يعاني القطاع الصحي في لبنان من غياب السياسة الصحية الرسمية وانعدام المخططات الحكومية لتنظيم هذا القطاع، ما يتسبب في ما نراه اليوم من:- اهتراء المؤسسة الصحية العامة وإغلاق المزيد من المستشفيات الحكومية أو تحويلها إلى مستوصفات للمعاينة أو مراكز علاجية بدائية.
ففي لبنان نظرياً 30 مستشفى حكومياً (مقابل 138 مستشفى خاصاً) يعمل منها 11 مستشفى 6 منها دون المستوى العلمي المطلوب. ترصد وزارة الصحة حوالى 300 مليون دولار من موازنتها لحساب قطاع الاستشفاء الخاص كتغطية للمرضى الذين يعالجون على نفقتها. يضاف إلى هذا المبلغ ما يُسمى بـ «عقود المصالحة» التي تصل إلى 50 – 60 مليون دولار وهي عقود الهدر والسمسرة والتدخلات السياسية.
- عدم حماية وتطوير إنتاج الدواء الوطني الذي لا يغطي حالياً أكثر من 10% من حاجات الاستهلاك الدوائي في لبنان، وبالتالي فتح الباب أمام تجّار الدواء، بالتحديد العشوائي لسعر الأدوية المستوردة وإجبار وزارة الصحة والمواطنين على الالتزام بتعرفة الأمر الواقع. تبلغ كلفة الفاتورة الدوائية على المجتمع اللبناني أكثر من مليار دولار بينما يجب أن لا تتخطى الـ 650 مليون دولار (إذا ما عرفنا أن نفقات الصحة في لبنان تشكل 72% من الناتج القومي، وإذا ما قارننا هذا الرقم مع أرقام النفقات الدوائية في دول متقدمة مثل فرنسا).
- تشتت وفساد وعدم فعالية المؤسسات الضامنة متعددة المرجعيات الإدارية والمناطقية والمالية وحتى الطائفية، بما يفسح المجال للتأمين الخاص بالتحكّم بالتغطية والتعرفة وبالتالي ابتزاز المريض والطبيب على حدّ سواء.
- انعدام برامج الوقاية الصحية الأولية والدراسات الإحصائية عن الواقع الصحي والبيئي للشعب اللبناني: تكاثر الإصابات السرطانية، التلوث، المخدرات، التدخين، سوء التغذية، استعمال المواد السامة في إنتاج الخضروات والفواكه واللحمة، وحتى في علف البقر ومكوّنات الحليب ومشتقاته.
- انعدام الرقابة على السلوك الطبي والصيدلي وممارسة المهنة وإعادة تأهيل الجسم الطبي وتنظيم العلاقة مع نقابات الأطباء والصيدلية والعلاج الفيزيائي وغيرها.
وقد اختصر دور وزارة الصحة منذ عشرات السنين بسياسات ارتجالية قائمة على تقديم المال العام للقطاع الخاص تحت عنوان التغطية الصحية من قِبل الدولة، أكان لجهة الاستشفاء أو لشراء الأدوية والمعدات الأجنبية أو غيرها. تلك سياسات استهلاكية تفتح الباب أمام إغناء القطاع الخاص وفسح المجال لتضخيم فواتيره الاستشفائية وصولاً إلى فواتير وهمية، وزيادة الفحوصات الإشعاعية مثل الرنين المغناطيسي أو التصوير الطبقي وغيرهما بدون مبرّر، وإلى زيادة أسعار الأدوية المستوردة من قِبل تجار الدواء دون حسيب.
