في رأيي، إنّ أيّ نقاشٍ عن موقع «حزب الله» ودوره في الميدان السياسي اللبناني وعن مستقبل الدولة اللبنانية والعقوبات على المقاومة والتحالفات السياسية ونقاش «الإصلاح»، هذا النقاش كلّه لا ينبغي أن يبدأ من تفاصيل الخطاب السياسي اليومي الذي نسمعه اليوم، بل من نقطةٍ تاريخيّةٍ تأسيسيّة في هذا الموضع. تبدأ القصّة، كما أراها، من قرارٍ «استراتيجيّ» تمّ اتّخاذه أواخر الثمانينيّات تقريباً، وهو قرارٌ لم يتّخذ في لبنان فقط، بل أيضاً في إيران ودمشق، وقد كان يرسم خطّاً جديداً لـ«حزب الله» في تعامله مع الساحة السياسية الداخلية ونظرته الى الدولة والوطن اللبنانيين.بلغة العلوم السياسيّة، تسمّى لحظةٌ كهذه «مفترقاً حرجاً» في حياة المؤسسات والمنظّمات والدول؛ أي حين يُصنع قرارٌ تاريخيّ يطبع مسارك المستقبلي لفترةٍ طويلة، ويفتح احتمالاتٍ ويقفل أخرى. هذا لا يعني أنّه يضعك في «حتميّةٍ» لا فرار منها، بطبيعة الحال؛ والخيارات لا تنتهي مع القرار الأوّلي. الفكرة هي أنّ هناك مراحل تاريخيّة مفصليّة تصنع «اعتماديّة في المسار» (path dependency) وتلعب دوراً كبيراً في تشكيل حاضرك، ومن الضروري أن تعود اليها حتّى تفهم كيف وصلنا الى «هنا».
القرار الذي نتكلّم عنه كان مفاده، باختصار، أنّ «الطريق الثوري» ليس مفتوحاً لـ«حزب الله» في الداخل اللبناني. الاندفاع الخمينيّ الثوريّ سوف يتمّ توجيهه حصراً الى الخارج (الى خارج المجتمع السياسي) ضدّ الاحتلال الاسرائيلي. بمعنى آخر: أنت لن تبني جمهوريّة إسلاميّة في لبنان، ولن تكون جزءاً من جمهوريّة إسلاميّة أوسع، وسوف تقبل بالنظام الدستوري اللبناني وتعمل تحت سقفه ــ إن كنت متحمّساً وثوريّاً وتريد القتال فاذهب وجاهد ضدّ إسرائيل. عليك أن تتآلف مع الصيغة اللبنانية المعقّدة وتتأقلم معها، بل على العكس، أصبح وجود ساحة داخلية هادئة ومستقرّة أمراً مطلوباً، إذ هي مثّلت (أقلّه في سنوات التسعينيات) ما يشبه «قاعدة خلفيّة» للمقاومة، تؤمّن ظهرها في الداخل فيما القتال يجري على الجبهة.
هذا الترتيب كان يقوم، في جزءٍ كبيرٍ منه، على إيمان بإمكانيّة الفصل بين العمل الحربي المقاوم على الحدود وبين الداخل «السياسي»، وأنّ في الإمكان عزل واحدهما عن الآخر. وهي فرضيّةٌ سقطت بشكلٍ نهائيّ في 7 أيّار 2008 - أو هي فرضيّةٌ تعمل فقط في سياقٍ كأيّام النفوذ السوري في لبنان، حين كان يمكن التحكّم في الساحة السياسيّة الى درجةٍ عالية، وتحديد سقوفٍ وخطوط حمر للاعبين، وتقنين تواصلهم مع الخارج. العقوبات الأميركيّة اليوم قد تأخذ هذا الواقع الى مرحلةٍ جديدة، فالكنه الجوهري لعقوبات واشنطن هو أنّها تجعل القطاع المصرفي اللبناني، ومعه مصرف لبنان، يعمل مباشرةً ضدّ المقاومة، أو كذراعٍ داخليّة للعقوبات كيفما توجّهت رياحها. فماذا تفعل؟
النظام السياسي اللبناني لا يحمي المقاومة هنا، بل هو لا يمنعك من أن تعمل - حرفيّاً - لدى أعدائها وأن تشكّل جبهةً ضدّها في الداخل، وهذه مشكلة لا يمكن حلّها سياسيّاً أو في البرلمان. كما يقول الكاتب السوداني محمود المعتصم، فإنّ قضايا «الخيانة» (ومعها المعركة على تعريف «الخيانة») لا يمكن أن تحلّها عبر النقاش أو كسب المجال العام، ولا هذا ممكنٌ أساساً، بل مكانها المحاكم والقانون. أن تعمل لصالح أعداء بلدك، أو أن تستهدف المقاومة وتحرّض عليها فيما شعبك يقبع تحت الخطر، فهنا مسألة خيانة لها تبعات ماديّة وحقيقية، وليست اختلافاً في الرأي، والهدف هو أن أمنعك وليس أن أقنعك، ولا معنى لمجتمع سياسي لا تتحدّد فيه هذه الخطوط.
