بائسٌ ومثير للسخرية هو، تعليق بنيامين نتنياهو على خبر نشر الدراسة الوراثية «الجينية» الإسرائيلية أخيراً حول أصول الرفات التي تعود الى نهاية العصر البرونزي وبداية الحديدي التي اكتشفت في عسقلان! إذ فَهِمَ نتنياهو خلاصة الدراسة العلمية على طريقته الخاصة الجاهلة، فكتب مغرّداً ما معناه: بما أن «الفلسطينيين القدماء» هم من أصول أوروبية، وبما أن الفلسطينيين المعاصرين جاؤوا من الجزيرة العربية، فإن أرض إسرائيل كانت وستبقى لبني إسرائيل الذين يعتبر نفسه منهم! ثم يخرج نتنياهو بالاستنتاج الأكثر عنصرية فيقول «إن ارتباط الفلسطينيين بأرض إسرائيل ليس شيئًا، مقارنة مع 4000 عام من الارتباط بين الشعب اليهودي والأرض»، فعن أيّ أربعة آلاف عام يتكلم الرجل؟ وأية أرض يقصد؟ أهي أرض الخزر بجوار بحر قزوين جنوبي روسيا حيث عاش أسلافه الخزر، أم هي أوروبا الغربية وتحديداً إقليم الراين في ألمانيا التي هاجر إليها وعاش فيها أسلافه الأشكناز بعد سقوط دولة الخزر، والذين يشكّلون أكثر من 90% من يهود العالم، كما تقول إحصائية نشرتها صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية بتاريخ 17 شباط 2015؟يبدو نتنياهو مقطوع الصلة بالواقع، ويعيش في أوهامه الأيديولوجية العنصرية التي يتنفسها منذ ولادته وحتى موته كسائر الصهاينة، وبدونها لا يستطيع الاستمرار في الحياة، فهو لا يستطيع تصديق أن لا شيء إطلاقاً يربطه، هو المهاجر الأشكنازي البولوني، ببني إسرائيل العبرانيين الجزيريين «الساميين» القدماء والذين لم يبق منهم إلا اليهود المزراحيم قليلو العدد!
ولأننا كنا قد تكلمنا عن انقطاع الصلة الوراثية الجينية، وبالتالي الإثنية، بين شعب بني إسرائيل أو العبرانيين القدماء باليهود المعاصرين، واستندنا في تأكيدنا لنفي وانقطاع هذه الصلة الى خبراء من بينهم اليهودي إران الحايك والروسي أناتولي كليوسوف («الأخبار» 16 تموز 2018 و4 تشرين الأول 2018) فلن نهدر مزيداً من وقتنا مع هذيان نتنياهو، ولننتقل الى الجانب العلمي في هذه الدراسة الجينية:
لنسأل أولاً، ما قصة هذا الاكتشاف الجديد وهل هو جديد حقاً؟ وماذا يقول التاريخ عن شعب عُرِفَ بأسماء متقاربة منها «البلست»، «الفلستيين»، وفي التوراة «فلشتيم»، وفضلتُ شخصياً تسميتهم في كتاباتي «الفلسطة» و«الفلسطيين» تمييزاً لهم عن الشعب الفلسطيني العربي المعاصر؟
الأمر يتعلّق برفات عشرة أشخاص عثر عليه في موقع أثري بعسقلان الفلسطينية المحتلة، وبعد إجراء التحليلات على المورثات الخاصة به على أيدي خبراء إسرائيليين، توصلوا الى أن الرفات يعود لأفراد من «الفلسطينيين القدماء». إن عبارة «الفلسطينيين القدماء» لا تعني علمياً وتاريخياً كلَّ المجموع السكاني لفلسطين آنذاك (نهايات العصر البرونزي وبدايات الحديدي)، كما يحاول الإعلام الصهيوني عن جهل أو سوء نية تصوير الأمر، بل هي تعني تحديداً مجموعات من المهاجرين الذين غزوا سواحل البحر المتوسط الشرقية وسواحل مصر واستقروا في مساحة لا تزيد على خمسين كيلومتراً طولاً وثلاثين كيلومتراً عرضاً. وعن المهاجرين «الفلسطة» «البلست» سأدرج هنا بعض الخلاصات من كتب التاريخ، وخصوصاً من كتاب «تاريخ فلسطين عبر العصور ــــ الفصل الثالث»، للباحث الفلسطيني الراحل يوسف سامي اليوسف:
في أواخر القرن الثالث عشر ق.م، انطلقت هجرة كثيفة لمجاميع من سكان جزر شرق البحر المتوسط نحو سواحل مصر وفلسطين التي كانت تسمى آنذاك بلاد كنعان. وقد تصدى لها الفرعون مرنبتاح وردَّها عن بلاده؛ ثم جاءت موجة أخرى من المهاجرين من هذه الجزر واتجهت شمالاً نحو بلاد الأناضول، فدمرت العاصمة الحيثية «خاتوشا» إلى الأبد، ثم اتجهت نحو كركميش «جرابلس» وأوغاريت وأرواد وانحدرت جنوباً حتى بلغت الحدود المصرية بعدما هيمنت على الساحل الفلسطيني. وقد تصدى لها الفرعون رمسيس الثالث وهزمها في معركتين، إحداهما بحرية وأخرى برية زهاء عام 1180 ق.م. وسمح الفرعون المنتصر لهذه الجموع المهاجرة المهزومة بالاستيطان في ساحل فلسطين الجنوبي. هكذا استقر شعب «البلست» في خمس مدن كنعانية ساحلية جنوب بلاد كنعان، هي: غزة وعقرون وأشدود وجت وعسقلان، ويعتقد بعض الباحثين أنهم بنوا مدينتين جديدتين هما: اللد وزكلاج. أما شعب المهاجرين «التكر» فاستقر جنوب جبل الكرمل شمالاً، وبنى مدينة تدعى دور، وقد ذكرها السفير المصري «ونامون» في مذكرات رحلته إلى جُبيل الفينيقية لاستيراد خشب الأرز، وخلالها سُرِقت حقيبته وما فيها من ذهب في مدينتهم.
كان «البلست» يتقنون صناعة المعادن ويستخدمون الأسلحة الحديدية، وكانوا بحارة ممتازين وقراصنة مرهوبين، وقد أدخلوا الحديد في صناعة السفن، لكن نشاطهم البحري أخذ بالتلاشي بعد استقرارهم في مدن الساحل والداخل.
سرعان ما اقتبس «البلست» الديانة الكنعانية؛ فعبدوا الإله داجون بوصفه إله الحبوب في أسدود، وإله السمك والصيادين في غزة؛ وفي عسقلان عبدوا الإلهة عشتار الكنعانية «عشتروت». ومع الزمن أخذ «البلست» يذوبون في الثقافة والكيانية الكنعانيتين ذوباناً تدريجاً، غير أن لغتهم الخاصة استمرت في الوجود حتى القرن الخامس ق.م، ولا يعرف المؤرخون متى زالت تلك اللغة تماماً.
أما الحروب التي تقول التوراة إنها دارت بين «البلست» والعبرانيين، وعلى افتراض صحة ما ترويه التوراة، وهو أمر مشكوك فيه علمياً، فقد حسمت تلك الحروب لمصلحة العبرانيين؛ ليس بسبب قوتهم أمام «البلست»، بل بسبب دخول ممالك فينيقيا ومصر وحماة طرفاً في الحرب متحالفين مع العبرانيين ضد «البلست» الذين استهدفوا التجارة وطرق المواصلات البحرية الفينيقية نحو مصر وغيرها. انتهت الحرب بهزيمة «البلست»، وقيام مملكة داود وابنه سليمان بحسب رواية التوراة، وهي رواية مشكوك فيها بقوة كما قلنا، حيث أكدت معطيات الأركيولوجيا الحديثة أن عاصمة داود وسليمان «أوروشاليم الكنعانية» لم تكن آنذاك ــــ كما أثبت الباحثان الإسرائيلي فنكلشتاين والهولندية شتاينر ــــ إلا قرية زراعية صغيرة جداً تقوم على تبادل المنتجات ولا ترقى إلى درجة مدينة كبيرة أو عاصمة لمملكة، وقد لا يزيد عدد سكانها على ألفي نسمة، ولم يتم العثور فيها أو حولها أو حتى في المحيط المصري والعراقي والشامي على أي أثر ملموس يذكر لداود أو لسليمان ومملكتهما بل اقتصر الأمر على روايات التوراة!