كل ما قامت به الوزارة حتى اللحظة من تغطية الحالات المرضية يصبّ في خانة السياسة الاستهلاكية اللا-إنتاجية، يتعامل معها القطاع الخاص وفق منطق العرض والطلب والربح السريع وعلى أساسها يتم التعامل مع المريض على أنه مستهلك أو زبون: 80 – 90% من سوق الاستشفاء في لبنان بيد القطاع الخاص. وما يسمى بالتغطية الصحية من قِبل الدولة يقابله إهمال بالطب الأولي الوقائي لأنه من وجهة عقلية الربح السريع غير مربح. والحكومات المتعاقبة كانت دائماً غائبة عن تقديم المخططات الصحية اللازمة، الّلهم إلا في ما يتعلق بتنظيم بعض البرامج الصحيّة المطابقة لمتطلبات وأوامر الدائنين للبنان مثل «البنك الدولي»، أو «منظمة الصحة العالمية» التي غالباً لا تتناسب وأولويات الداخل الصحي اللبناني.
كيف يمكن أن يتعايش الواجب الأخلاقي في الخدمة الصحية مع عقلية الربح السريع؟


هكذا كانت، وما زالت، السياسة الصحية للدولة اللبنانية قائمة على خيار سياسي يعتبر أن الصحة والخدمة الصحية هما سلعة استهلاكية تخضع لسوق العرض والطلب المدار بعقلية القطاع الخاص. وهذا خيار فرضته الحكومات المتعاقبة ووزراء الصحة كأمر واقع لا حول للمواطن ولا قوة له إلا السير في ظله، لذلك لم نشهد أية معارضة اجتماعية تذكر، لا من جانب المهنيين في القطاع ولا من المرضى ولا من جانب النقابات والعمّال والموظفين... المرضى يشكون بشكل عام من خلل في التقديمات الصحية (الاستهلاكية) ولكن ليس في النظام الصحي بحد ذاته.
الصحة، كما هي عليه اليوم، سلعة تخضع لنظام السوق القائم على العرض والطلب، بمعنى أن كمية ونوعية العرض تأتي تلبية لنوعية الطلب وأولويات الحاجة إليه، ولكن بالمبدأ، هذا النظام الليبرالي لا يصلح تطبيقه على سلعة الصحة لأننا ملزمون دائماً بتقديم أفضل نوعية في العلاج تجاه طلب الحاجة المرضية كيفما كانت إمكانيات هذا الطلب «المالية». وهذا ما يشكل بداية الالتزام الأخلاقي للمجتمع والدولة تجاه المواطنين. فكيف يمكن أن يتعايش هذا الواجب الأخلاقي في الخدمة الصحية مع عقلية الربح السريع؟
لا يمكن الادّعاء بوجود حلول سحرية للإشكاليات «الإنسانية» في العلاقة ما بين الأخلاقيات وعقلية عالم المال، ولكن ما نستطيع تقديمه للمواطن، وهذا حق له، هو تعزيز دور الدولة في تفعيل القطاع العام خارج نظام السوق المذكور، لذلك لا بدّ من التذكير بالاقتراحات القديمة – الجديدة (ولو بشكل مختصر) لأننا لا نجد سواها مخرجاً من الدوران في الحلقات المفرغة التي أدخلت وزارة الصحة والدولة في لبنان نفسها فيها سياسة قائمة على الحماية الصحية للمواطن بوضع رقبته تحت مقصلة القطاع الخاص، ناهيك عن أنها سياسة استهلاكية خالصة، في الوقت الذي يستطيع القطاع الصحي أن يكون منتجاً. وهذا ما يحصل في البلدان المتقدمة (والليبرالية أصلاً) وفي كثير من المجالات الطبية: إنتاج الدواء والمعدات الطبية (أرباح بمئات المليارات من الدولارات) وغيرها، وصولاً إلى السياحة الاستشفائية، والنموذج القريب من بلادنا هو إحدى شركات تصنيع الدواء في الأردن (بمشاركة القطاع العام على ما أعتقد) والتي تعدَّت الـ 14 مليار دولار في ميزانيتها وأدخلت الأسهم الخاصة بها في بورصة نيويورك منذ سنوات. مثال آخر معروف في تركيا حيث تصديرها من الدواء يقارب الـ 800 مليون دولار سنوياً.