الحلبة السياسية والدخول في التنافس السياسي والاعلامي والانتخابي، يستلزمان فئات محترفة متخصّصة لا تكون موجودة عادة في حركات مقاومة وقتال


إن عدنا مجدّداً الى الأيّام الأواخر للحرب الأهلية في لبنان، فإنّ قرار «الطريق السياسي» في الداخل اللبناني كان منطقيّاً في سياقه بالنسبة الى «حزب الله»: أنت أقليّة ضعيفة نسبياً، في مجتمع معقّد ومتعدّد الطوائف والأديان، والجميع يحاربك، وهناك اتفاقات دولية حول مستقبل البلد، وانت تواجه احتمالاً حقيقياً بأن يتمّ حصارك وعزلك وتدميرك. لو تمكّنت من تحرير أرضك وبناء قوّة في وجه اسرائيل فهذا، بالنظر الى الوضع والاحتمالات، هو أكثر من «كافٍ» في هذه المرحلة التاريخيّة. العودة الى الماضي هي لتفسير الحاضر الذي انبثق منه، وفهم كيف ولدت نتائج وتحدّيات اليوم لم يكن في الإمكان ــ في وقتها ــ أن تتنبّأ به.

حين تدخل الى «النظام»
كما قلنا أعلاه فإن القرار بالانخراط في المؤسسة السياسية اللبنانية بعد الحرب لم يكن آخر الخيارات و«المفاصل الحرجة»، وتاريخ «حزب الله» في الساحة السياسية بعده ليس «كتلة واحدة» وطريقاً رُسم سلفاً، بل شهد تحوّلاتٍ وتغيّرات ومراحل متعدّدة. إن كان النموذج الإسلامي الخميني غير متاح في لبنان، وهذا النموذج هو الفكرة التي تملكها عن «الحكم الصالح»، فما العمل الآن حين تدخل مجال السياسة؟ هذا هو السؤال الذي يحكم المسيرة السياسية لـ«حزب الله» في الوطن اللبناني بعد الحرب.
