تمرُّ في هذا الأسبوع ذكرى افتتاح سفارة العدوّ الإسرائيلي في قلب القاهرة في عام ١٩٨٠. ومؤتمر وارسو ذكّرَ بتاريخ مشؤوم من التطبيع العربي الرسمي مع العدوّ الإسرائيلي. وحلف وارسو الجديد يهدفُ إلى تحويط الكيان الإسرائيلي بدول متحالفة معه لحمايته وصونه، أي هي عكس نظريّة الأطراف التي اعتمد عليها الكيان في عقوده الأولى لعجزه عن جذب الدول العربيّة الرئيسة إلى صفّه. لكن كيف وصلنا إلى هنا؟ متى تغيّرت الثوابت، حتى تلك الرسميّة المعلَنة؟ متى قرّرَ النظام العربي أن العدوّ الإسرائيلي لا يشكّل أكبرَ مصدر خطر له؟ (وهنا، تختلف مواقف الأنظمة عن مواقف الجمهور العربي كما يظهر في استطلاعات الرأي الدوريّة، مثل «المؤشّر العربي»، وهو الأشمل، والصادر عن «المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات»).
كامب ديفيد 1978 (ديفيد هيوم كينيرلي)

المناسبة هي صدور كتاب ستيوارت آيزنتشات، «الرئيس كارتر: سنوات البيت الأبيض» الموسوعي (يتخطّى الألف صفحة). وآيزنتشات عمل مستشاراً في البيت الأبيض ولم يكتب عن تجربته هناك إلّا بعد مرور هذه العقود. وضخامة الكتاب تعكس دقّة وسعة التدوين اليومي الذي كان آيزنتشات يلجأ إليه (وهذا يذكّر بالمدوّنة اليوميّة لرئيس أركان موظّفي البيت الأبيض في عهد نيكسون، إيش. هالدِمِن، والذي نُشرَت يوميّاته بعد عقود من انتهاء الولاية). ولم يكتفِ آيزنتشات بتضمين يوميّاته في سرديّة سياسات عهد كارتر، بل أضافَ إليها قراءاته لكتب منشورة بالإضافة إلى مقابلات شخصيّة أجراها مع كارتر ومع غيره من مسؤولين أميركيّين وأجانب. الكتاب يتطرّقُ إلى السياسة الداخليّة والخارجيّة على حدّ سواء، لكن ما يهمُّ القارئ العربي فيها هو الشرق الأوسط والسياسة الخارجيّة. وما يهمّنا أكثر أن هذه الحقبة كانت بداية المؤامرة الكبرى لتشتيت العالم العربي، وإنقاذ إسرائيل من الجيوش العربيّة، توصّلاً إلى فصل القضيّة الفلسطينيّة عن الهمّ العربي (العام والرسمي).
هل هناك من جديد عن اتفاق كامب ديفيد لم يُنشَر بعد؟ هناك كتب عن كامب ديفيد تملأ رفوفاً في مكتبة. لكن دورُ آيزنتشات يضفي جديداً على الموضوع لأنه لم يكن مستشاراً للسياسة الخارجيّة (مواضيعه كانت محصورة بالسياسة الداخليّة لكنه عمل كصلة وصل، أو ضابط ارتباط، بين الرئيس والجالية اليهوديّة). وهناك عُرف في تاريخ البيت الأبيض في القرن العشرين، خصوصاً بعد الحرب العالميّة الثانيّة، أن يلعبَ سياسيٌّ نافذٌ، أو موظّفٌ مرموقٌ في البيت الأبيض، دورَ ضابط الإيقاع في العلاقة بين الرئيس والجالية اليهوديّة لأهميّتها السياسيّة.
ويعترف آيزنتشات أن هناك طابعاً مميّزاً لسياسة أميركا نحو الشرق الأوسط: إنها وحدها التي تتصف بطابع السياسة الداخليّة (بالإضافة - سابقاً - إلى مسألة السياسة نحو كوبا) (ص. ٤٠٩). لكن الحديث عن دور اللوبي الإسرائيلي (وهو لوبي غير يهودي محض لأن المسيحيّين الإيفانجيليّين باتوا أكثر مناصرةً وتعصّباً لإسرائيل من اليهود الأميركيّين حيث هناك تعدّد في الآراء حول الموضوع بينهم، ويقلُّ الدعم في الجيل الجديد). ودورُ المستشار الذي يتصل بالجالية اليهوديّة وقادة المنظمات الصهيونيّة هو الترويج لسياسات الرئيس المساندة لإسرائيل في أوساط اللوبي، وكسب دعم اليهود أو المسيحيّين الإيفانجيليّين.
