لم تكن أواخر عام 2010، موعد اندلاع شرارة الحراك الشعبي في تونس ضد الاستبداد والدكتاتورية والقمع السياسي وانتهاك حقوق الإنسان، وامتدادها إلى أكثر من مدينة وعاصمة عربية، هي البدايات لموجة الغضب العربي في تلك الفترة الزمنية، بل هي امتداد مستمر لحراكات مسجّلة في صفحات النضال الوطني، قُمعت أو أُخفيت آثارها أمام مرأى العالم، وظلّت كالجمر تحت الرماد. كانت الحراكات المطالبة بالتغيير قد اشتعلت في أكثر من منطقة على المعمورة. وانتُقدت المنطقة العربية لتأخّر وصول رياح التغيير أو شرار النار إليها، لتنحصر أو تظهر بعد ذلك، في الأغلب، في الجمهوريات العربية. ورغم ذلك، برزت في المشهد السياسي مصطلحات سياسية فكرية مواكبة للحراك ومنطلقة منه. وأخذت هذه المصطلحات تعبّر عن مكوّنات الحراك وقواه الفاعلة، من الطبقات والفئات الاجتماعية المهمّشة سياسياً وطبقياً، من خرّيجي الجامعات والمعاهد، أو من الشغّيلة اليدوية المعطلة اقتصادياً، من العمّال والفلاحين أو من البرجوازية الصغيرة، ويمكن القول عنهم بأنهم من الفئات الاجتماعية الأكثر فقراً في الوطن العربي. بل وزاد الحراكيون أو من يعبّر عنهم، في إعطاء الصورة بما يضخّم فيها ويقدمها بأوصافٍ لا تتطابق مع واقع الحال علمياً وموضوعياً، ولكنّها حسبت آراء منقولة ومصطلحات مسنودة، وتعريفات مغرية تدغدغ المشاعر والعواطف قبل العقل والدور والمكانة في التاريخ. وقد يريدها من لا يريد للحراك النصر في أهدافه، والقيام بالتغيير المنشود منه وله، ويحترم تحولاته ويقدر متغيراته. والملاحظ، عموماً، أن الحراك لم يفرز من داخله ما يمكن القول عنه إنهم مفكروه ومنظّروه والمعبّرون عنه فكرياً، كي تتوفّر حالة ثقافية عمودها الفكر النير والتوجه البنّاء، إذ أن الاستسهال في إطلاق المصطلحات والمفاهيم والتسمية غير الدقيقة أو الموضوعية من دون مصداقية، يشوّه الصورة أو يؤدي إلى ذلك، الأمر الذي يعجّل في خلط الأوراق وخيبة الآمال وإضعاف المعنويات. وربما كان المثقّف البرجوازي أو غير المشتبك بالحراك عملياً، ينظّر من مكتبه ــ برجه العاجي ــ من دون التزام بالمسؤولية الفكرية والسياسية المطلوبة منه أو من غيره. ومن هؤلاء من اتكأ على مقولات جاهزة وكتابات منشورة لأصحاب تجارب وخبرات وبرامج ومشاريع، حصلت في بيئات مختلفة وارتبطت بأهداف قد لا تصلح لما حصل ويجري عندنا.