في مرحلة السلم وتعقيداتها، كان أمام «حزب الله» طريقان أساسيان لممارسة السياسة، فيما هو حركة مقاومة تقاتل في الوقت عينه: أن تعمل في السياسة الشعبية ولكن «من خارج النظام»، وهو السلوك الذي اعتمده «حزب الله» لسنوات طويلة، أو أن تدخل الى النظام وتجيّر تأييدك الشعبي حصّةً في الدولة وموقعاً في السلطة، وهو ما حصل بعد 2005 (مع التنبيه إلى أنّ هذا التحوّل لم يكن لحظيّاً، أو حالة قطع حصلت فوراً مع دخول وزراء لـ«حزب الله» الى الحكومة والجهاز التنفيذي، بل كان هذا تتويجاً لمسارٍ تدريجي طويل). بتعابير أخرى، طوال التسعينيات كان النهج السياسي لـ«حزب الله» يقوم على وضع رِجلٍ في النظام وأخرى خارجه؛ يشارك في الانتخابات ويدخل ممثّلين الى المجلس النيابي، ولكنّه يرفض الدخول الى الحكومة ويعارضها في الغالب ولا يعطيها الثقة. هذا الموقع يؤسّس لنظرةٍ معيّنة الى العمل السياسي والى جمهورك ولغتك السياسية: لو أنّك سألت كادراً لـ«حزب الله»، مثلاً، في أواخر التسعينيات عن رأيه في السياسات الحكوميّة، لقال لك بوضوح ما معناه إنّ الحكومة لا تعمل لصالح اللبنانيين، وإن سياساتها تفقرهم وتجوّعهم، وإن الحريري «مشروع أميركي» مشبوه، وهو يريد تكبيل البلد بالديون، حتى نخسر استقلالنا «ماليّاً» بعد أن حصّلناه بالقتال. عند كلّ أزمة سياسة أو اقتصاد، كان نوّاب «حزب الله» يسارعون إلى المطالبة باستقالة الحكومة، وإعادة النظر في كامل الخطة التي تسيّر البلد (وهذا لا يمكن أن تفعله حين تصبح جزءاً من الحكومة وعضواً في شبكة تحالفاتٍ حاكمة).
المشاركة «من داخل النظام»، بدورها، لها تبعاتٌ على تشكيلك السياسي وموقعك في المؤسسة وفي المجتمع، وهذا ما نشهده في مرحلة ما بعد 2005. هناك، أوتوماتيكياً، ثلاث نتائج أساسية - لا يمكن تقريباً تلافيها - تنتج عن هذا المسار «الحكومي». أوّلاً، الممارسة السياسية لـ«حزب الله» ستمرّ، من الآن فصاعداً، عبر نمط التحالفات «البرلمانية»، وهي بطبيعتها تحالفات سياسيّة «تخارجيّة» بينك وبين طرفٍ مختلف، تقوم في وقتٍ معيّن حول قضايا معينة (في الغالب مكاسب في جهاز الدولة) وتنفكّ حين تختلف الظروف ويعود كلّ طرفٍ الى موقعه. بمعنى آخر، أنت يمكن أن تقيم تحالفات من هذا النوع لسنوات طويلة مع العونيين أو غيرهم، ولكنك تظلّ «حزب الله» ويظلّون «عونيين»، كلُّ يحافظ على هويته ولا أحد يستقطب أحداً. هذا النمط من السياسة ليس خياراً وحيداً، حين تنجح حركة مقاومة وتحرّر أرضاً وتنتصر في حروبٍ وتحقّق رصيداً، فإنّ في وسعها تحويل هذا الرصيد بأكثر من شكل. المشاركة الحكومية والتحول الى لاعب أساسي هو أحدها، ولكن الانتشار عبر فقراء لبنان - مثلاً - هو خيارٌ تغلقه هذه السياسة. في العادة، الجمهور ــ الهدف لحركةٍ ثورية خمينيّة، وحليفها المفترض، هو هذه الفئات تحديداً: الفقراء في عكّار، اللاجئون الفلسطينيّون، العمّال السوريّون، هؤلاء هم «المستضعفون» في الأرض. هذا ليس سيناريو خيالياً؛ في أواخر التسعينيات مثلاً، وهذا شهدته بنفسي، كنت تجد شعبيّة «حزب الله» في مدينةٍ مثل صيدا بين الفلسطينيين، والاسلاميين، والمؤيدين الفقراء لمصطفى سعد (في وقتٍ كان العداء له داخل البرجوازية الشيعيّة مستحكماً). بالنسبة الى هؤلاء جميعاً، كان «حزب الله» يشبههم: «نصف ــ قانوني» مثل حالهم، يقاتل إسرائيل، ويحاول الحريري أن يصفّيه. وهناك دراسات لـ«مجموعة الأزمات الدولية» تقول إن شعبيّة «حزب الله» كانت مرتفعة في شمال لبنان قبل 2005 تحديداً بين الفقراء في طرابلس والاسلاميين (وهذه هي الفئات التي اكتسحتها السلفية والحريرية في السنوات الماضية).
