عراق ما بعد الغزو... غياب السلطة وفساد وتظاهرات
بلا شكّ، لعب الفساد الإداري والمالي دوره البارز في تأجيج حالة التظاهر والغضب، وعمّ بأساليبه المختلفة كل مؤسسات ومكاتب الخدمات الأساسية، مما يضطر المواطن إلى الصراخ بصوت عالٍ في سبيل إيقافه وردع الفاسدين. المضحك في العراق أن أغلب الفاسدين أو الداعمين للفساد أو المروّجين لانتشاره هم في مواقع القرار السياسي وهم الذين يُعتبرون واقعياً رأس الفساد بكل أشكاله، يزعمون في تصريحات إعلامية محاربته أو الدعوة إلى مكافحته، والأغرب فيه هو التغاضي أو تغطية العناصر القائدة للفساد والمناورة في اتّساعه والسماح لأعمال أخطبوطه ومافياته وكل أصنافه. لم يعد العراق في أول قائمة الفساد في التقارير العالمية للمنظمات الدولية المتابعة أو المحققة فيه، بل أصبح مضرب المثل في نوعه وحجمه وطرقه وممارساته. دفع هذا الانتشار للفساد في العراق جماهير الشعب إلى التظاهر والاحتجاج والغضب، ولأنه مستمرّ ومتسع فالتظاهرات مقابله كذلك، في عموم العراق وعمر الغزو والاحتلال وما بعدهما.
لم يكتفِ الفساد الإداري بالرشوة والمحسوبية والتخلف في تسيير أمور الناس اليومية والوظيفية المعروفة، بل زاد في التعيين والتوظيف لأفراد لا علاقة لهم في الموقع الذي يحتلّونه أو من الفاشلين في إدارته علمياً ووظيفياً، وتمّ تعيينهم في لعب المحاصصة والتقسيم التحازبي والعائلي وغيرها من الأمور التي ألحقت بالأجهزة الإدارية أضراراً غير قليلة وأساءت إلى مسمّيات الدوائر أو المنظمات أو الأجهزة أو المؤسسات. ولعلّ بعض برامج النقل المباشر في عدد من القنوات الفضائية المحلية مع المواطنين في الشارع مباشرة تعطي بعض صور عن الواقع المزري فيها، ويتطلّب من السلطات المسؤولة متابعتها والردّ على الاستفسارات والطلبات والمواضيع التي يثيرها المواطنون مباشرة، بالصوت والصورة والوثيقة واللوعة الإنسانية المحرجة والمخجلة لأيّ إنسان طبيعي.
كثير من المعاملات التي يحتاج لها المواطن تُكتب باليد، رغم كل التطورات التقنية في آلات الكتابة والنشر والإنترنت، فيقع فيها الكثير من الأخطاء في الكتابة، وإذا أراد التصحيح فيُجبر على العودة إلى المربّع الأول في الطلب والمراجعات والسجلات والمساومات، والأبشع فيها المطالبة بموافقة الوزير المختص لتلك الظاهرة وتتكرر هذه الإجراءات البيروقراطية والروتينية وتهدر وقت المواطن وماله وصبره ورؤيته لبلده الذي يتراجع حتى عمّا كان عليه قبل سنوات. إضافة إلى جهل أو فقدان معرفة ما يتعلق بالعمل وخدمة المواطن. موظف لا يكتب إلّا بخط يده في طلبات مطبوعة ومخططة، وآخر لا يعرف قوانين الهجرة واتفاقية جنيف لعام 1951 للاجئين السياسيين ولا متعلقاتها وتعديلاتها وهو من الذين يقررون قبول معاملة أو ملف الهجرة أو رفضها لمن عانى بقدر عمره الزمني. فضلاً عن الفساد الآخر، المالي، والنهب للثروات والخيرات والتبذير والهدر والضياع في أصول الصرف أو التخصيص، مع ما يُنشر من أساليب لا يمكن أن تكون أو تحصل إلا في العراق الجديد..
هذا الفساد المعلَن والمخفي، ومن باب الهزل، يتحدث عنه نواب في برلمان الشعب في تصريحات وبرامج تلفزيونية علناً، وعن مشاركتهم فيه دون خوف أو خشية أو وجل من ضمير أو رقيب أو حسيب. رغم وجود منظمات حكومية تحمل أسماء الشفافية والنزاهة والمراقبة وغيرها من التسميات فقط.
تضاف بالتأكيد إلى عوامل استمرار التظاهرات في العراق النسب العالية للعاطلين عن العمل بعد تخرجهم من المعاهد والكليات وغيرها، وهؤلاء بعمر الشباب، المتطلّع للحياة والمستقبل، ويعتبر نفسه ثروة بشرية للوطن، وأدى ما عليه وينتظر أملاً له في العمل والبناء. كما أن غياب روح التجديد والتغيير في البنى والرؤى المستقبلية للبلاد يعرقل عملية التحديث والتطوير وحتى البناء والتنمية البشرية والعمران. ما يخلق أجواء وبيئات جاهزة للاحتجاج والغضب وحتى لأبعد من ذلك. وهو ما يحصل فعلياً في العراق الجديد، بعد الاحتلال والتآمر الأميركي عليه.
لذا نرى كل يوم تظاهرة أمام مباني الوزارات أو الدوائر المختصة والمتعلقة بالعمل. وتواجه أغلب الوزارات مطالب الشباب بالوعود والتحايل عليها، وكذلك المحافظات والمؤسسات المحلية الأخرى. وليس آخر التظاهرات للخريجين من مختلف الاختصاصات والمهن، بل وشملت المعلمين، الذين لبوا نداء نقابتهم إلى الإضراب ليومين عن التعليم وتعطيل الدراسة، والتشديد على تلبية مطالبهم ببرمجة التوظيف وتحسين سلم الرواتب والاهتمام بظروف المباني والتخطيط لزيادة أعدادها وتطوير المناهج الدراسية واحترام الحقوق المشروعة.
*كاتب عراقي