صار مسلّماً به ــ من كثرة ترداده في التقارير والتحليلات السياسية ــ أنّ ما يجري سياسياً في العراق هو صراع بالوكالة بين إيران والولايات المتحدة، أو بين أنصار الدولة الدينية والدولة المدنية. وعندما اشتعلت التظاهرات في أنحاء العراق، منذ شهر تشرين الثاني/ أكتوبر العام الماضي، وإلى الآن، جرى وصفها بأنها أحد نماذج الحرب الناعمة (القائمة على تكليف «ناشطين مدنيين» بإسقاط الأنظمة بواسطة التظاهرات واستخدام الإنترنت)، التي استخدمتها الولايات المتحدة في دول عديدة. لكن عندما نعيّن عناصر كلّ قطب من هذين القطبين المتصارعَين في العراق، ونعايش الأوضاع على الأرض، فربما يقودنا ذلك إلى إعادة تسمية الأزمة العراقية. الثورات الاجتماعية، بتاريخها الذي يسبق بقرون عدّة قيام دولة الولايات المتحدة، لا تنتظر أن يأتي العم سام لكي يتبنّاها؛ لكن النظام الحاكم في العراق، ومؤسسة الحكم الأميركية، لهما مصلحة مشتركة في اختزال الصورة العراقية في صراع بين دولتين لدودتين، فيصف النظام الثورة الاجتماعية بأنها مؤامرة أميركية، بينما يصفها الأميركيون بأنها ثورة على الهيمنة الإيرانية على الدولة العراقية. وفي المقابل، لدى الطرفين مصلحة مشتركة في إخفاء بقية الصورة، أي منابع الغليان الشعبي: الأوضاع الاجتماعية البائسة، وانعدام السيادة الوطنية، وحالة التقسيم الطائفي والقومي الراهنة وخطر تكريسها (خصوصاً مع تسرّب المزيد من خرائط التقسيم الإسرائيلية بين الحين والآخر). الدولتان اللدودتان تخفيان المنابع الحقيقية للغليان الشعبي، لأنها موجهة ضدهما معاً، فما لا يعلمه الإيرانيون ولا الأميركيون هو أنه سواء انتصر أي منهما وطَرَد الآخر من العراق، فإنّ منابع الغليان تلك تبقى فاعلة ضد الطرف المنتصِر، وعليه حينئذ أن يسدّد قائمة الحساب عنه وعن الطرف الخسران معاً! هذا هو بيت القصيد: إنّ تقطيع أوصال العراق طائفياً يلبّي ميول أميركا وإيران معاً؛ وإنّ إضعاف الاقتصاد العراقي واستنزاف أمواله مرغوبان أميركياً وإيرانياً معاً؛ وإنّ استباحة السيادة، وخواء الوجود السياسي للدولة، وباختصار: الانعدام التام للاستقلالية في العراق، هي البيئة المثالية لأميركا وإيران معاً للحركة وتنفيذ أهدافهما، ولهذا تحرصان كلتاهما على إدامة هذه البيئة، كيف؟ بالإبقاء على الوضع الحالي، والسيرك السياسي الحالي وبهلواناته التي «تقلّد» دور السياسيين، حيث إن هذه البيئة المثالية لا يرضى بوجودها في بلدهم إلا ساسة فاسدون فاقدو الكرامة الشخصية، ناهيك عن الكرامة الوطنية. إنّ الكابوس الذي يقلق كلا الدولتين في ما يخص العراق، هو حدوث تغيير فيه من خارج دائرة مخططاتهما، ولهذا هما يحاولان، كل بطريقته، صياغة تغييرات شكلية تبقي الوضع، من حيث الجوهر، على ما هو عليه.
الولايات المتحدة شركة خاصة كبرى ترأسها الحركة الصهيونية لديها أولويتان: الربح بلا حدود وإسرائيل


هذا هو الجواب على تساؤلٍ طالما يطرحه مهتمّون غير عراقيين: كيف أمكن للنظام في العراق أن يجمع النقيضين، فيكون خاضعاً للإرادة الأميركية ومُرضياً لأعدائها الإيرانيين في الوقت نفسه؟! وإذن، عندما يهتف «ناشطون مدنيون» ضد تبعية العراق لإيران تحديداً فهذا لا يعني أنهم وطنيون، إنما هم يسوّقون التبعية لأميركا. وعندما ينتفض قياديون في تنظيمات الإسلام السياسي الشيعي ضد الوجود العسكري الأميركي في العراق فهذا لا يعني أنهم وطنيّون، إنما هم يريدون أن تتفرّد إيران بهذا الوجود (بما أنهم بحدّ ذاتهم يمثلون هذا الوجود). الطرفان معاديان للاستقلال التام، ولدولة التنمية، ولوحدة العراق. الطرفان، بكلمة أخرى، معاديان للوطنية العراقية. هنا أرى من الأهمية بمكان توضيح صورة الولايات المتحدة في عيون أنصارها في العراق، وصورة الإسلام السياسي الشيعي في عيون إيران، ومقاربة الصورتين مع الواقع.
