بعد أن وصل الوضع الاقتصادي في لبنان إلى حافة الانهيار بسبب السياسات الاقتصادية غير المنتجة وبسبب الهدر والفساد في مؤسسات ومرافق الدولة كافة، قلّما سمعت مسؤولاً إلا وتكلم عن الهدر والفساد، وبما أن العجز الحاصل في «مؤسسة كهرباء لبنان» التي أصبحت عبئاً ثقيلاً على خزينة الدولة فلم يبقَ مسؤول سابق أو حالي إلا وتكلّم عن وجوب إصلاح هذا الوضع تحت شعارات تفعيل الجباية ووقف التعدّي ورفع فواتير الكهرباء على المواطنين وعلى قطاعات الإنتاج الصناعية الخاصة كافة، ولكن شتان ما بين الشعارات والتنفيذ.
كيف كان عمل الشركة قبل الحرب الأهلية؟
ما كانت مقومات النجاح منذ فترة الخمسينيات إلى بداية الحرب؟ أعود بالزمن إلى أوائل ستينيات القرن الماضي. دخلتُ في مجال العمل وبدأتُ العمل في المصانع وكنت أحبّ العمل والتعلّم في شتى المجالات وخاصة في مجال الكهرباء الصناعية، والذي ساعدني في وقتها أن معظم المصانع كانت تستعين بالخبراء والمهندسين، وكنت أعمل وأتعلم أحياناً كثيرة تحت إشرافهم وأستفيد من خبراتهم. بما يخصّ «شركة كهرباء لبنان» كانت دائماً تؤدّي خدمة سريعة للمصانع ولعموم المناطق والأحياء عند انقطاع الكهرباء ليلاً ونهاراً.
كتجربة شخصية مررت بها، أذكر أنه في إحدى ليالي الشتاء الممطرة كنت أؤدي عملي في المصنع، وكان الطقس عاصفاً بشدة ما تسبب في انقطاع الكهرباء. تنفّس العمال الصعداء إذ جاءتهم فرصة مجانية للاستراحة، ولكن لم تدُم فرحتهم إلا دقائق معدودة قبل أن تأتي سيارة الصيانة التابعة لشركة الكهرباء وتمّ إصلاح العطل خلال دقائق. كخلية تعمل بتنسيق بين رئيس مجلس إدارة وأعضاء مجلس، ومدير إداري وفنّي، كانت الشركة تعمل بنجاح على المستويات كافة، من إنتاج الكهرباء في المعامل ووجود مراقبين وفنيين ودوائر وفرق للصيانة والتجهيزات اللازمة إلى صنع وتركيب أعمدة النقل والتوزيع إلى متابعين لسير العمل... كلها عوامل ساهمت بالنجاح الذي تميزت به الشركة. شاهدتُ مراراً طريقة نقل المنشآت الحديدية على ظهور البغال لوضعها في المناطق الحرشية، كان جميع العاملين من فنيين وعمال ومراقبين وموظفين مشاركين فاعلين في دورة إنتاج المؤسسة الحيوية.

أثناء الحرب
تدهورت أوضاع الشركات والإدارات والمؤسسات العامة كافة أثناء مرحلة الحرب الأهلية. بعد هذا الانهيار باتت كل المؤسسات تُدار مزاجياً ومناطقياً من قبل أمراء الحرب كما تمّ نهب وسلب المستودعات والتجهيزات للمرافق العامة التابعة للدولة بشكل أساسي. تعايش المواطن مضطراً مع هذا الوضع، إلى أن وضعت الحرب أوزارها وأُعلنت نهايتها في مؤتمر الطائف.
لكن الآثار السلبية للحرب على المؤسسات استمرت بعد الحرب من سوء في الإدارة وفساد في النفوس والنصوص، حتى تحولت تلك المؤسسات وخصوصاً «كهرباء لبنان» عبئاً على الاقتصاد المحلّي.
كانت الشركة خلية نحل لا تهدأ، يجوب مراقبوها الشوارع والبلدات والقرى لمراقبة العدادات، يأخذون العداد المشتبه به إلى قسم الصيانة للكشف عليه، وكان جابي التحصيل يضع ملاحظات دقيقة يعمل بتفانٍ وبدوام كامل وبشكل متواصل بين الإدارة والمشتركين. بعد الحرب وبدء مرحلة السلم الجديدة تغيرّت المفاهيم الوظيفية، وانعكس ذلك على إنتاجية الموظفين الذين وإن حضروا إلى الدوام لا يمتثلون للأوامر والملاحظات الإدارية، فأصبح وجودهم من دون جدوى، وانصبّ اهتمام الإدارة فقط على تحصيل الأموال من الجباية ومراقبة التقنيين والتغذية للمناطق. وعلى هذا الحال حتى أصبحت الشركة موضوعة على خطط الخصخصة، ولكن لم تنَل الفكرة قبولاً من بعض النافذين والمسؤولين حينها. كنتيجة لذلك أصبحت أعمال الصيانة والجباية من المشتركين والأشغال كافة تلزَّم من النافذين حينها إلى شركات ومقاولين، بالإضافة إلى عملية شراء الإنتاج الكهربائي عوض تفعيل وبناء معامل خاصة للكهرباء. أصبح الموظفون مراقبين للأعمال إذا احتاجت منطقة أو محلة إلى محوّل تكفّل الحي أو السلطة المحلية بتسديد تكاليف العمل. تعاقبت حكومات عديدة منذ التسعينيات والوضع على ما هو عليه.
