اعتاد جمال عبد الناصر أن يضع على ورق ملاحظاته وأفكاره، مشروع قرار، أو تساؤل عن حدث، أو تقدير موقف، وفي مرات نادرة مقالات رأي يكتبها باسم غيره من مقرّبيه. بخط يده كتب بعد خمس سنوات من ثورة يوليو مقالًا وقّعه باسم لطفي واكد، أحد الذين أداروا مكتبه تحت عنوان: «القانون والمجتمع». أراد أن يطرح أفكاره أمام الرأي العام، وأن يرى ردود الفعل عليها من دون أن يعرف أحد أنه هو الذي كتب المقال.«يجب أن يبدأ التفكير الاشتراكي بدراسة الرأسمالية، وهذا القول صحيح في عرف نظرية التطور، كما هو في عرف نظرية الثورة». كان توجهه في ذلك الوقت من خمسينيات القرن الماضي «إعادة تقدير حقيقة المجتمع الذي نعيش فيه حتى يمكن قيام التخطيط السليم من أجل خلق المجتمع الذي نحلم به». إذا لم تكن هناك مثل هذه الدراسة فإن «أفضل الجهود السياسية وأصدقها نية وأعظمها مثالية وأشدها بطولة تبوء بفشل». «كما يجب أن نهتم بدراسة التفاعل بين الاقتصاد والعوامل السياسية، لا سيما في موضوع تفاعل الديمقراطية السياسية مع الميول الكامنة في نظم الاقتصاد الرأسمالي، أو الميول الكامنة في محاولة سيطرة رأس المال على الحكم مرة أخرى».
في رحلة البحث عن طريق ينتقل بمصر من حال إلى حال، حاول أن يجيب على تحديات مجتمعه، فـ«الناس في سعيهم للحصول على أرزاقهم يتأثرون بشدة بالعلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية»، وكانت الاشتراكية خياراً مبكراً.
أهمية المقال في ما يلقيه من ضوء على طريقة تفكيره في ذلك الوقت، كما في قدر التدفق حيث يبدو من ظاهر الصفحات المكتوبة بخط يده أنه قد كتب في نَفَس واحد. الأهم من ذلك أنه قد يساعد في أيّ مراجعات موثقة لثورة 23 تموز / يوليو 1952، التي تعرضت لنوعين متناقضين من النقد، أحياناً من الأشخاص أنفسهم، بحسب ظروف الزمان ومتغيراته. النوع الأول من النقد يأخذ عليها أنها لم تمضِ في العمل الثوري إلى آخره حتى تجتث الطبقات القديمة، أو أنها لم تكن حمراء دموية شأن الثورات الفرنسية والبلشفية والصينية والجزائرية، التي شهدت تصفيات جسدية بين قياداتها. كانت تلك دعوة صريحة إلى تأميم المجال الاقتصادي كله وضرب القوى القديمة بكل عنف ثوري. والنوع الثاني من النقد يأخذ عليها ما اتخذته من إجراءات عنيفة، خلّفت جرحى كالتأميمات والحراسات، أو انتهاكات واعتقالات. أسوأ قراءة ممكنة نزع الحوادث عن سياقها، أو ادعاء الحكمة بأثر رجعي.

عند مطلع التحول الاشتراكي وحسم الخيارات الاجتماعية لـ«ثورة يوليو»، سجّل جمال عبد الناصر بخط يده أفكاره وتصوراته عن تناقضات مرحلة التحول وسبل حلها.
لعله أراد أن يرتّب أفكاره الرئيسية على ورق قبل الإقدام على أيّ خطوات ضرورية في المواجهات المحتملة. كان ذلك يوم ٢٧ تشرين الأول / أكتوبر ١٩٦١. وصف القرارات الاشتراكية بـ«الثورة الاجتماعية» وما قبلها منذ عام ١٩٥٢ بـ«الثورة السياسية». كان سؤاله الأول: «في أي اتجاه يجب أن نسير... إلى الرأسمالية أم الاشتراكية؟». لم يكن هناك تردّد في اختيار الموقع الذي يقف فيه.
كان سؤاله الثاني: من هو الشعب ومن هم أعداء الشعب؟ السؤال بنصّه تعبيرٌ عن عصر عالمي كامل في توصيف التناقضات الرئيسية والثانوية.
هناك «خلافات متعارضة» لا سبيل إلى حلها إلا بـ«سحق المناهضين للاشتراكية»... «جميع من يعملون على تقويض النظام الاشتراكي» بالنظر إلى أن الطرف الآخر في الصراع يستخدم كل الأساليب الممكنة لضربه وتصفيته ومنع التحول إلى دولة العدل الاجتماعي. تعبير «السحق» يستجيب للنوع الأول من النقد لتجربته، ويحتمل إجراءات أكثر تشددًا لم تحدث في التجربة العملية. أن تكون هناك تجاوزات وانتهاكات حدثت شيء و«السحق» ــ كما في تجارب ثورية أخرى ــ شيء آخر تمامًا. على الورقة نفسها دعا عبد الناصر إلى «تعيين الحدود بالضبط في إدارة هذا النوع من التناقض». «بالاختصار لا حرية لأعداء الشعب»، العبارة نفسها وردت بنصها في الميثاق الوطني. كان ذلك هو التناقض الرئيسي بحسب التوصيف الشائع في ذلك الوقت بالأدبيات الثورية العالمية.