هذا ما يعرفه المؤرخون والباحثون الرصينون في الإناسة والآثار والتاريخ واللغات والميثولوجيا الأجانب ومنهم بعض الإسرائيليين الذين يحترمون العلم بخصوص شعب المهاجرين «الفلسطة» أو «البلست»، فما الجديد الذي جاءت به الدراسة الجينية الإسرائيلية من خلال تحليل رفات عسقلان؟ وماذا يمكن أن نستخلص منها؟

الدراسة الجديدة
قبل الدخول في هذا المفصل من الموضوع، أود أن أسجل الآتي: أعتقد أن من العبث واللاعلمي اللجوء الى الحل السهل المتمثل بإنكار حدوث هذه الهجرات البحرية، كما فعل ويفعل بعض الكتاب والباحثين العرب، فهذا الحل لا يصمد أمام الوقائع والمعطيات الأركيولوجية والأنثروبولوجية الصلبة، إذ إنَّ هذه الهجرات لم يرد ذكرها في التوراة فقط ليقول البعض إنها غير صحيحة لأن التوراة كتاب ديني غير تأريخي، بل وجدت في آثار ملموسة كثيرة في مدن الساحل الفلسطيني ومنها كميات معتبرة من الفخاريات التي تحمل السمات البحرية، الإيجية تحديداً، كما وثّقتها أركيولوجيا الموسوعة الفلسطينية ــــ القسم الثاني، المجلّد الثاني، وفي نُصُبٍ ومسلّات ونصوص في مصر الفرعونية.
بالعودة إلى الدراسة الجينية الجديدة التي قدمها فريق الباحثين الإسرائيليين، نجد أنها لم تأت بجديد، ولا مشكلة فيها من الناحية العلمية عند من يعرف تفاصيل الموضوع، لكن تأويل خلاصاتها بحسب العقلية الصهيونية العنصرية المنكِرَة لأصالة الشعب الفلسطيني وأحقيّته في أرض وطنه فلسطين من النهر الى البحر، هو الفاسد وغير العلمي.
الخطاب الصهيوني يحاول إهدار السياق التاريخي بهدف تحويل سكان فلسطين كلّهم إلى «مهاجرين ذوي أصول أوروبية»


إنَّ المشكلة الحقيقية تبرز في تكرار الخطاب الصهيوني لعبارة «الفلسطينيين القدماء» وإعطائها معنى غير معناها الحقيقي. فهي تعني تحديداً مجاميع من المهاجرين الذين قدموا من جزر شرقي البحر المتوسط إلى بلاد كنعان التي كانت عامرة بالشعب الكنعاني الجزيري بمختلف مسمياته. أي أنها لا تعني جميع «الفلسطينيين القدماء» كما يريد أن يفهمنا الخطاب الصهيوني على لسان المتذاكي نتنياهو! وبمرور الزمن، اندمج المهاجرون بالسكّان الأصليين وصار اسمهم علماً لعموم البلاد، أي أنه أمسى اسمَ «نسبةٍ» تطلق على جميع السكان، سواء كانوا من الأغلبية الكنعانية وهم السكان الأصليون أو المهاجرون «البلست» أو «الفلسطة» المهاجرون الذين اندمجوا بهم.
إنَّ الخطاب الصهيوني يحاول إهدار هذا السياق التاريخي الطويل كله بهدف تحويل سكان فلسطين كلهم إلى مهاجرين ذوي أصول أوروبية، وهذه حيلة سخيفة لا حظّ لها من العلمية إطلاقاً!