البعض قد يحاجج بأنّ تحوّلات الاقليم كانت أكبر من لبنان، وأنّ الحرب الطائفيّة كانت ستمتدّ آثارها الى لبنان في كلّ الأحوال، ولكننا لن نعرف ببساطة لأنّك، في السياسة، لا يمكن أن تكسب الاثنين معاً: التحالف الحكومي والانتشار عبر المهمّشين والفقراء. عليك أن تختار، والمسألة لا يمكن حلّها لغوياً أو عبر الخطابات. اللاجئ الفلسطيني حين يراك متحالفاً في الحكومة مع عدوّه، لا توجد وسيلة خطابيّة تجعله يتماهى معك بعد ذلك، أو يرى فيك أملاً وحليفاً للخروج من حالة الاضطهاد (ومن ناحيةٍ أخرى، فإنّ هذه السياسة البرلمانية هي التي تجعل شخصاً مثل جوزيف أبو فاضل يتحدّث باسم "المقاومة" ويربط نفسه بها؛ وهذه قاعدة قديمة بأن تحترس جيّداً حين تقرّب أحداً الى صفّك، وأن تفهم ما سيصدّره اليك).

عن استقطاب النخب
النتيجة الثانية لنمط «السياسة البرلمانية» هي أنّه لا يحصر العمل السياسي لـ«حزب الله» بين الشيعة اللبنانيين فحسب، بحسب تقسيمات النظام اللبناني وحسابات الانتخابات والمحاصصة، بل انت لا تعود قادراً - في سيناريو كهذا - على أن تعتمد، كما في الماضي، على الشيعة الكادحين والعقائديين والذين يتطوّعون للقتال، فيما تحسم بأنّ فئات أخرى ستكون - بنيوياً - معادية لك. بل عليك الآن أن تطوّر خطاباً وبرنامجاً سياسياً يستوعب أكبر عددٍ ممكن من أبناء الطائفة: الشيعي الثري والشيعي الفقير والمتدين والعلماني، وإلّا فأنت ستخسر حكماً في المنافسة البرلمانية الانتخابية ولعبة الحصص. ومثلما أنت تستقطب عناصر جدد الى جوّك السياسي، فإنّ هؤلاء العناصر بدورهم يدخلون اليك، ويؤثّرون فيك، وتظهر طبقات وأدوار وأنماط حياة جديدة لم تكن منتشرة من قبل في «مجتمع المقاومة».
هنا نصل الى النتيجة الثالثة لنمط السياسة الحكومية وخطاب «الاصلاح من داخل السلطة»، وهي أنّ الحلبة السياسية، والدخول في التنافس السياسي والاعلامي والانتخابي، يستلزمان فئات محترفة متخصّصة - مثل السياسي المحترف والاعلامي المحترف والكاتب والباحث - لا تكون موجودة عادة في حركات مقاومة وقتال، أقلّه قبل أن تصل الى السلطة وتؤسس دولة لها طبقة «التكنوقراط» الخاصة بها. المشكلة ليست في وجود التكنوقراط بل في الهدف من وجودهم. هناك ضرورة لوجود «نخبة مقاومة»، لها شروط إنتاجها الذي يختلف عن المؤسسة والمجتمع الفاسد، وترتضي بحياةٍ تختلف عن طموح المثقّف البرجوازي أو الموظّف الرفيع في الشركة الرأسماليّة. ولكنّ مجال التنافس السياسي والانتخابي هو مجال الإعلام التجاري وسياسات الطبقة الوسطى، وليس «الإعلام الحربي»، وقد اكتشف «حزب الله»، وقت التصادم السياسي والحرب الإعلامية عام 2005، أنه لا يملك كوادر ومنصّات ومتكلمين ونجوماً يقدرون على الدفاع عنه والتحدّث باسمه في وجه خصومه الكثر.

