قبل سنوات كنت في مدينة أبو ظبي في سيارة أجرة، وكان سائقها من الباكستان، وكان يستمع إلى تسجيل للقرآن الكريم. ولما سألته هل يفهم ما يسمع؟ أجاب بالنفي، وأضاف أنه باستماعه إلى القرآن الكريم يشعر بالأمان والبركة. وأتساءل، كم كانت ستكون خسارتنا فادحة لو نجح المحتلون العثمانيون في طمس لغتنا العربية واستبدال لغتهم التركية بها، ربما كنا نحن أيضاً سنشعر بالأمان والبركة لحظات استماعنا إلى القرآن الكريم من دون فهم لمعانيه، لكننا كنا سنعيش غرباء عن أنفسنا وعن العالم بقية النهار!
 فقد سيطر العثمانيون على المنطقة وبلاد الشام أربعة قرون، استمرت من القرن السادس عشر حتى القرن العشرين، فرضوا خلالها لغتهم على التعامل في مؤسسات الدولة كافة، ما أدى إلى تسرب كلمات منها إلى التعامل اليومي، لكنها لم تصبح لغة متداولة بين الناس، بل بقيت لغة الدواوين يتعامل بها الولاة والموظفون.
كما فُرِضَتْ اللغة التركية على التعليم في المدارس التي كان على الأهالي تمويل إنشائها ودفع رواتب المعلمين فيها. وتراجع العلم نتيجة الحروب والفقر والمجاعات، فلجأ التلاميذ لتلقّي العلم إلى المساجد والكتاتيب. وفي دمشق مثلاً، كان هناك حيّ خاص يسمى حي المدارس على امتداد حي مسجد الشيخ محي الدين بن عربي. هذه المدارس أقيمت على مدى قرون، وكانت تُدرس حفظ القرآن وتلاوته والحديث والكتب التراثية العربية والحساب. وهكذا حُفِظَتْ اللغة العربية في وجدان أبناء هذه البلاد وصدورهم. 
وبذلك، فإن سياسة التتريك لم تنجح في الوصول إلى وجدان هذا الشعب الذي حافظ على لغته رغم كل محاولات تغييبها وطمسها. وما ان قامت أول حكومة عربية في دمشق في تشرين الأول من عام 1918، حتى بُدِءَ بالتفكير في كيفية إنعاش البلاد من الناحية الفكرية ومن الناحية الأخلاقية العربية. ووُجِّه الاهتمام إلى التعليم، وأُنْشِئَ ما سمّي «دائرة المعارف» التي رأسها محمد كردعلي، وكانت تضم مجمعاً للغة العربية، والجامعة السورية التي كانت تتألف من معهد للطب ومعهد للحقوق. وطُلِبَ من دائرة المعارف أن تؤسس مديرية للآثار، أي إن النشأة كانت شاملة لنواح ثقافية عديدة تجعل من هذه المؤسسة الحديثة مؤسسة مسؤولة عن التطور الثقافي واللغوي والعلمي في المجتمع. 
وبعد بضعة أشهر تقدم كردعلي بطلب إلى رئيس الحكومة آنذاك علي رضا باشا الركابي بمنح المجمع صفة مستقلة، بعد أن كان ضمن لجان دائرة المعارف. فأصدر الركابي قراراً بإنشاء المجمع باسم «المجمع العلمي»، وكان هذا في 8 حزيران 1919. ثم أصبح اسمه «مجمع اللغة العربية»، وضمّ عند تأسيسه رجالاً كانوا قد تابعوا دراساتهم الفقهية واللغوية في مدارس متعددة. وكانوا رجال قلم ذوي مؤلفات متنوعة، ومن المهتمين باللغة العربية. وعيّن كردعلي رئيساً للمجمع، وكل من أمين سويد، وأنيس سلوم، وسعيد الكرمي، ومتري قندلفت، وعيسى إسكندر معلوف، وعبد القادر المغربي، وعز الدين علم الدين، وطاهر الجزائري، أعضاءً مؤسسين فيه.