في الاقتراحات:
1 – التغطية الصحية الشاملة والمتساوية بين المواطنين. وهذا حق للمواطن في الصحة والاستشفاء والحصول على الدواء، وغير ذلك. كلفة التغطية الصحية الشاملة، حسب الدراسات الأولية، يجب أن لا تتعدى المليار ومئتين مليون دولار سنوياً وهي تغطي 75 إلى 80% من حاجيات المواطن الصحية (وهذا الرقم قريب جداً مما كانت قد أوردته إحدى شركات التأمين الصحي الخاص العاملة في لبنان وتعهدت بالتزامه من وزارة الصحة).
2 – تدعيم المراكز الاستشفائية الحكومية وعددها 30 مستشفى: يعمل منها 11 مستشفى، خمسة من هذه المستشفيات تقدم خدمة طبية مقبولة.
باختصار، نقترح خطة من 3 – 5 سنوات قائمة على:
* إعادة تأهيل وتجهيز طبي وإداري لـ 10 من المستشفيات الحكومية (حسب أولويات المناطق) على 2 – 3 سنوات بكلفة 250 – 300 مليون دولار.
* تجهيز الـ 10 الباقية على 3 – 5 سنوات بنفس الكلفة.
تتمتع إدارة كل مستشفى، تحت رقابة الوزارة، بنوع من الاستقلالية المالية (في إدارة ميزانيتها) والإدارية (الموظفين والرواتب) والمناطقية (دور البلديات وبعض المؤسسات الدينية) واختيار الجسم الطبي ومساعدته في إعادة تأهيله كل 5 – 7 سنوات.
3 – إنشاء مراكز ومختبرات تصنيع الدواء الوطني (مع أو بدون القطاع الخاص)، وكما هو معروف، فإن احتياجات القطاع الصحي من الدواء، في أي بلد في العالم، يختصر بـ 50 – 60 منتجاً دوائياً رئيسياً والباقي هو مشتقات دوائية، الكلفة الإجمالية لمجمل معامل تصنيع الدواء لا تزيد عن الـ 400 مليون دولار، يستطيع لبنان من خلالها، ليس فقط سد حاجة السوق المحلية بنسبة 75%، ولكن أيضاً للتصدير والمنافسة على نوعية المنتج الدوائي، بذلك تستطيع وزارة الصحة أن تكون منتجة للصحة وليس فقط مستهلك لفاتورة تفوق المليار دولار.
4 – توحيد الصناديق الضامنة وضمّها جميعاً إلى برنامج التغطية الصحية الشاملة بما يوقف الهدر والذل للموظفين والعمال والعسكريين وغيرهم، ويحدّ من العجز في الميزانية العامة للدولة اللبنانية.
5 – تعزيز الرقابة على كامل المؤسسات الطبية العامة والخاصة، في ما يتعلق بنوعية وفوترة الخدمة الطبية وفي ضرورة أو عدم ضرورة الفحوصات البيولوجية والإشعاعية والعمل الجراحي، والكشف على تلاعب المستشفيات بالفواتير المقدمة (يوجد برامج حاسوبية للمراقبة اليومية للملف الطبي للمريض، تستطيع وزارة الصحة العمل به من داخل مبنى الوزارة من دون الحاجة للوجود داخل المستشفى)، كذلك مراقبة السلوك الطبي والصيدلي بالتعاون مع نقابتي الأطباء والصيادلة، والعمل على تشجيع الدخول في مشاريع البحث العلمي من خلال رصد ميزانية خاصة بأمراض تحتلّ أولوية في وضعنا الصحي في المنطقة. كذلك الرقابة الصارمة على المطاعم والمعامل المنتجة للأطعمة، وعلى استعمال المبيدات في إنتاج الخضروات والفواكه وعلى مصادر التلوث البيئي.