ودورُ كارتر في سياساته نحو الشرق الأوسط حازَ على لمسة تأريخيّة رومانسيّة - لا يستحقّها - في كتاب سيث أنزيسكا، «منع فلسطين» (وقد كتبتُ عنه بإسهاب هنا). لكن الكتاب الذي بين أيدينا يعيدُ تصويب الموضوع ويضع كارتر في مكانه الطبيعي، أي سياسي أميركي أرادَ أن يحلّ مشكلة الشرق الأوسط من دون إزعاج إسرائيل، ومن دون إعطاء الشعب الفلسطيني أكثر من حكم ذاتي. هذا هو سقفُ كارتر، الذي يحاول في السنوات الأخيرة التكفير عن ذنوبه، أو الانتقام من الخذلان الذي واجهه من قِبَل مناحيم بيغن: هذا الكتاب يعطي دوافع كارتر في نقد إسرائيل نزعة أقل إنسانيّة وأكثر سياسيّة - شخصيّة. لقد وعده بيغن بتجميد المستوطنات لمدّة خمس سنوات في مفاوضات كامب ديفيد ثم كذب عليه بأنّه لم يعده بذلك. يعترف آيزنتشات أن كارتر أخذ الأمر على المحمل الشخصي.
ويقول آيزنتشات من دون لبس أن عامل الصوت اليهودي في بعض الولايات (مثل فلوريدا وكاليفورنيا ونيو جيرزي) كان عاملاً مهماً في صياغة خطب كارتر عن الشرق الأوسط (ص.٤١٢). إن الحديث عن ذلك في أميركا اليوم يستدعي اتّهامات فوريّة بمعاداة السامية، كما حدث مع النائب، إلهان عمر، فقط لأنّها تجرأت على الحديث عن دور المال في سطوة اللوبي الإسرائيلي، «إيباك». والكتاب يُبرز دور زبغنيو برجنسكي في دفع كارتر لاتّخاذ مواقف أكثر نقداً لإسرائيل (كانت تصريحات برجنسكي العلنيّة في ولاية كارتر أقلّ تعاطفاً مع فلسطين من مواقفه (غير المُعلنة) في المداولات في البيت الأبيض، إذ يُذكَر له قوله «وداعاً منظمة التحرير» في مقابلة شهيرة مع مجلّة «باري ماتش»). لكن في هذا الكتاب كان برجنسكي المسؤول عن دفع كارتر نحو مواقف أكثر تصلّباً (نسبيّاً طبعاً) من إسرائيل.
وتنازعَ جناحان في الإدارة: الجناح المتعاطف مع الشعب الفلسطيني (بحدود) ومثّله برجنسكي ووزير الخارجيّة، سايروس فانس، والجناح المعادي، الذي ضمّ كلّ المستشارين والوزراء الآخرين، وكان موقف برجنسكي مرتبط بالحرب الباردة وخوفه من نزوع الأنظمة العربيّة نحو الاتحاد السوفياتي بسبب موقف أميركا ضد فلسطين. (إن وجود أجنحة في موضوع إسرائيل لم يعد موجوداً في الإدارات الأميركيّة. آخر مرّة شهدنا وجود أجنحة كان في عهد بوش الأب، وما تلى ذلك كان بداية سطوة الإجماع الصهيوني الذي ترافقَ مع تدمير نفوذ المستعربين في وزارة الخارجيّة وفي أجهزة الاستخبارات). وكان كارتر أقرب عاطفيّاً من الجناح الأوّل لكن لم يكن ينسى مصالحه السياسيّة التي جعلته يرضخ للضغوط والتفسيرات الإسرائيليّة، كما إن تأثير المذهب المعمداني الجنوبي العميق عليه جعله ينظرُ إلى الصراع من وجهة نظر تاريخيّة-دينيّة لا ترى الشعب الفلسطيني إلّا دخيلاً. إنّ حق اليهود في أرض فلسطين كان عنده حقاً إنجيليّاً (ص.٤١٢) قبل أن يكون سياسيّاً: الله عنده هو الذي منحَ اليهود «الأرض المقدّسة». وكارتر كان أوّلَ رئيس تحدّث عن إهمال الموضوع الفلسطيني لكنه «وازنَ» - في نظره هو - ذلك بالتشديد على دعم إسرائيل وفي شنّ حرب رسميّة ضد المقاطعة العربيّة ضد إسرائيل. إن القضاء على حملة المقاطعة الرسميّة (الفاعلة جدّاً) كان من أعمال كارتر هذا، الذي يظنّ البعض أنه مؤيّدٌ لفلسطين. واعترف كارتر للمؤلّف أنه لم يبلورْ تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني إلّا بعد وصوله إلى الرئاسة (ص. ٤١٧). كما أن زيارته الضفة الغربيّة والقطاع بعد سنوات رئاسته جعلته يقارن بين وضع السود في الجنوب الأميركي ووضع الفلسطينيّين تحت الاحتلال (ولهذا هو استعمل كلمة «أبارثيْد» في كتابه المعروف لكنّه حصرها بأراضي ١٩٦٧ فقط).
