شكّلت اتفاقيات أوسلو منعطفاً في مسار حركة «فتح»، التي قادت الحركة الوطنية الفلسطينية طوال أربعة عقود مستخدمة شعار الكفاح المسلّح، الذي ألزمت اتفاقيات أوسلو الحركة بالتخلّي عنه. إذ بدون «الكفاح المسلّح»، لم يعد لحركة «فتح» أيديولوجيا واضحة، ولا خطاب محدد، ولا خبرة أو شخصية مميزة. وفي غياب دولة حقيقية ومستقلّة، لم تتمكن «فتح» من تحويل نفسها إلى حزب حاكم حقيقي، كما فعل على سبيل المثال، المؤتمر الوطني الأفريقي، في جنوب أفريقيا. فقد بقيت الحركة غير كاملة ومعلّقة: حركة تحرّر لا تفعل الكثير من التحرّر، حبيسة عملية تفاوض عقيمة، تفتقد وسائل الحكم بمزيج من التعنّت الإسرائيلي والقصور الذاتي.يرى الثنائي، أحمد سامح الخالدي وحسين آغا، أنه مع وفاة ياسر عرفات ومعظم زملائه، تضاءلت قدرة «فتح» على الاحتفاظ بشظايا جسمها. وقد أبرز الوسط الاجتماعي والسياسي للضفة الغربية وغزة، الذي يخضع للتأثيرات العشائرية والقبلية والشخصية، أبرز الإقطاعيات المحلية والتوترات عميقة الجذور. لقد انحرفت «فتح» عن التاريخ الذي صنعته لنفسها في ساحات العمل خارج فلسطين، في الشتات. لقد تخلّت من دون مبرر عن الدافع التحرّري الأصلي، لتغرق في حروب ضيقة. وقد تفاقم هذا بدوره، بسبب فشل قادتها في اجتذاب دماء جديدة، على عكس تجربة الخارج التي شكلت سنداً فلسطينياً موحّداً. كذلك، ساهمت سياسة ونهج قيادة حركة «فتح» في ضرب أي شكل قياديّ قد يبرز في الضفة الغربية وقطاع غزة قبل أوسلو، في فشل فلسطينيي الأراضي المحتلة، التي أقيمت عليها سلطة الحكم الذاتي، في إنتاج قادة قادرين على البقاء وعلى إقامة مشروع وطني حقيقي من مكوّنات محلية. إن الانسحاب القوي للعلاقات المحلية، جعل من المستحيل تقريباً على سكان الخليل أن تكون لديهم قاعدة شعبية حقيقية في رام الله، أو أن يكون لغزة رأي ذو صدقية في الضفة الغربية.
افتقاد الضفة الغربية وقطاع غزة ــ مع وصول ما سُمي بـ«جماعة تونس» لتسلّم موقع القيادة والسلطة المباشرة في الضفة الغربية وغزة ــ لأي قيادة محلية حقيقية، انعكس فقداناً للصدقية وفشلاً لنموذج الحكم الذي أرساه عرفات. يضاف إليه جمود عملية التسوية وتخلخل العلاقة بين «فتح» الداخل وبقاياها في الخارج، وبيئة محلية أوجدت حالة من الخلافات والاختلافات والصدامات... كلّ ذلك أفقد «فتح» قدرتها على أن تشكّل وكيلاً سياسياً حقيقياً في الضفة الغربية وغزة، ناهيك عن ادعاء تمثيلها من خلال «منظمة التحرير الفلسطينية» لفلسطينيي الخارج.
إذا كان المال والدعم السياسي، الذي حظيت بهما حركة «فتح» من اليمين العربي الرسمي، وأيضاً الشعبي، ساهما في حصولها على موقع الريادة في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة، إلا أن ذلك بُني على سنوات من النشاط والعمل العسكري والسياسي، بما فيه من إنجازات وإخفاقات، ووجد آلة إعلامية تنفخ فيه وتقدمه للجمهور، فاستحقت التمثيل لطيف وطني فلسطيني واسع... من الأكثر حماسة إلى الأكثر عقلانية. ورغم الاختلاف مع نهج قيادتها اليمينية، وميلها نحو المساومة ومشاريع التسوية، إلا أنها ساهمت في جعل القضية الفلسطينية وشعبها الذي كان منسياً في فترة زمنية، بأن يحظى بوضع مركزي على الساحة السياسية العربية والدولية، وأصبحت القضية الفلسطينية تستحق التقدير في جميع أنحاء العالم.
