تحدّثت وصديقاً لي عن مشكلة الأخطاء اللغويّة/ النحويّة والصرفيّة/ الإملائيّة والطباعيّة/ التي قد نقع فيها ويقع فيها كثيرون. صديقي متبحّر في اللغة وفي فهم القواعد والإملاء... فضلاً عن الأخطاء الشائعة التي يستطيع المتعمّق أن يجدها في حال القصد. كان الحديث المشوّق على جانب من الأهميّة، ومفاده إشكاليّات ثلاث: إشكاليّة المبدع، إشكاليّة المترصّد السلبيّ وإشكاليّة الغيور على اللغة.إشكاليّة المبدع: تناولتها من أخطاء بسيطة وسهلة قد يقع فيها الشاعر الكبير أو الباحث المميّز أو المعلّم والأستاذ الجامعيّ والخطيب البليغ المفوّه في القراءة والكتابة. لا يخفى على أحد أنّ مَن لم يدرّس قواعد اللغة، ولم يتابعها، ولو كان مبدعاً مميّزاً في شأن من شؤون الأدب، سينسى ويسهو عن الهمزة وأحرف العلّة وغيرها من موارد لغة الضادّ الصّعبة، التي ليس ثمّة من شكّ كان لمادة القواعد دور في هرب الكثيرين منها. استنتجْنا في سير الحديث أن لا مبرّر للمبدع وغيره في أن يقع في أخطاء كهذه، ولا مبرّر للسّهو والزلّة أبداً، وأنّ عليه أن يجتاز قطوع التقصير هذا، ويعمل على سدّ الثغرة واللدغة واللثغة وعلامات الوقف والربط و... إلخ.
لكن، جرّنا الحديث هذا إلى المترصّد السلبيّ، ومن حقّ كلّ لغوي أو عارف أن ينتقد ويعلّق. نقول:
أ- أنْ نترصّد الخطأ للتشهير والتوهين أمر معيب.
أنْ نترصّد الخطأ للتشهير والتوهين أمر معيب


ب - لا يعني أنّ من أخطأ بهمزة أو ألف أو فعل مجزوم أو منصوب... يُصار إلى رجمه ووأده والتشفّي منه، ونفيه من دائرة القدرة الإبداعيّة ولقب شاعر أو أديب أو أستاذ...
أذكر أنّ قصيدة «التأشيرة» الرائعة للشاعر الكبير هشام الجخ قد وقع الخطأ في عدد من كلماتها... لكنّه يبقى شاعراً من طينة خاصّة جدّاً. فهل يحقّ للمترصّد أن يحكم عليه وعلى شعره من واو ونون زائدتين... أو ثغرة بين الرفع والنّصب... سقطت سهواً وحتّى جهلاً؟ لا نظنّ أنّ ثُغَراً مرّت على الرغم من العيب فيها تلغي الإبداع. وأذكر أنّ قصيدة محظورة «عنترة» لسيّد ساحة الشعر الغزلي نزار قباني مكتوبة ومنطوقة بصوته من ديوان له ذُكِرَت فيها الألف المقصورة بعد أداة الجزم، وأعاد العملاق كلمة واحدة ثلاث مرّات بين الرفع والنصب ليُصيبَ الهدف. حينما يقرأ أو يصغي مترصّد سلبي هذه المقطوعة، تراه سيشكّ في عبقريّته الشعريّة؟ أو أنّ الخطأ اللامعذور وقع فحسب. ذات مرّة توقّف مترصّد سلبيّ عند كلمة لسيّد المقاومة وفنّ الخطاب والبلاغة والفصاحة في كلمة سياسية هزّت كيان الدنيا من إسرائيل إلى أميركا: كان عليه أن ينتبه إلى حذف النون هنا... وقد يأتي «الاسم» هنالك منصوباً، ولو مشكوكاً فيه... أخطأ في كلمتين... هكذا قال المترصّد الفصيح. لن أبرّر الخطأ اللغوي لصاحب الاختصاص، ولن أبرّر الخطأ لشاعر، أديب، عالم، طالب لغة، إعلامي... لا مبرّر أبداً، ولكن:
أن تُصبح القيمة فقط من نصْب هنا وضمّة هناك وحذف من هنا وزيادة هنالك... أساس التقدير والتقييم والثقافة والرقيّ والإبداع... ظلم وجهل. أظنّ أنّ من المترصّدين هؤلاء ممّن لم يؤلّفوا كتاباً، ولم يُصدروا ديواناً، ولم ينشروا بحثاً، ولم يلقوا كلمة كي يقف المترصّدون موقفهم. بإمكان المترصّدين اتّباع أسلوب الإشارة المباشرة للفت انتباه الكاتب، كما يفعل الغيارى، لا أن يُساق النصّ والمتن والديوان والمقال إلى مواقع التواصل والتنافر، ليعبروا فيه حدود الغيبة والتشويه وإلى ما أبعد.
أمّا إشكاليّة الغيور على اللغة والإبداع، فيعي أنّ اللغة مرنة مُرهِقة، فيها الباحث الأدبيّ، وفيها الباحث اللغويّ، ويعي أنّ اللغة العربيّة فيضٌ مرعبٌ من الأحرف والأفعال والأسماء والمصادر والاشتقاقات والمدارس النحويّة التي عتّقها الزمن، وندرك أنّها لغة القرآن والدين والصلاة، لغة مهيبة، قد يبدع الواحد بالمعنى ويتعثر من غاية تقصير. الغيور يداوي الجرح بصمت، ويكوي التجعيدة بحبّ، يدري أنّ القوّة تتشابك فيها الأساليب والمضامين واللغة والإعراب… ويدري أنّ المادة لا يشوّهها زلل يُداوى بالاستذكار والجِديّة والمواكبة.
الغيور يدرك مكامن الإبداع لأنّه يعدّ اللغة العربيّة مقدّسة المغزى، يستنطق من النصّ الجمال والهدف، يصحّح برويّة وينقد بشغف الخلوق في استثمار الأمان النصّي لا الكيد لإضعاف الآخر... فلنترصّد حلو الكلام ونزده شهداً، ولنتغاضَ بوعي الغيور عن سلبيات ما قد يقع، ولنشبع من أدب عربيّ ولغة، تشنّ حروب ناعمة وخشنة من أجل إخراجهما من القواميس الثقافيّة والوجوديّة.
*ملحوظة: تعمّدت الخطأ في تاء التأنيث التي لا تأخذ تنوين الفتح في حالتي النصب والجرّ... ربّما تسقط سهواً... وثمّة أخطاء أخرى قليلة شائعة وغير شائعة من أجل المزيد من التشويق...
* دكتور متخصص باللغة العربية