الأمر الثاني، هو أن الخطاب الصهيوني السياسي وحتى الجينولوجي أحياناً، يقفز على حقيقة أن الرقعة الجغرافية التي استوطن فيها المهاجرون «البلست» كانت محصورة في جزء صغير من الساحل الجنوبي لما نسميها اليوم فلسطين، وتحديداً من غزة صعوداً الى أشدود وعسقلان، وهذه الرقعة الجغرافية حتى إذا ضممنا إليها الجيب الاستيطاني لشعب «التكر» ومدينته «دور» جنوبي جبل الكرمل لا تصل الى ربع مساحة فلسطين التاريخية في أكرم الأحوال. تسجل «موسوعة الكتاب المقدس» هذه الحقيقة بشكل جليّ حين تُعَرِّفُ «فلسطين» بهذه الكلمات: «فلسطين هي أرض الفلسطينيين. كانت تطلق الكلمة في بادئ الأمر بصورة خاصة على السهل البحري الممتد بين يافا وغزة وطوله 50 ميلًا وعرضه 15 ميلًا» (موسوعة الكتاب المقدس ــــ مفردة فلسطين). فكيف يُراد اليوم اعتبار فلسطين القديمة كلها بلاداً لـ«البلست» المهاجرين الذين يسمّيهم الخطاب الصهيوني بإصرار مريب «الفلسطينيين القدماء»؟
من جهة أخرى ومهمة، فإنَّ التقرير الجيني الإسرائيلي نفسه يعترف اعترافاً لا لبس فيه بالهيمنة الإثنية «العرقية» للكنعانيين في نهاية المطاف، لكنه يسميهم بطريقته المخاتلة «السكان المحليين». فحين نقرأ الاستنتاج السابع في خلاصة التقرير أو الدراسة الجينية الإسرائيلية نجدها تقول إنَّ «الفحوصات أوضحت أن الفلسطينيين القدامى كانوا يحملون البصمة الوراثية الأوروبية» وهذا أمر لا اعتراض عليه لأن أولئك المهاجرين قدموا فعلاً من جزر البحر المتوسط، وربما يكونون قد وصلوا إلى تلك الجزر من البر الأوروبي المطلّ على الساحل الشمالي لهذا البحر وحملوا معهم بصمتهم الوراثية. ولكن السؤال الحقيقي هو: أيُّ وزن تاريخي وسلالي كان للمهاجرين ذوي البصمة الجينية الأوروبية، وكم كان حجم تأثيرهم العرقي والجيني، وهل ابتلعوا السكان المحليين الكنعانيين وسادوا عليهم ثقافياً ولغوياً وعرقياً أم حدث العكس؟ نجد الإجابة الصريحة عن هذا السؤال في نص الاستنتاج الثامن من التقرير الجيني الإسرائيلي ويقول بوضوح إن «الدراسة تشير إلى اختفاء البصمة الوراثية الأوروبية بين الفلسطينيين مع تزايد الزواج بأشخاص محليين»! وهذا يعني صحة كل ما تقدم من عرضنا الاجتماعي ــــ التاريخي لحالة السكان في فلسطين القديمة، وأكدنا فيه أن المهاجرين «الفلسطة» أو «الفلسطينيين القدماء» كما يحب الإعلام الصهيوني أن يسميهم، اندمجوا وذابوا في أهل البلاد الأصليين الكنعانيين الجزيريين. ولو كانت الموجة الفلسطية «الأوروبية» المهاجرة قوية وكثيفة وشاملة لحدث العكس، واندمج السكان المحليون الكنعانيون في الشعب الجديد المهاجر وذابوا فيه كما حدث في العديد من التجارب التاريخية خارج فلسطين.
في ضوء هذه الحقيقة، يمكننا أن نتخيل ماذا كان سيحدث لموجة المهاجرين الأشكناز المتهوِّدين التي غزت فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية لو أنها حدثت سلمياً قبل عدة قرون ودون عدوان مسلح وحرب اقتلاع وتطهير عرقي ضد الفلسطينيين المعاصرين؛ لكانوا قد ذابوا ــــ بكل يقين ــــ واندمجوا مع السكان الأصليين؛ لكن السلاح والمال الغربيين وحرب الإبادة والاقتلاع أعطت نتائج أخرى. والأكثر دلالة من ذلك، هو أن كل هذه الغزوة العنصرية الصهيونية الشرسة، وبكل ما لديها من سلاح وإمكانيات لم تحقق أهدافها، فلا يزال الشعب الفلسطيني الذي شُرِّدَ ما يقرب من 40% منه داخل وطنه وخارجه، يخوض معركته المصيرية متمسكاً بأرضه وتاريخه وحضارته، ولا يزال المهاجرون الصهاينة المسلحون بالقنابل النووية يعيشون محاصرين في مستوطناتهم خلف الجدران الاسمنتية العالية. أما الخلاصة الأخيرة، أي الثانية عشرة، في الدراسة فتؤشر إلى مشكلة أخرى قد تنسف كل ما جاءت به من استنتاجات، فهي تعترف بأن «الباحثين أكدوا أن الحصول على هذه المعلومات ليس سهلاً، لأن الحفاظ على الحمض النووي في المناطق الحارّة والجافة مثل بلدان الشرق الأوسط يواجه صعوبات عديدة». فكم يتبقى من نسبة صحة علمية هذه التحليلات الجينية التي أجريت؟ وهل ثمة قيمة علمية فعلية ويعوّل عليها لكل ما ورد فيها؟ الإجابة عن هذا السؤال متروكة للمتخصصين في علم المورثات.