ومن أسماء الأعضاء المؤسّسين للمجمع نشهد التكاتف والتآلف لكل مكوّنات المجتمع، للنهوض بهذه المهمة النبيلة. وهذه الأسماء هي منارات في بلاد الشام الطبيعية، فمنهم السوري، ومنهم اللبناني، ومنهم الفلسطيني، وهم جميعاً من أبناء بلاد الشام.
وبذلك تأسّس أول مجمع لغة عربي في الوطن العربي، للنهوض باللغة العربية بعد قرون مظلمة من عبث الاحتلال العثماني بلغتنا وحياتنا وأوطاننا.
وفي الثامن من حزيران هذا العام، يحتفل بالذكرى المئوية الأولى لإنشاء هذا المجمع العريق في دمشق. 
وقد شرح الرئيس الحالي للمجمع الدكتور محمد مروان المحاسني في برنامج «مجمع ومجمعيون»، الذي قدمه غسان كلاس على قناة «نور الشام» الفضائية السورية، أن «فكرة مجمع لغوي لم تكن موجودة لا في الإمبراطورية العثمانية ولا في أي بلد آخر، إلا في في فرنسا ........... وصدر قرار في القرن السابع عشر عن الملك لويس الثالث عشر بأن تكون لغة باريس هي اللغة الفرنسية، ورفض التعامل بغير هذه اللغة في المملكة الفرنسية التي كانت تنتشر فيها لغات خاصة في مناطق مختلفة. وبذلك عمل رئيس وزرائه يومها، الكاردينال ريشيليو، على إنشاء «أكاديمية» تجمع العاملين في اللغة الفرنسية والمتمكّنين منها والذين أنتجوا في هذه اللغة شعراً وأدباً، ليكونوا مسؤولين عن ضبط اللغة وتطويرها». 
 ويضيف المحاسني أن «انتقال مفهوم الأكاديميا إلى مجمع لغوي أو مجمع علمي في دمشق فيه شيء من العبقرية، وفيه شيء من تجاوز الأمور الراهنة ....... والخروج من بقاء هامشي في إمبراطورية كبيرة». 
ويتابع المحاسني: «كانت الفكرة عروبية تقول نحن عرب ولساننا عربي، ويجب أن نؤكد على هذا اللسان العربي بأن يكون قويماً ولا يخرج عن لغة القرآن التي هي اللغة الأساسية. وبذلك فإننا نأخذ فكرة الأكاديمية ونجعلها تتطابق مع أحوال محلية وأحوال قومية، ونقول إن هذه اللغة يجب أن نحميها من كل تأثيرات جانبية، وخاصة أن اللغة التركية كانت قد دخلت في التعامل اليومي، فكان من المهام الأولى لهذا المجمع أن يخرج الألفاظ التركية من اللغة المستعملة يومياً. مثلاً، الآذِنْ كان اسمه الأوضجي، والصيدلية كانت أجزخانة والمستشفى كانت خستخانة، وغيرها من الأمثلة. تمكن المجمع العلمي بصفته اللغوية من أن يستبدل جميع هذه الألفاظ ويضع كلمات عربية بدلاً منها، كلمات ليست من اختراعه، بل من ميزة حقيقية في اللغة العربية بأنها لغة اشتقاقية. فاللغة التركية لغة إلصاقية، يجمعون جزءاً من كلمة مع كلمة أخرى لإنتاج كلمة جديدة، بينما في اللغة العربية نأخذ الجذر ونشتق منه اسم الفاعل والمفعول والمصدر وغير ذلك. وهذه مزية للغة العربية، استفاد منها المجمع العلمي بأن جعل المصطلحات المطلوبة حية على ألسن الناس، وأصيلة تعطي المعنى ذاته وتدخل إلى وجدان المتكلم، ولا يحتاج إلى تخيّلها في لغة أخرى».