لكنّ قصة مسيرة سياسة كارتر، من إصرار على عقد مؤتمر شامل في جنيف عن الصراع العربي - الإسرائيلي إلى التوصّل لسلامٍ استسلامي منفرد بين النظام المصري وإسرائيل، هو مسار لسلسلة من الرضوخ الأميركي لمطالب إسرائيل والتجاهل الكلّي من قِبل أنور السادات للقضيّة الفلسطينيّة ولسيادة مصر نفسها. إن تأثير أنور السادات على العالم العربي أكبر بكثير من تأثير عبد الناصر: بعد سنوات فقط من موت عبد الناصر (وأنا لا زلتُ أشتبه في ضلوع أميركي في موته المبكر) تبخّرت الناصريّة وتبخّرت تأثيراتها في مصر خصوصاً وفي كل العالم العربي، فيما ما زلنا نعيش في العصر الساداتي. مؤتمر وارسو الأخير هو تتويج للمسيرة الساداتيّة المستمرّة.
يتّضح كم أن السادات كان مصرّاً على تجاهل البعد الفلسطيني المركزي، وكم كان متساهلاً في حقوق بلده وسيادته


ويكشف المؤلّف عن صلة وثيقة بين كارتر في حقبة مفاوضات كامب ديفيد وبين النظام السعودي: وكان النظام السعودي أقرب إلى الصلح مع إسرائيل حتى من الأردن، بشهادة كارتر الذي بقي على تواصل مع حكام السعوديّة (وهو يذكر أن حافظ الأسد لم يكن معارضاً للتسوية في المبدأ). لكن غضب السادات ونزقه هو الذي منع انضمام النظام السعودي إلى العمليّة، بالإضافة إلى عدم اكتراثه لحلّ تنازليّ ولو شكليّ للقضيّة الفلسطينيّة (والذي أزعج الملك حسين أنه لم يُدعَ إلى المفاوضات في «مينا هاوس» في ديسمبر ١٩٧٧). وكانت الحكومة الأميركيّة تضغط على ياسر عرفات من خلال النظام السعودي (ص. ٤٢٠)، وهذا الربط بين تمويل منظّمة التحرير والأنظمة الخليجيّة هو الذي أوصل عرفات إلى مأزقه الكبير بعد قطع التمويل إثر الغزو العراقي للكويت.
وسجّل كارتر سابقة ديبلوماسيّة عندما دعا في خطاب له في ١٦ آذار ١٩٧٧ إلى إنشاء «وطن... للاجئين الفلسطينيّين»، وكانت هذه أوّل إشارة من الحكومة الأميركيّة للحقوق السياسيّة للشعب الفلسطيني تلاها إشارة إلى «الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني»، لكن كارتر كان يُطمئِن مستشاريه الصهاينة وأقطاب اللوبي: «أنا أنتحر قبل أن أتخلّى عن إسرائيل» (ص. ٤٦٣). لكن كارتر سرعان ما أهمل مطلبه هذا وحوّل الحق السياسي الفلسطيني إلى حقّ في الإدارة البلديّة الخالية من مفهوم السيادة. وسارع كارتر في الأيام التي تلت الخطبة إلى إصدار مواقف متطرّفة في صهيونيّتها لطمس الضجّة التي أحدثها استعمال مصطلح «وطن» للفلسطينيّين. لم تكن الحكومة الأميركيّة في عهد جونسون ونيكسون - أو الإسرائيليّة - تعترف بوجودهم. واعترف كارتر فيما بعد أنه فقد تأييد الجالية اليهوديّة آنذاك بسبب هذا المصطلح (ص. ٤٢٩). وقد انخفضت نسبة تأييد الناخبين اليهود لكارتر من ٧٠٪ في عام ١٩٧٦ إلى ٤٠٪ في عام ١٩٨٠، لكن لا يمكن نسب سقوطه في الانتخابات الثانية إلى العامل هذا.