الملاحظ عموماً أن الحراك لم يفرز من داخله ما يمكن القول عنه إنهم مفكروه ومنظّروه والمعبّرون عنه فكرياً


في الخلاصة، لا يعني التعميم والتحريف التحليل والتوثيق، إذ أن ليس كل حراك احتجاجي انتفاضة، وليست كل انتفاضة ثورة، ولا بدّ من احترام هذه المفاهيم والتوقف عن إطلاقها من دون حساب دقيق، لمراعاة المعايير والقيم التي تصل إليها. فسرعة إطلاق المصطلحات، لا تشي بحرص واهتمام بقدر روح المبالغة والتهويل، مع العلم أن خط السير فيها ينبغي أن يكون متدرّجاً ومتسلسلاً ومتكاملاً، من دون تراجع أو تخاذل أو انتظار فرص أخرى، أي أن محطات أو مراحل الكفاح الشعبي، تأخذ موقعها الفعلي ودورها العملي وفق برامج متوافقة معها وأهداف متناسبة ورافعة لها، وفي إطار الاستمرار والجرأة الميدانية. ومن دون البرامج المنتظمة والمستوعبة لظروف الحراك وقدراته، لا تستطيع الانتصار والاندفاع إلى المرحلة التالية. كما أنّ كل تلك الخطوات وتدرّجاتها وتطوّرات الحراك العملية والمواجهات فيها، لا يمكن أن تستمر في طريقها السليم من دون قيادة فعلية، نواة عملية، قادرة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. بمعنى آخر، فإنّ العملية الثورية لا تستمر من دون حراك قد ينطلق عفوياً أو ضرورياً، وبرامج واضحة لأهداف واضحة ووعي ناضج لكل الحالات التي تمر بها العملية وتحوّلاتها، ومن ثم اختيار أو انتخاب أو تكليف القيادة القادرة على خوض الغمار وتحمّل المسؤولية فيها. هذه الخطوات يمكنها وحدها تصوّر إطار ودور كل فترة وتوثيقها بما يتّفق معها، وأي مبالغة أو تشويه لا يخدم المطلوب ولا ينفع المنشود ولا يفيد التضحيات. ومثلما لا يستطيع أحد تحديد موعد الانطلاق أو الدفع له أو التنظير بشأنه، لا يمكن تحديد زمنه أو فترة استمراره أو ديمومته ولا تحولاته وتموّجاته وأفعاله وتأثيراته أو المؤثرات عليه. فصيرورة كل فعل ثوري، مهما كان بسيطاً، لا يتم توقعها أو التنبؤ بها، وبالتالي لا يمكن وضع هذا الفعل في أي مسار أو مسيرة. ففي تاريخ الحركة الثورية قد تُحسب السنوات أياماً، والعكس صحيح، بحسب المكان والفعل والفاعلية وقوة الجماهير المشتركة وظروف كل منها في حينه.
أهمية المصطلح والمفهوم في مثل هذه الحالات، كبيرة، لأنها تصف الأمور القائمة كما هي في الواقع مع تطوراتها ووضعها في مسار العمل الثوري الحقيقي. والحالة الثورية تكون متطوّرة من الحراك والاعتصام وكل أشكال الاحتجاج المدني، صعوداً إلى الانتفاضة بكل أشكالها وتموّجاتها وصولاً إلى الثورة بكل أساليبها والتغيير المنشود منها وبعدها. وهنا، تعمل جهات كثيرة بما فيها من يزعم حرصه أو تنظيره لها، على تفريغ محتوى هذه المفاهيم، والإسراع في التشويه الثقافي والفكري والادّعاء بإصدار ما يفرغ محتوى المفاهيم ويشوّه أبعادها ويغري الحراكيين عاطفياً وشعورياً.
والأبرز في هذا التحريف والتشويه، إنكار دور القوى الفاعلة ووقود الحراك الأساس، وإعطاء قيادات منظمات ما أُطلق عليه بمنظمات المجتمع المدني المموّلة من دول ومعاهد الدول الاستعمارية والمعادية في مواقفها وسلوكها لحرية الشعوب واستقلال الأوطان، الدور الأبرز في إدارة هذه الحراكات وتطوراتها. هذا فضلاً عن دفع هذه القيادات إلى الظهور كقيادات للحراكات وتوجيهها ضمن إطار المشاريع الاستعمارية بأوجه أخرى، ناعمة، ورفض عملية التغيير وبناء دول مدنية ديمقراطية حقيقية، ترفض هيمنة واستعمار الدول الأجنبية المموّلة والمحتلة لبلدانها وشعوبها. وفي هذا الصدد، تعمل هذه القيادات على كيّ الوعي وتشويه الثقافة السياسية والفكر الاجتماعي الثوري، يصاحبها من خلال التجربة الأخيرة في الوطن العربي، من تطلق عليه الفضائيات العربية بالمفكر أو من يطالبها هو بذلك، في تعميم ما يدخل في هذا التحريف الفكري وتشويه الثقافة وخلط الأوراق التي تشوّه معنى الحراك وتطوراته واستغلال التضحيات الجسام، التي تروي بدمها حلم التغيير والإصلاح والتقدم والازدهار. وتلك فضيحة أخرى لما تقوم به المنظمات المموّلة أو المدعية أو تشبيك معها.
صدرت كتب عديدة ومرّت أعوام على ما أُطلق إعلامياً عليه ببدايات الحراك الشعبي في الوطن العربي، وتموّجت حالاتها وأماكنها، وما زال الوقت مفتوحاً على قراءة موضوعية لكل ما حصل وجرى ويحدث الآن.

*كاتب عراقي