لقد حوّلت قيادة «فتح» ــ طواعية ــ «منظمة التحرير الفلسطينية»، بوصفها وعاء المشروع الوطني ــ كما ذكر أحد كوادر «فتح» الأوائل ــ إلى شقة فارغة يجري تأثيثها بناء على هوى ورغبة المستأجر، فلم يعد الكفاح المسلّح مطروحاً على أجندتها فكراً وممارسة، واحترقت آمال الشعب الفلسطيني بنيران الاستيطان اليهودي والتهويد، كما تحققت نبوءة محمود عباس وأحمد قريع الحقيقية، وهي أن أوسلو لا تفضي إلى دولة مهما كانت مواصفاتها، إذ حوّلت أوسلو فلسطين إلى ملفات متباعدة: القدس، اللاجئين، المياه، الحدود. والبحث فيها مرتبط بقرار الاحتلال.
والآن، لم يعد واضحاً أي من عناصر النجاح التي كانت قيادة «فتح» تتوهمه، فـ«منظمة التحرير الفلسطينية» التي تسيطر على قيادتها حركة «فتح»، فقدت صفة التمثيل الشامل. والفصائل التي شاخت ولا تزال تحتل مقاعد المجلسين الوطني والمركزي الفلسطيني، لديها القليل من الامتدادات داخل وخارج فلسطين. لقد انتقلت روح النشاط والديناميكية إلى خارج المنظمة، لصالح حركتَي «حماس» و«الجهاد الإسلامي» والمجموعات التي لا تزال تتبنّى نهج الكفاح المسلّح وتحظى بتأييد شعبي. كذلك، فإن إنجازات «منظمة التحرير» والسلطة الفلسطينية، باتت شكلية إن لم تكن زائفة، فالتقدم الذي حققته في الحصول على مكانة دولة مراقبة في الأمم المتحدة لم يقترن بتحسّن ملموس في الوضع على الأرض. بل ازداد الأمر سوءاً، إذ أن السلطة الفلسطينية بقيادة «فتح» تحوّلت، مع تصاعد نشاط التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال الصهيوني ــ الذي دأب أبو مازن على وصفه بالمقدس ــ إلى أن تصبح في موقع الوكيل الأمني للاحتلال.
لذلك، ستظل السلطة التي جاءت بها اتفاقيات أوسلو، وتقودها «فتح» وفق معايير مصلحة الكيان الصهيوني، عقبة في طريق أي برنامج وطني فلسطيني جادّ. ومن غير الممكن أن تتعافى الحالة الفلسطينية، بوجود هذه السلطة، رغم كل مظاهر التجميل التي تحاول أن تظهر بها. وعليه، فإن الخطوة الأولى على طريق إنهاء الانقسام الفلسطيني ما بين مشروعَي المقاومة والتسوية العدمية، هو الخروج من مشاريع تسوية ــ تصفية القضية الفلسطينية، وهو ما يوجب البدء بحلّ السلطة الفلسطينية أو تغيير وظيفتها، بحيث تصبح أداة لرعاية المشروع الوطني التحرّري ( وهو أمر مستبعد، إن لم يكن مستحيلاً)، وليس أداة أمنية لحماية المشروع الاستعماري الصهيوني. وإلى جانب ذلك، يجب استعادة ونشر ثقافة الحفاظ وصيانة ثوابت النضال الوطني الفلسطيني التحرّري، الذي امتد لأكثر من قرن بما يضمن سلامة العلاقات الوطنية بين القوى والفصائل الوطنية التي تعبر وتمثل في سلوكها مصالح الشعب الفلسطيني.

*كاتب فلسطيني