وتتبدّى المعايير الأميركيّة في التعامل مع الحلفاء والخصوم أكثر ما تتبدّى في تبجيل أنور السادات (لا يزال يحتلّ موقعاً مرموقاً جداً في الثقافة السياسيّة والشعبيّة الأميركيّة). ما قيمة كل مزاعم كارتر حول حقوق الإنسان أمام صداقته العميقة وثنائه المستمرّ على السادات؟ آيزنتشات لا يقلّ تبجيلاً وتعبّداً له. وهو يصرّ على وصفه بالجنرال (ص. ٤٣٠)، ويكرّر ذلك مع إشارة إلى قيادته العسكريّة المزعومة (لعلَّ آيزنتشات انبهر بالزي العكسري للسادات - الذي صمّمه له بيار كاردان - وبعصا الماريشاليّة). وكالعادة عند الصهاينة، يُتستَّر على معاداة السادات لليهوديّة في تاريخه، وحتى على تأثّره بهتلر. لو كان المُتأثِّر بهتلر غير هذا الذي كان ولا يزال العربيَّ ذا السجل الذهبي في خدمة احتلال إسرائيل لكان الإعلام الغربي ينشغلُ ويستنكرُ إعجابَه بهتلر كما لا يزال ينشغلُ في اللقاء الذي جمع بين الحاج أمين الحسيني وهتلر. آيزنتشات يدافع عن إعجاب السادات بهتلر ويقول إن ذلك لم يكن بدافع اللا سامية بقدر ما كان بسبب معارضة البريطانيّين (ص. ٤٣٠). لكن ألا ينطبق هذا على موقف الحاج أمين أيضاً؟ والسادات كان يشير إلى اللوبي الإسرائيلي بوصف بالإنكليزيّة يُعتبر هنا معادياً للسامية (ص.٤٨٢) ويرى المؤلّف أن السادات خطّط للسلام مع إسرائيل بسبب إيمانه بالنفوذ السياسي لليهود الأميركيّين (ص.٤٧١). وفيما يصف المؤلّف السادات بالقائد (الأنيق) فإن حافظ الأسد يوصف بـ«الديكتاتور الوحشي» (ص.٤٣٤) كأن السادات كان زعيماً ديموقراطيّاً منتخباً. وكارتر كان شديد التعلّق بالنظام السعودي الذي قال عنه آيزنتشات «علاقة حب» بين كارتر والسعوديّين. (ص. ٤٤٣).
ويظهر في الكتاب أن حكومة العدوّ كانت تحصل على تسجيلات عن محادثات السادات الخاصّة مع مساعديه (ص.٤٣٣)، لكن السادات لم يكن يمانع على الأرجح لأنه شرعن الاختراق الأميركي والإسرائيلي الاستخباراتي لمصر. وكانت حكومة العدوّ تستبق المواقف الأميركيّة من خلال علمها بما يدور بين السادات وكارتر. والمؤلّف يبدو حريصاً جداً في صياغاته: هو ثابت في مواقفه الصهيونيّة لكن الكتاب يتضمّن نقداً غير مألوف (منه) لدور اللوبي الإسرائيلي (قالت لي صديقة عملت مع آيزنتشات قبل سنوات أن مواقفه الخاصّة أكثر نقداً لإسرائيل من مواقفه المُعلنة). وتوصيف آيزنتشات للدور اللوبي لا يمكن أن يُقال في العلن اليوم في أميركا، إذ يقول: «إن كل الحركة (من قبل اللوبي) أظهرت بسرعة العلاقة الثلاثيّة الخاصّة بين إسرائيل والقيادة اليهوديّة الأميركيّة والكونغرس في فرض ضغط بفعاليّة على الرئاسة لتعديل السياسة الأميركيّة لصالح إسرائيل» (ص.٤٣٧). قد يصلح إضافة دور جديد هنا، أي دور المسيحيّة الصهيونيّة النافذة، والتي من أجلها - لا من أجل الجالية اليهوديّة - قرّرَ ترامب نقل السفارة من يافا المحتلّة إلى القدس المحتلّة.
والتدخّلات الإسرائيليّة في الشأن الأميركي سبقت عهد نتنياهو بسنوات طويلة. ويُذكَر أن مناحيم بيغن طمأن رونالد ريغان مرّة بالقول: «لا تقلق بالنسبة للكونغرس. أنا أتولّى أمره». واعتبرها ريغان إهانة شخصيّة له. وفي حدث مماثل، عرض موشي دايان على كارتر مساعدته في وضعه السياسي عبر التصريح بصلابة مواقف كارتر بالنسبة إلى إسرائيل. واعتبر آيزنتشات ذلك «تدخلاً مذهلاً في السياسة الداخليّة من قِبل وزير أجنبي، حتى ولو من دولة صديقة» (ص.٤٦٦).