لو نجحت واشنطن في فرض قانونها على الداخل اللبناني وتابعت حربها على المقاومة، فقد يعود «حزب الله» كما كان، تنظيماً محرّماً على «الصحبة الراقية»


ولكنّ صناعة هذه «الطبقة المحترفة»، وشروط التنافس السياسي في أيّام السلم، والمعركة على كسب الإعلام والصّورة والطبقة الوسطى، لا تتوافق - في العادة - مع ظروف حركةٍ مقاومة تتعرّض للحصار وتعيش في انتظار الحرب. بدايةً، نظريّة أنّك من الممكن ان تكون حركة مقاومة تحاربها الهيمنة الأميركية وأن تنتصر في حربٍ إعلاميّة وتغري مجتمع المثقفين والفنانين والمؤثرين بالوقوف الى جانبك هي محض وهم. هذا له أسبابٌ ماديّة كثيرة (الميزانية التي تقدر دول الخليج واميركا على تخصيصها للاعلام والثقافة ورشوة النخب في منطقتنا تفوق الميزانية الدفاعية لكل دول «محور المقاومة»)، والرهان على أنّ المقاومة تقدر على مواجهة الخصم في ميدانه وبأسلوبه - عندهم قنوات، نفتتح قنوات منافسة، لديهم برامج، ننتج برامج مشابهة، الخ - سبّبت هدراً لا يصدّق للموارد والوقت من غير عائدٍ ونتيجة. المسألة ليست فقط في أنّك لست في ملعبٍ مستوٍ، ورسالتك لن تصل الى أكثر الجمهور أصلاً، فيما هو مغرقٌ بالاعلام المعادي، المسألة الأعمق هي أنّ حرب الاعلام واستقطاب النخب هي، قبل أيّ شيء، عمليّة إغراءٍ وإغواء. الإغراء مصدره القدرة المادّيّة والسلطة والقوّة، والاعلام يعرضه ولكن لا يمكن أن يزيّفه. «معسكر المقاومة»، في أيّ مكان، هو ليس موقعاً يغري هذه الفئات «المحترفة» ولا يفترض به أن يكون: من يُرِد حياة المثقّف البرجوازي، الإعلامي الميسور، أو الموظّف الدولي، لا سبب لديه لأن يقترب منك، وليس لديك شيءُ حقيقي تقدّمه له (لو كنت شابّاً طموحاً، تملك تعليماً غربيّاً، هل تفضّل أن تدرّس في برلين أم في البصرة؟ أن تعيش في دبي أم في ضاحية بيروت الجنوبية؟)، ولو بدأت بجذب هذه الفئات، أو توليدها في لدنك، فهذا يعني أن هناك خللاً ما يتطوّر لديك.
ميدان المقاومة هو الحرب والتنظيم الشعبي، وليس الحرب الاعلاميّة ضدّ الأقوياء، فهي خاسرةٌ سلفاً. المقاومة يمكن أن تعد بأن تكون صوت المقهور، وأن تعطيه الوسائل لتغيير واقعه، ولكنّها لن تغري الإعلامي المحترف والمثقّف المحترف والانتهازي المحترف، ولا يفترض بها أن تستقطبهم. يكفي أن تقارن بين نتائج المعارك المتسلسلة التي خاضتها المقاومة، وكلّها كانت تجري تحت ظروفٍ صعبة وفي حالة حصار وعدم توازنٍ في القوى، ولكنها نقلت المقاومة أطواراً تاريخيّة، وبين نتائج المواجهة «البرلمانية» و«الاعلامية» في الداخل اللبناني منذ عام 2008، حيث لم تحصّل المقاومة سوى الخسائر في الشعبيّة والهيبة. حين تقاتل في الميدان يمثّلك جنودُ هم أشرف وأشجع رجالٍ في العالم اليوم، وحين تخوض معركة الإعلام والنخب يمثّلك المتحدّث اللزج على التلفزيون. هذا الكلام ليس جديداً، بل هو الدرس والتحذير اللذان ورثناهما عن تجربة كلّ الحركات الثورية في القرن العشرين، وهي تخبرك كيف تستولد الحركة الثوريّة مع صعودها طبقات جديدة ومصالح وتناقضات تشتدّ، ونحن لسنا محصّنين عن مصائر غيرنا.