خلاصات
يمكن أن نسجل التالي كخلاصة لما تقدم:
ــــ لم تأتِ الدراسة الجينية الإسرائيلية المنشورة أخيراً عن رفات عسقلان بجديد على صعيد التاريخ والجغرافيا والإناسة والهوية العرقية «الإثنية» لشعب فلسطين في العصر البرونزي وبدايات الحديدي. بل هي أكدت حقائق مكررة ومعروفة ربما باستثناء الإضافة الصغيرة وغير المؤكدة وهي أنها نقلت أصول المهاجرين «الفلسطة» من جزر البحر المتوسط إلى سواحله الأوروبية الشمالية.
ــــ تفتقر الدراسة إلى الشفافية العلمية والإعلامية، فلم يُعرف عنها أي شيء طوال السنوات التي استغرقتها، إذ لم يعلن عنها إلا بعدما انتهت وعرضت استنتاجاتها، وكأنها عملية عسكرية أو استخباراتية سرية. كما أنها تسجل نقطة ضعف كبرى أخرى في مسارها بخصوص اعترافها الواضح بأن إمكانية الحصول على مورثات صحيحة في ظروف مناخية وبيئية الفلسطينية كانت صعبة وغير مناسبة، وهذا الاعتراف يضفي شكوكاً جدية على الدراسة من النواحي التقنية العلمية للتحليلات الجينية التي أجريت على الرفات العسقلاني.
ــــ إن الدراسة نفسها تؤكد في استنتاجها الثامن قوة وهيمنة عامل السكان الكنعانيين الأصليين وتغلبهم جينياً على المهاجرين الجدد وتلاشي البصمة الوراثية الأوروبية، وتعزو ذلك إلى الزواج المختلط مع السكان المحليين لكي لا تعترف بحقيقة الاندماج الإثني الكامل بين المهاجرين والشعب الكنعاني الأصلي.
ــــ إن الطابع السياسي العرقي للدراسة والتأويلات المغرضة التي ثرثر بها نتنياهو وغيره لا تغيّر إطلاقاً من حقيقة الفصل التام بين هوية السكان في بلاد كنعان الذين أصبح اسمهم لاحقاً الفلسطينيين وبين المهاجرين «البلست» الذين تؤكد الدراسة أنهم يحملون البصمة الوراثية الأوروبية غير الجزيرية «السامية» والذين عاشوا على ساحل قرب غزة لا يزيد طوله على خمسين كيلومتراً ويسميهم الخطاب الصهيوني العنصري «الفلسطينيين القدماء»!
ــــ إن حقيقة أصالة الشعب الفلسطيني المعاصر، بوصفه صاحب الأرض والتاريخ والحضارة، وبوصفه الوريث والمنتوج الأنثروبولوجي والثقافي للشعوب الفلسطينية القديمة وفي مقدمها الكنعانيون وأبناء عمومتهم العرب الجزيريون «الساميون» بعد الفتح العربي الإسلامي، طوال عشرات القرون بين الهجرات الجزيرية الأولى في الألف الثالث قبل الميلاد والفتح العربي في القرن السابع الميلادي، لا تحتاج إلى المزيد من الأدلة والتنقيب العلمي بشهادة عالم الجينولوجيا الروسي كليوسوف الذي أكد أنَّ «الجينوم الكوهيني الذي يدَّعي اليهود أنه خاص بهم موجود لدى العرب قبلهم بأكثر من أربعين ألف عام»، وبشهادة دراسات الباحث الجينولوجي اليهودي إران حايك الذي يكرر عبارة لها دلالالتها حين يريد أن يثبت انتماء بعض الجماعات اليهودية الشرقية إلى الساميين فيقول إنهم «يحملون الجينات الفلسطينية والسورية والعراقية نفسها»، أي أن الجينوم عند المواطن الفلسطيني والسوري والعراقي اليوم هو المقياس للجزيرية «السامية» عند هذا الباحث الرصين وليس العكس، ولكنَّ المهاجرين الخزريين والأشكناز المتهوِّدين الذين حملتهم الغزوة الأوروبية الاستعمارية لما بعد الحرب العالمية الثانية هم من يحتاجون إلى أدلة كهذه تؤكد أية علاقة لهم بهذه الأرض وإنسانها وتاريخها ولن يجدوها مهما حاولوا، فالتهوّد واتخاذ دين ما لا يمنحان الفرد أو المجموعة المهاجرة أو الغازية جينات جزيرية «سامية» وهوية ووطناً حقيقياً لم يكن لهم في يوم ما!
* كاتب عراقي