الأزمات المستعصية التي آلت إلى إسقاط نظام بن علي لم تكن في شكل الحكم الاستبدادي فحسب، بل إن هذا الحكم الاستبدادي الذي اتخذ منهج قمع الحريات الخاصة والعامة والتسلط في الحكم، تمادى في تسلّطه لإشباع سلطانه الاستبدادي، لكن كي يتسنّى له تحقيق سياسات الإقصاء والتهميش التي ضربت معظم طبقات المجتمع على الصعد السياسية والثقافية والوطنية وعلى صعيد السياسة الاقتصادية ــ الاجتماعية في المقام الأول، وهي السياسة الأشد تعبيراً عن مصلحة سلطة الاستبداد في تونس وعن مصالح زبائن السلطة من الفئات الريعية والتجارية والمال والأعمال، وفي التبعية التامة لمصالح الدول الغربية، ولا سيما فرنسا التي أثنى رئيسها جاك شيراك على نظام بن علي قبيل سقوطه بوصف ما سماها إنجازات ابن علي «بالنمور الشرقية»، في إشارة إلى ما يُعرف «بالنمور الآسيوية» في كوريا الجنوبية وهونغ كونغ وتايلاند وغيرها.
ما تغيّر بعد سقوط بن علي هو ديمقراطية السلطة التي تدير النظام القديم ــ الجديد بحسب تعاليم الديمقراطية الأميركية
هذه السياسات التي شكّلت نظام بن علي في مجمل جوانبه، بحسب توصيات البنك الدولي وصندوق النقد وتحت إشراف ما يسمى «بيوتات الخبرة» وغيرها، لم يتغيّر منها حرف واحد في «المرحلة الانتقالية» تحت حكم سلطة الترويكا، بل ازدادت سوءاً ومخاطر كما يعبّر أهالي سيدي بوزيد وسيدي بوسعيد وأهالي المعاقل التي نشبت منها الثورة على نظام بن علي. وليس من المرجّح أن يتغير شيء يُذكر في المرحلة اللاحقة بشأن أسس النظام القديم ــ الجديد وبشأن بناء الدولة الديمقراطية. فما يجري تداوله في هذا الأمر يقتصر على المطالبة ببعض الحقوق التي يتصدى لها بعض التيارات السياسية اليسارية والقومية كما تطالب الفئات الشعبية التي علّقت آمالها على تغيير النظام بعد إسقاط سلطة بن علي. ويقتصر كذلك على الوعود العرقوبية التي تطلقها الطبقة السياسية في السلطة والمنافسون على المكانة والنفوذ والسلطة في مواسم الانتخابات. لكن ما تغيّر بعد سقوط بن علي هو ديمقراطية السلطة التي تدير النظام القديم ــ الجديد بحسب تعاليم الديمقراطية الأميركية التي تشيع المنافسة وحرية الاختيار طريقاً لإشباع الحاجات، سواء كانت سياسية عبر صناديق الاقتراع أو كانت حاجات المعيش عبر حرية التجارة في السوق وحرية الاستثمار الأجنبي المباشر، فضلاً عن حرية التعبير كما هلّل رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل، بعد أن قامت المخابرات الفرنسية باغتيال العقيد القذافي، بقوله «الآن أصبحنا أحراراً وعاد حق الرجل بزواجه أربع نساء».