بعد الحرب تغيرّت المفاهيم الوظيفية، وانعكس ذلك على إنتاجية الموظفين الذين إن حضروا إلى الدوام لا يمتثلون للأوامر الإدارية


خبراء اقتصاديون كثيرون (ممن وجدوا لهم فرصة عمل) قدّموا اقتراحات وحلولاً لأزمة الشركة، أغلبها لوقف التعدّي ورفع الرسوم حتى مبعوث الدول المانحة أوصى برفع فاتورة الكهرباء. لفتني في حديث إلى أحد الخبراء على إحدى محطات التلفزة طمأنته للمواطنين بأنّ رفع التعرفة، إذا حصل فسيحصل أول سنة 2020 والمشترك لا يدفع الزيادة إلا بعد عشرة أشهر أي في شهر أيلول 2020. ولعلّ الخبير نسي أو تناسى أن الجباية الآن هي لسنة 2019، تحصّل الشركة فواتير عن سنة 2017 و2018 ولم تبدأ بعد عن سنة 2019، والاشتراك الشهري يجمع شهرين شهرين، والمقطوعية الشهرية تصبح ضعفين (500 ك.و تصبح 1000 ك.و) وتحسب الفواتير التي يتسلّمها المشترك مضاعفة حسب الشطور، بحيث أن من يدفع خمسين أو سبعين ألفاً يتسلم الفاتورة مضافاً إليها تأهيل الشبكة ورسم عداد وضرائب وغيرها، وهذا حاصل نتيجته تلكؤ الموظفين المولجين بالجباية. طبعاً هذه الزيادات يتحملها المشترك الذي لا يريد ولم يعتد التعدي على الشبكة والسرقة، وبالتالي لم تعد فاتورة الكهرباء زهيدة كما يدّعون، خاصةً إذا أضيفت إليها فاتورة المولّد الخاص.
إن العجز السنوي بلغ ملياري دولار نتيجة ثمن المحروقات المستوردة، وبحسب بيان شركة الجباية ثمانمئة مليون دولار يُصرف على معاشات الموظفين ومدفوعات مختلفة للشركات الخاصة. لو وجدت الإدارة الفعالة لزادت المؤسسة جبايتها، ولكانت المداخيل أضيفت إلى صندوقها، نتيجة زيادة الفورة العمرانية، بحيث يدفع المواطن رسوم الكهرباء والمياه عند الترخيص والفرز والإسكان. لكن الشركة اكتفت فقط بقبض الرسوم من دون المتابعة العملية للأبنية، ولم تضع العدادات للمساكن، ولم يتمّ الكشف على نسبة كبيرة من الأبنية بعد إنجازها...
لو اهتمت الشركة وفعّلت الجباية بوضع عدادات جديدة استشعارية وحمّلت المشتركين قسماً من ثمنها، لكانت لاقت إقبالاً من الجميع، وزادت مبلغاً من مبالغ التحصيل علماً أن تحصيل الفواتير يتم الآن عبر الهواتف وتدفع الفواتير عبر البنك.
أمام كلّ ذلك نسأل ما هي الحلول؟
رفع كلفة فواتير الكهرباء ليس الحلّ الجذري، والإصلاح يلزمه إعادة تنظيم شاملة. أما بعض الحلول فقد تتلخّص بالآتي:
1) إشراك القطاع الخاص عن طريق شركات أو ممولين بتعيين مجلس إدارة ووضع قوانين للشراكة على أن تعود للدولة بعد فترة زمنية محددة.
2) هيكلة جديدة توضع للإدارة والموظفين.
3) وقف التلزيمات العشوائية وإعادة تفعيل المصالح الفنية وفرق الصيانة كما كانت سابقاً.
4) إنشاء معهد فني أكاديمي على نسق دار المعلمين وتعيين أساتذة اختصاص في مجال الكهرباء والطاقة لتستفيد الشركة من طاقاتهم الشابة بتعيينها بعد التخرج في المجالات كافة.
* باحث وكاتب لبناني