموال المنهوبة، وهي أموال راكمتها طبقة هجينة تضمّ بقايا كبار الإقطاعيين وأصحاب الوكالات والمصارف وأمراء الطوائف القدماء والجدد...
غير أن الهدف الأساسي يكمن في إسقاط «النموذج الاقتصادي» الرأسمالي الطفيلي والمتوحش الذي تمَّ اعتماده، خصوصاً، منذ انتهاء الحرب الأهلية. هذا النموذج شكّل، أساساً، صيغة مبكِرة لمواكبة مشاريع هيمنة على المنطقة وتصفية قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه.
4 ــ البديل الجذري للنموذج الريعي الاستهلاكي الطفيلي، هو ذلك الذي ينطلق من مفهوم تنموي تحرّري شامل، يستثمر في الإنتاج الصناعي والزراعي، وفي القطاعات الطليعية الحديثة، وفي البيئة النظيفة والبنى التحتية، وفي التعليم وتطويره (خصوصاً الرسمي منه)، وفي مميزات لبنان الطبيعية، وفي بيئته الاجتماعية المتنوعة والمنفتحة... أما الثروة الوطنية الواعدة، نفطاً وغازاً، فينبغي العمل على تخليصها من براثن حيتان المحاصصة، كما تجلّى الأمر في التلزيمات والنسب المجحفة بحق الخزينة والمصلحة الوطنية!
5 ــ لبنان ذو مصلحة مصيرية، أيضاً، في سياق سعيه لمعالجة أزمته الاقتصادية، بالتكامل مع محيطه العربي، وبالتعاون مع دول صاعدة تشق طريقاً مستقلّاً في مواجهة الهيمنة الاحتكارية الغربية.
6 ــ إنّ التشكُّل في جبهة وطنية، وفق العناوين البرنامجية الأساسية المقترحة، آنفة الذكر، هو خيار ملحّ وصائب في الظروف المصيرية الراهنة. شرطه وجوهره سعيٌ دؤوب وثوري لتخطي الجمود والمراوحة والفئويات والأخطاء. وهو ينبغي أن يتّخذ، بأوضح المعاني والصيغ، طابعاً تأسيسياً حقيقياً، جامعاً الأحزاب والتيارات والمنظمات والمؤسسات والناشطين الأفراد... إن نشوء مركز وطني، وفق صيغة شراكة ديموقراطية حقيقية، هو خير مساهمة في إنقاذ لبنان وفي إخراج القوى الوطنية نفسها من أزمتها الكبيرة المتمادية. ثمة في البلاد تيار وطني واسع لكنّه شبه معطّل. استقطابه وتفعليه، وخصوصاً الجيل الشاب منه، وفق مشروع وطني عام، هو مدخل لبناء أوسع صيغة استقطاب تتطلبها وتتيحها الأزمة الوطنية الراهنة التي أدخلت على الصراع الطبقي والاجتماعي في البلاد، وخصوصاً من صفوف الطبقات الوسطى والشعبية والأجيال الجديدة عموماً، لاعبين مؤثرين ومثابرين في مواجهة نهب وفساد وتخريب طبقة الـ 1% وأسيادها في الخارج.

* كاتب وسياسي لبناني