6 – تنظيم برامج الوقاية الصحية الأولوية وهي تكاد تكون معدومة في لبنان (إن من قبل الدولة أم من الإعلام)، ففي القرن الواحد والعشرين، لا يكفي مثلاً معالجة الإصابات بالقلب أو بالرئة بدون التوعية على المسببات مثل التدخين وعدم النشاط الجسدي والوضع البيئي. ولا يكفي علاج مريض السكري من دون توعيته ومحيطه العائلي على نمط التغذية والحماية، ولا يكفي إجراء عملية «ديسك» في العمود الفقري بدون الكشف على مراكمة الخطأ في المجهود الجسدي المرافق لتكوين الديسك في بدايته إلخ... طبعاً يتحمّل الطبيب المعالج جزءاً من المسؤولية في شرح هذه المسببات أمام المريض، ولكنّ التوجه نحو توعية المجتمع بمجمله هو مسؤولية وزارة الصحة (والإعلام طبعاً). ولا بدّ من التذكير أن برامج التوعية والوقاية على الصحة لا تكلّف الوزارة ميزانية كبيرة، فمعظم هذه البرامج مجانية وحاضرة في توجهات منظمة الصحة العالمية والكثير من المنظمات اللا حكومية التي تُعنى بهذا الشأن.
7 – التشبيك الصحي والعلمي مع دول المحيط: يحتفظ لبنان الطبي ببعض من تاريخه الذي ما زال يشكّل في الوقت الحاضر عنصراً إعلامياً في جذب جزء غير قليل من المرضى في محيطنا العربي، يأتون إلى لبنان للعلاج والسياحة و... إن ترشيد وتنظيم هذه السياحة الاستشفائية من قِبل وزارة الصحة قد يدّران على لبنان دخلاً مهماً (وصل في بعض البلدان المحيطة كالأردن مثلاً إلى 2 مليار دولار منذ حوالى العشر سنوات)، وبالتأسيس على هذه الظاهرة الحالية في لبنان (ولو محدودة جزئياً)، يمكن الذهاب إلى نوع من التشبيك الصحي مع دول المحيط، بتوجيه قسم من الأطباء عندنا لملء الفراغ الحاصل في سوريا والعراق في بعض الاختصاصات، عن طريق التعاون مع وزارات الصحة في البلدان المذكورة، وكذلك إشراك الجسم الطبي ببعض البرامج العلمية في دول إقليمية مثل الكويت والسعودية وإيران.
إن مصلحة لبنان الطبية أن تبادر وزارة الصحة إلى تأسيس هذا النوع من التكامل الصحي مع دول الجوار، ونحن بصدد إنهاء دراسة كنا قد نشرنا أرقامها الأولية منذ أشهر («الأخبار» في 7 شباط 2019) نتحدث فيها عن تشبيك صحي إقليمي، كان المواطن العربي قد سبق سياسات حكومات بلاده إليه.
أخيراً وكما هو ملاحظ من خلال هذه الأرقام، فإنّ هذه الاقتراحات تحترم ميزانية وزارة الصحة في حدودها الحالية ولا تخرج عن نسبة النفقات الصحية من الناتج القومي العام ولا تتعارض مع توجهات الدول والمؤسسات الدائنة للبنان. ومن خلالها نستطيع إحداث تغيير بنيوي في السياسة الصحية والتحوّل إلى سياسة إنتاجية آخذة بعين الاعتبار الحق الإنساني والأخلاقي للمواطن في الصحة. كل الترقيعات التي حصلت على امتداد الثلاثة عقود الأخيرة لا ترتقي إلى مستوى الرؤى قصيرة النظر والتشاطر من هذا الوزير بمحوها تشاطر الذي يليه، لذا فلا بدّ من حلول جذرية.
* طبيب لبناني أخصائي في جراحة الأعصاب مقيم في فرنسا