على خلاف ديمقراطية الدولة في المجتمعات الأوروبية، تأسست الديمقراطية الأميركية على أساس اختيار الممثلين للسلطة في الانتخابات المعروفة في أميركا بتأثير اللوبيات والثقل المالي في ترجيح الكفّة. ففي انتخابات عام 2009 أنفقت لوبيات واشنطن حوالى 10 مليارات دولار لاختيار ممثلين يحظون بحرية القرار في توازن مؤسسات السلطة الحاكمة. فالتعريف الشعبوي للديمقراطية كما يطلقه إبراهم لنكولن بأنها «حكم الشعب بالشعب وللشعب»، هو حكم ممثلين عن الشعب يتم اختيارهم في لعبة انتخابية يسودها الكثير من المعضلات التي تمنع حرية الاختيار، لكنها تشكل ذريعة قانونية لممارسة السلطة حرية القرار. فأميركا شذّت عن قاعدة بناء الدولة الديمقراطية التي أسستها الثورة الفرنسية، لأنها ديمقراطية مستوطنين نشأت مع تشكيل 13 مستعمرة أصبحت مستقلّة العام 1776 ثم «أمة حديثة» في العام 1787 بنظام فيدرالي. فالسمة المميّزة لديمقراطية المستوطنات الأميركية أنها «ديمقراطية حديثة من دون ثورات ديمقراطية»، كما يعبّر عنها أبو الليبرالية في فرنسا ألكسيس توكفيل (1805 ــ 1859) في مسعاه لإرساء طقوس لعبة الدومينو في أيدي ما يسمى «الخبراء» وعزل الديمقراطية عن حركة البشر وتضحياتهم من أجل بناء نظام ديموقراطي جديد على حطام نظام الاستبداد القديم.
توكفيل الذي كرّس حياته لمحاباة ديموقراطية السلطة الأميركية في مؤلفاته «الديموقراطية في أميركا»، قارع الثورات الديمقراطية التي غيّرت النظام في فرنسا، سواء في المسألة الزراعية وملكية الأرض أم في مسألة الضريبة التصاعدية والتحرر من ربقة الكنيسة والإقطاع. فهو يتناولها لا سيما في الجزء الأول لعبة في آلية فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وفي الدستور ودولة القانون... لكنه ينظر إليها فوق الفئات المستفيدة والفئات المتضررة، وحين يستعرض دولة القانون على وجه الخصوص يصبغ عليها روح النص الديني في تلخيصه للديمقراطية بأنها المساواة وتلخيصه الدولة الديمقراطية بأنها دولة القانون. لكن النظام الديمقراطي يتناول دولة القانون برؤية مقاصد القانون التي تفترض عدم المساواة بين الضعيف والقوي، ما يفرض تدخل الدولة لمصلحة الضعيف من أجل تكافؤ الفرص، وبهذا تكون الديمقراطية هي تكافؤ الفرص وليس المساواة الدينية المطلقة. وفي هذا السياق تلخص الديمقراطية الأميركية الحقوق بحق التعبير عن الرأي ولائحة حقوق الانسان، وما سماه توماس جيفرسون (1743 ــ 1826) السعادة والحرية، إضافة إلى مسميات تتوارد حديثاً بصياغات عمومية، كالحديث عن الحكم الرشيد والمواطنة والتعددية وموقع السلطة والمعارضة. لكن النظام الديمقراطي الذي يقرّ حقوق الانسان والحريات الشخصية والعامة، يتناولها في إطار الحقوق الإنسانية التي تشمل حق المأوى والتعليم والطبابة والعمل والغذاء.
مقابل توكفيل يبحث ميشال فوكو (1926 ــ 1948) في مؤلفه «ينبغي الدفاع عن المجتمع، منشورات غاليمار، باريس، 1997» النظام الديمقراطي بأنه «نظام تقاسم الثروات»، فهو يعيد الديمقراطية المعلّقة في الهواء بمصطلحات وتعريفات مطلقة إلى الأرض ولغة المصالح والحقوق المتباينة في الفئات الاجتماعية التي ترعاها الدولة الديمقراطية في دورها الناظم للتوازن بين المصالح وتكفل الدولة بذلك الحرية السياسية والحرية الاجتماعية. ففي هذا الإطار يبحث فوكو سلطة الحكم، لكنه يرى كل ثروة مادية سلطة يمكنها إذا تضخمت أن تطيح السلطة الديمقراطية المنتخبة في صناديق الاقتراع.
الديمقراطية التمثيلية لم تكن فتوى أبدية مقدّسة لكل الأجيال والأحوال. فهي وليدة مرحلة تاريخية بصلاحية عمر طويل لكنه محدود، وهي تتهاوى في عقر دارها وفي ملحقاتها الناشئة إثر إطاحة السلطة دور الدولة الديمقراطية. ولكل زمان دولة ورجال.
*باحث لبناني