الولايات المتحدة:
قد يبدو مستغرباً أن يكون هناك إلى اليوم عراقيون «مؤمنون» بالولايات المتحدة، على الرغم من أنهم يعيشون في كل ساعة من يومهم معاناة هي من صُنع هذه الدولة. أحد الأعذار التي يذكرها هؤلاء لتأييدهم «إعادة احتلال» العراق من قبل أميركا ــ أو ما يعادل هذا سياسياً وإدارياً ــ هو «حداثية» أميركا؛ بمعنى أنها لو رضيت أن تحكمنا مباشرة لأقامت في العراق دولة الكفاءات وطوّرت بلدنا إلى ذرى الحداثة، مثلما فعلت في البلدان الفلانية (ويذكرون بلداناً لا يعرفون شيئاً عن خصوصيتها وظروفها) فنتخلص من كل هذا البؤس. بصرف النظر عن ملامح السذاجة وفقر المعلومات في هذا التصور، فإن الزعم المحوري فيه هو أن إقامة دولة حديثة في العراق، من مصلحة الولايات المتحدة. ومن دون حاجة إلى مجادلة هذه الفكرة بحد ذاتها، يكفي القول إنه كانت في العراق بالفعل دولة نامية مستقلّة تخوض عملية التحديث، وإن هذه الصفات (بحد ذاتها أولاً، ولخطورتها على أمن إسرائيل ثانياً) هي الدافع الكبير وراء عزم الولايات المتحدة، منذ قيام دولة التنمية في العراق في الستينيات وعلى امتداد العقود التالية، على تخريب هذه الدولة إلى أن انتهت أخيراً إلى نموذج الدولة الفاشلة التي نراها اليوم؛ فهل يطلب هؤلاء السادة من الولايات المتحدة أن تندم ــ من أجل سواد عيونهم ــ على نظريتها بشأن العراق، وتعيد بناء الدولة التي عملت هي على هدمها عن سابق تصميم وتخطيط استراتيجي؟
الولايات المتحدة شركة خاصة كبرى ترأسها الحركة الصهيونية. لديها أولويتان: الربح بلا حدود، وإسرائيل. وتدخّلها في العراق ينطلق من هذه الزاوية حصراً. إسرائيل لم تعد تابعة لأميركا، وإنما أميركا اليوم هي التابعة لإسرائيل: لا أعني فقط حظوظ مرشحي الرئاسة وحَجّهم الروتيني إلى حائط المبكى (رغم أن هذه الظاهرة هي الأكثر شهرة إلا إنها الأقل أهمية) وإنما يشمل هذا عالماً اقتصادياً ومالياً هائلاً يطول التفصيل فيه. المهم هنا، هو أن كثيراً من حالات التشاحن التي تظهر أحياناً بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية، أو بين مراكز القوى داخل الإدارة الأميركية نفسها، بشأن قرارات تخصّ بلداناً عربية، هي تشكُّل خارجي للتنافس وأحياناً الاصطدام بين هاتين الأولويتين: الشهية اللامحدودة للنهب المادي، والطموحات الصهيونية. إن كل تنمية وكل استقلال اقتصادي في بلد من البلدان، هو بمثابة خسارة مالية للشركات الكبرى المعولمة. وموضوع العراق لم يخرج يوماً عن إطار هذه المفاهيم، ولن يخرج عنها اليوم إرضاء لمحبي أميركا في العراق.
حكام العراق الإيرانيون:
سلّطت التظاهرات الأخيرة الضوء على «مشكلة» مرشحي إيران لرئاسة الحكومة في العراق. هي «مشكلة» لأنها ــ كما يبدو من الأحداث على الأقل ــ مبدأ غلط لا يكفّ عن إنتاج حالات من الفشل متكرّرة بلا نهاية. والمبدأ الغلط هنا هو التالي: عندما تشخص إيران حلفاءها في العراق، فالأولوية عندها هي الإخلاص للقضية الرئيسية (سواء كان اسمها مقاومة المشروع الأميركي ــ الصهيوني في المنطقة، أو مقاومة الاحتلال الإسرائيلي المباشر، أو تعضيد إيران سياسياً واقتصادياً، أو الولاء للولي الفقيه في إيران)، بصرف النظر عن امتلاك هؤلاء، أو عدم امتلاكهم، قيَم النزاهة والعدالة وحتى الوطنية. إيران مارست هذا الغلط لسنوات عديدة، فتسبّبت في الإساءة إلى قضايانا العادلة عندما تحالفت مع (بل وصنعت) تنظيمات متّهمة بارتكاب تجاوزات مالية وأمنية وبترهيب المجتمع، تنظيمات مشارِكة ــ مع بقية التنظيمات القومية والطائفية والمناطقية ــ في عملية النهب الكبرى الجارية في البلاد والتي أدت إلى خروج التظاهرات الجارية حالياً.
في خضمّ مطالبة المتظاهرين برئيس وزراء نزيه، أدّت هذه «المشكلة» إلى فشل تنظيمات الإسلام السياسي الشيعي مرّات عدّة في تقديم مرشح لرئاسة الحكومة المؤقتة يرضي المتظاهرين، وذلك لفشل هذه التنظيمات في العثور على شخص واحد من بينها تنطبق عليه صفة النزاهة!
إنّ الصراع السياسي، الآن، في العراق ليس بين أنصار الدولة المدنية والدولة الدينية، كما يصوّره البعض، وإنما هو بين مرشحي الإمبريالية ومرشحي الفساد الداخلي؛ وتحاول الولايات المتحدة وإيران، بكل إمكاناتهما، منع الناس من اختيار طريق ثالث.
الطريق الثالث هو ــ بالطبع ــ العودة إلى الوطنية العراقية، هو المطالبة بإعادة تأسيس دولة التنمية المستقلة. وممثلو التيار الوطني موجودون في الداخل، رغم قلّة عددهم بالمقارنة مع التيارات التقليدية، واغترابهم بين أناس مشدودين إلى تبعيات خارجية، ورغم عدم تنظيم أنفسهم سياسياً. وهم مشاركون في التظاهرات رغم أنّهم مستبعدون من مجال اتخاذ القرارات. إن هؤلاء الوطنيين بحاجة ماسة إلى أن ينظموا أنفسهم في تنظيم سياسي يوحّد رؤيتهم ويعملون تحت رايته من أجل مواطن مستقل يبني دولته المستقلة.

*كاتب عراقي