كان المجمع ينشر الكثير من المخطوطات لعلماء من سوريا ومن تونس والمغرب ومصر والعراق واليمن كما نشر لبعض المستشرقين الأوروبيين


وكانت المهمة الأولى لكردعلي وللشيخ طاهر الجزائري، كما يذكر مازن المبارك في مقابلته في برنامج «مجمع ومجمعيون»، «تقوم على جمع ما يستطيعون من المخطوطات التراثية من المكتبات الخاصة في بيوت الناس، ومن المكتبات العامة، أو عن طريق الشراء، أو عن طريق الأهالي الذين كان بعض التجار منهم يهدون للمجمع ما ورثوا من مخطوطات من آبائهم وأجدادهم. كذلك كان بعض الأسر يبيعها للمجمع، وكان هذا يتم في مختلف المحافظات السورية أيضاً، ومن العلماء من خارج سوريا أيضاً، وكانت هذه المخطوطات تجمع في المكتبة الظاهرية التي كانت تتبع للمجمع منذ تأسيسه. وكان المجمع ينشر الكثير من المخطوطات لعلماء من سوريا ومن تونس والمغرب ومصر والعراق واليمن، كما نشر لبعض المستشرقين الأوروبيين بعض الكتب التي حققوها». 
وفي الأول من كانون الثاني من عام 1921 صدر العدد الأول من مجلة المجمع التي لا تزال تصدر إلى يومنا هذا، والتي تعتبر من أقدم المجلات في الوطن العربي.      
وفي المجمع لجان عديدة، منها «لجنة اللغة العربية» التي تهتم باللغة، و«لجنة ألفاظ الحضارة» التي تضع مصطلحات وألفاظاً لم تكن موجودة في الكتب التراثية، ولا في المعاجم السابقة. وكذلك هناك لجان مختصة بالعلوم، منها «لجنة الفيزياء»، و«لجنة الكيمياء»، و«لجنة النبات»، و«لجنة علم الحيوان»، و«لجنة المخطوطات»، و«لجنة إحياء التراث»، ولجنة «مصطلحات الفنون» وغيرها. 
ومن المعلوم أن سوريا تنفرد بتدريس العلوم الطبيعية والطبية والهندسة باللغة العربية، لإيمان مفكريها بأن التدريس بالعربية يجعل الطالب أكثر ثقة في فهم موضوع دراسته، وأكثر تفهّماً في تطبيق ما درسه على الواقع.   
وقد عرف عن أعضاء المجمع أنهم كانوا ولا يزالون يسابقون الخطى لوضع المصطلحات الحديثة بما يتفق مع قوانين اللغة. 
ومن أبرز أعضاء المجمع اليوم مازن المبارك الذي يَذودُ عن اللغة بكل تصميم وكبرياء، وكان قد وضع كتاباً بعنوان «اللغة العربية في التعليم العالي والبحث العلمي»، يقول إن ما دفعه إلى كتابته هو حرصه على التصدي للحملات التي كانت ضد التعريب في كثير من المؤتمرات التي حضرها، فكان كتابه رداً عليها، وتبياناً لأهمية التعريب في التدريس.
ومواقف أبناء سوريا في حماية لغتهم، وتصديهم للمحاولات الدؤوبة لطمسها عنيدة وصلبة. ومن أمثلتها ما ذكره سعيد الأفغاني في أحد كتبه عن لقاء حضره بين الأستاذ كردعلي مع المستشرق الإنجليزي «مارغوليوث»، (D. S. Margoliouth 1858 - 1940) الذي جاء ليستفسر من الأستاذ كردعلي عن سبب تأخر سوريا في استبدال حروفها العربية باللاتينية كما جرى في تركيا، محاولاً إقناعه بأن التغيير هو مفتاح المستقبل للاتصال مع العلوم العالمية. ورفض محمد كردعلي  هذا المنطق، وقال له إن الأتراك حين تركوا الأحرف العربية إلى الأحرف اللاتينية فقد فصلوا أنفسهم عن تراثهم وخسروا كثيراً.
وبعد فشله في إقناع السوريين بنبذ أحرف لغتهم، سافر «مارغوليوث» إلى طهران لإقناع أبنائها بالأمر نفسه، وأخفق هناك أيضاً. وتلك كانت واحدة من المواجهات التي يجابهها العاملون في المجمع، لذلك تبقى عيونهم ساهرة على حراسة لغتهم العربية، لغة القرآن الكريم.