أهلاً بالعقوبات
الفكرة هنا ليست في أنّ هناك إمكانيّة للعودة في التاريخ وأخذ خيارات مختلفة، التاريخ يتقدّم دوماً نحو الأمام، وهنا دور العقوبات الأميركيّة الجديدة، التي قد تفتح طوراً جديداً في تاريخ المقاومة وعلاقتها بالداخل السياسي في لبنان. «حزب الله» لا يملك أرصدة في أميركا أو مصالح تجاريّة يمكن للأميركيّين أن يصادروها، ولكن الرسالة التي تبثّها واشنطن هي أن مجال العقوبات سوف يتّسع ليطال كلّ من يتعامل مع المقاومة بشكلٍ غير مباشر، أو يدعمها لفظياً، أو حتّى لا يعاديها بشكلٍ واضح (وهذه الشروط تُفرض على الداخل اللبناني). من يُرد أن تكون له تجارةٌ في الخارج، وحسابات مصرفية كبيرة وعلاقات حول العالم، لن يقدر على ملامسة من له علاقة بالمقاومة، بل إن خرجت على التلفزيون وعبّرت عن موقفٍ داعمٍ للمقاومة، فقد تُمنع عنك تأشيرات السفر. بتعابير أخرى، لو نجحت واشنطن في فرض قانونها على الداخل اللبناني وتابعت حربها على المقاومة كما تريد، فقد يعود «حزب الله» كما كان، تنظيماً محرّماً على «الصّحبة الراقية».
هذا، في ذاته، قد لا يكون أمراً سيّئاً. قد يكون من حظّ المقاومين في هذه الأيّام أنّهم يواجهون، باستمرار، حملةً تلو الأخرى: حربٌ ثمّ غزوُ ثمّ حصار ثمّ عقوبات. لا يتاحُ لهم أن يرتاحوا أو يفسدوا، والحرب والحصار يعيدان دوماً تعريف الأولويّات ويضعان في الواجهة من يضحّي ومن يستحقّ، ويذكّران بأنّ حاضنتك الشعبية ــ من الفقراء الذين يراهنون عليك ــ هي كلّ ما تملك. حين يتمّ ضرب فصائل المقاومة في العراق وسوريا، ويتمّ تشديد الخناق على إيران، ويُلاحّق مؤيدو «حزب الله» في لبنان، فإنّ هذا ما يبقي المقاومين في «حالة حرب» واستعداد. سياسة «الحملة بين الحروب» التي تنتهجها اسرائيل، لا تضعف المقاومة ماديّاً بشكلٍ جادّ، ولكنّها ذكّرت العراقيّين بأنّ ميدان المواجهة عندهم هو ليس محليّاً فحسب، وأفهمتهم أنّ إسرائيل لن تتركهم في حالهم، وجعلتهم يستعدون لمواجهة هذا العدوّ والتوقّي منه.
في لبنان، العقوبات لن تحني ظهر المقاومة، ولكنّها دليلٌ جديد على أنّ نظريّة «الساحة الخلفية الهادئة» لن تستمرّ الى الأبد. أنت لست في بلدٍ طبيعيّ، بنى مؤسساتٍ واقتصاداً ونظاماً تمثيليّاً. نحن تحديداً في مرحلة تهتزّ فيها كلّ هذه الأسس، وسنُجبر قريباً على التفكير بمنطق البدايات الجديدة: النظام السياسي غير مستقرٍّ ولا يقدر على الاستمرار، المنظومة الاقتصادية هي عبارة عن لعبة احتيال هرميّة، وصلت الى منتهاها وتحتاج الى إعادة تأسيس، والناس سوف يحتاجون غداً الى حركةٍ شعبيّة تقودهم في وقت الأزمة، وليس الى حزبٍ برلماني تقليدي (وإن كان «إصلاحياً»). حين يتمّ عزل المقاومة وحصارها وتموج حولها الأزمات، ولا يعود «الروتين الاعتيادي» ممكناً، فهذا ليس طارئاً خطيراً؛ هنا المقاومة، ببساطة، تعود الى جذورها.