كان سؤاله الثالث: ماذا عن التناقض الآخر ــ داخل الشعب نفسه؟ كانت إجابته: «جميع الطبقات والجماعات التي تؤيد وتساند البناء الاشتراكي وتساهم فيه»... «التناقضات بين الطبقة العاملة والبرجوازية الوطنية ليست متعارضة»... «وهي تستدعي تعيين الحدود بين الخطأ والصواب». بشيء من الإيضاح: «الدولة تستند إلى الشعب... لذلك يجب أن تمارس الديمقراطية في داخل الشعب». ثم صاغ شعارات لافتة مثل: «كل الحريات للشعب». «الديمقراطية وسيلة تقابل الأساس الاقتصادي والاجتماعي»، «إن جميع المسائل المختلف عليها... لا يمكن أن تُحل إلا بالأساليب الديمقراطية، بالنقاش والإقناع والتثقيف، ولا يمكن حلها بأساليب الضغط»، «يجب على القياديين أن يعتمدوا أسلوب الإقناع بطريقة ديمقراطية، أما اعتماد الأساليب الإدارية فأمر لا يقبله أي إنسان».
النص المكتوب بخطه كاشف لطريقة تفكيره، متأثرًا بما استخلصه من نتائج بعد الانقلاب العسكري في سوريا الذي أنهى تجربة الوحدة مع مصر. كان من استخلاصاته ــ كما كتب بخط يده على أوراق أخرى في توقيت مقارب: «أن هناك فئة لا تفرق بيننا وبين أعدائنا... أصدقاء لهم أعداء للشعب... كشفت نفسها وشجعت الرجعية»، «إننا لم نستأصل الرجعية في مصر». و«الاتحاد القومي تسللت إليه العناصر الرجعية المناهضة للثورة». أهم استنتاج ممكن من الوثائق الخطية، التي احتوتها «حافظة أوراق محمد حسنين هيكل»، أنه كان ثوريًا حقيقيًا بلا أي ادعاء، فهو يكتب لنفسه من دون أن يخطر على باله أن ما يكتبه موضوع نشر، ومفرداته تشي بدرجة عالية من الاطلاع على أدبيات الثورة المعاصرة. بصورة لا لبس فيها تبدو الوثائق الخطية تطويراً طبيعياً للمقال المجهول. بذات القدر كان ثوريًا حقيقيًا في مراجعة تجربته بشجاعة بعد هزيمة «يونيو».
أين مواطن الأخطاء القاتلة؟... وكيف حدث ما حدث؟

تبدّت في مراجعته الأخيرة نزعتان متجاورتان؛ نزعة شبه ليبرالية أكدت على المواطنة والمشاركة السياسية والحقوق المتساوية للمواطنين، بغض النظر عن انتمائهم الاجتماعي وموقفهم من الثورة... ونزعة أخرى حاولت بقدر ما تستطيع الإبقاء على جذوة «يوليو» في صلب أدوارها، غير أن الثورة الاجتماعية تراجعت في سلم الأولويات بضغط التحديات الجديدة التي فرضت نفسها. كان أفضل سيناريو ممكن التزاوج الفكري والعملي بين التعددية السياسية والعدالة الاجتماعية واستقلال القرار الوطني حتى يستكمل مشروع «يوليو» زخمه وقدرته على التجديد بالإضافة. وقد تبدّت ثلاث فرص أمام عبد الناصر لبناء نظام أوسع وأقوى وقادر على حمل مشروعه وتجديده وفق احتياجات العصور المتغيرة.
الأولى ــ بعد حرب السويس، فلم يكن هناك شك أن حزبًا يمثل الثورة سوف يكتسح أي انتخابات ديمقراطية وشفافة بقدر الشعبية الاستثنائية التي حازها. لم تكن تلك الفرصة غائبة عن تفكيره، غير أن خشيته من عودة الحياة الحزبية على صورتها القديمة بكل حمولاتها الطبقية القديمة منعته من التحرك في هذا الاتجاه. والثانية ــ أثناء الوحدة المصرية – السورية لبناء جبهة واسعة على أساس تعددي. أدى التنظيم السياسي الواحد «الاتحاد القومي» إلى إفقار التجربة من تعدديتها في إطار مشروع الوحدة. أجهضت الوحدة من داخلها بقدر ما أجهضت بالتآمر عليها. والثالثة ــ بعد الهزيمة العسكرية في حزيران / يونيو ١٩٦٧ وما تبنّاه بيان ٣٠ آذار / مارس من دعوات إلى المجتمع المفتوح ودولة المؤسسات بدا ممكنًا إقرار التعددية في بنية النظام السياسي. عبد الناصر تحدث موسعًا في هذا الاتجاه، غير أن أولوية إعادة بناء الجيش واستعادة الأراضي المحتلة بقوة السلاح ثم رحيله على نحو مفاجئ في الثانية والخمسين من عمره دفع الأمور في اتجاه آخر أخذ من التعددية اسمها لا قواعدها، وأحالها إلى ما يشبه "المسخ"، وهو أبعد ما يكون عن الجدية التي تحدث بها بعد هزيمة «يونيو».
*كاتب مصري