إن التعرف على هذا الصرح لا يجعلنا نفخر به ونعتز بإرادة منشئيه فحسب، بل يدعونا إلى الفهم وأخذ العبر من مواقف وأعمال تدعو المرء إلى التأمل بجدية أبناء سوريا في حماية لغتهم التي هي شخصيتهم، هذه الشخصية المبدعة دوماً، والتي تعمل لبلدها ولأمتها بكل إباء وشموخ.
وقد عرف عن غالبية أبناء سوريا الذين أوفدوا إلى الخارج لإتمام دراساتهم، أنهم لم يؤخذوا بقشور تلك الثقافات، بل كانوا ينهلون من العلوم والآداب والأفكار ليعودوا إلى وطنهم ويسهموا في خدمة شعبهم وبناء بلدهم.
وفي المجمع اليوم أسماء لامعة وغنية بعلومها، كمحمد مروان المحاسني المختص بالأمراض الصدرية والجراحة، ومازن المبارك أستاذ اللغة العربية، ومحمد المحفل، المؤرخ والآثاري والمختص بالتاريخ القديم، والذي ترك العديد من المؤلفات في «تاريخ اليونان»، و«تاريخ الرومان»، و«تاريخ اللغة الآرامية»، وغيرها. ومحمد مكي الحسني الجزائري المختص بالفيزياء النووية، والذي وضع كتابه المهم «إتقان الكتابة العلمية باللغة العربية»، وذلك بتشجيع من صديقه موفق دعبول عضو المجمع والمختص في الرياضيات وميكانيك السوائل، وغيرهم من أعضاء المجمع الذين يحملون علومهم في عقولهم، وعشق لغتهم في وجدانهم وقلوبهم.  
وفي هذه المناسبة، واستمراراً للجهود في حراسة لغتنا وحمايتها وصقلها، هناك ضرورة قصوى اليوم لتصدي المجمع والمجتمع للتحديات التي تواجه العربية. وكان الدكتور المحاسني قد أشار في إحدى المقابلات معه إلى أن المجمع متنبّه لهذا الوضع الذي يمثّل خطراً حقيقياً، حيث إنه يستهدف شريحة الشباب، مؤكداً أن مجمع اللغة العربية، ومن خلال لجنة «ألفاظ الحضارة»، يدرس كل ما دخل إلى اللغة العربية من مصطلحات دخيلة، خصوصاً في المعاملات اليومية، ويضع مرادفات عربية لها. 
والملاحظ أنه كلما كان الإنسان على درجة رفيعة من العلم والأخلاق والأدب، كان اهتمامه بإتقان لغته والفخر بها أقوى. ونلاحظ أنه مع وجود أساتذة اللغة العربية المتميزين في المجمع، هناك إلى جانبهم علماء في الطب والهندسة والفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم، وكلهم من عشاق اللغة العربية والمهتمين بها، إلى جانب اهتمامهم بتخصصاتهم العلمية.  
مبارك لأمتنا العربية المئوية الأولى لهذا الصرح العظيم، والأمل كبير بأن يهتم الإعلام العربي أكثر بالإضاءة على الشخصيات الفذة والصروح المهمة في أوطاننا، هذه النماذج ذات الأثر الكبير في الناس عامة، وفي بناة المستقبل خاصة، الذين يحتاجون إلى التعرّف على شخصيات يقتدون ويفخرون بها.  
في الذكرى المئوية الأولى لمجمع اللغة العربية، يتطلع كل من يحب سوريا، التي أعادت الحياة إلى اللغة العربية بعد أربعة قرون من الاحتلال العثماني، إلى اليوم الذي يتمكن فيه السوريون من صون كل شبر  من أرضهم والحفاظ على وحدتهم وسيادتهم، وإعادة الروح إلى القومية العربية.

كاتبة فلسطينية - واترلو - كندا