وكان كارتر قد اتّفق مع برجنسكي على جعل حلّ مشكلة الشرق الأوسط واحدة من عشر أولويّات للإدارة، في إطار مؤتمر شامل برعاية أميركيّة - سوفياتيّة. لكن كل هذا التحضير المسبق تبخّرَ مع مبادرة السادات في زيارة القدس المحتلّة والتي لم يكن السادات يريد أن يُشركَ فيها أي كان إلا أميركا فقط. أي إن السادات منع رعاية سوفياتيّة - أميركيّة مشتركة لمؤتمر عن الشرق الأوسط، فيما حبَّذها كارتر ومستشاروه. ويروي المؤلّف، ربما للمرّة الأولى، أن كارتر عارضَ في البداية مبادرة السادات لأنه فهمَ مرادها في إهمال القضيّة الفلسطينيّة والتوصّل لحل (استسلامي) منفرد. يذكر آيزنتشات أن كارتر قال له في حينه: «أعتقد أنني سأعارض زيارة السادات. إنها ستكون نهاية الأمل بسلام شامل ولن تؤدّي إلا، على الأكثر، إلى اتفاق ثنائي بين مصر وإسرائيل» (ص. ٤٧٢). يضيف آيزنتشات أن كارتر لم يعترف بذلك فيما بعد لأنه أراد قطف وهج المبادرة الغربي الصهيوني. لكن كان تقييم كارتر الأوّلي مصيباً.
أما مسار المفاوضات فيتضح منه كم أن السادات كان مصرّاً على تجاهل البعد الفلسطيني المركزي في القضيّة، وكم كان متساهلاً في حقوق بلده وسيادته. ونعلم من الكتاب أن رفع العلم الفلسطيني في «مينا هاوس» في القاهرة في ديسمبر ١٩٧٧ كان مسرحيّة: إذ إن العلم تصدّر الفندق فقط من أجل بضع صور (ص. ٤٧٨)، لكنه سرعان ما أُنزِل احتراماً لمشاعر المفاوض الإسرائيلي الرافض. ويردُ عرضاً في الكتاب الاستغلال اللاسامي لقضيّة المحرقة من قبل إدارة كارتر التي عانت من تنامي المعارضة اليهوديّة الأميركيّة لها بسبب الانطباع الذي ولّدته حكومة العدوّ ولوبيها الفاعل هنا من أن كارتر منحاز ضد إسرائيل لصالح الشعب الفلسطيني. وطلع ستيوارت آيزنتشتات باقتراح إنشاء متحف المحرقة (ص. ٤٨٧)، الذي بات مقصداً لزوّار من العالم. لم تكن غايته التعريف بالمحرقة بل إنقاذ سمعة رئيس يعاني من مشكلة انتخابيّة.
وكان السادات في المفاوضات بعيداً جداً عن تفاصيلها ومعادياً لكل فريق مستشاريه الذين عارضوا توجّهاته الاستسلاميّة وحاولوا - ضمن حدود - تحسين شروط الاستسلام (يذكر آيزنتشات أن أعضاء الوفد المصري رفضوا أخذ صورة تذكاريّة مع الوفد الإسرائيلي ورفضوا التوقيع على خارطة للذكرى، ص. ٥٢١). وحده بطرس غالي كان مطيعاً دوماً للسادات، الذي صوَّر نفسه للأميركيّين على أنه الناطق باسم «كل العرب». (ص. ٥٠٣). وفيما كان السادات متملّقاً لكارتر، كان بيغن يُمعن في إذلاله، مصرّاً على التفاوض التفصيلي في كل جوانب ملف اتفاقيّة السلام، فيما اكتفى السادات بالعناوين العامّة. ويطلع القارئ بانطباع من السرديّة شبه الرسميّة هنا أن الحكومة الأميركيّة كانت تتجسّس على المفاوضين المصريّين لأنها في لحظة ما - ربما بناء على أقوال ضد السادات وردت منهم في غرفهم - شدّدت الحراسة على السادات وخشيت أن يقوم واحد منهم بإيذائه (ص. ٥١٣). وعلى خلاف السادات الذي أهان مفاوضيه أمام الجميع (هو أشاح مرّة بيده نحو نبيل العربي قائلاً: «أنت ووزارة الخارجيّة تنظرون إلى الأشجار ولا ترون الغابة»، ص. ٥٢٢، وفي مرّة أخرى سأل العربي السادات عن سبب رفضه لإرسال مبعوث مصري لدول الجامعة العربيّة، فأجاب السادات: «لا أحتاج أن أعطيك سبباً»، واصفاً ديبلوماسيّيه بذوي العقول الصغيرة (ص. ٥٣٠))، كان بيغن يحرص على الاستماع لآراء كل أعضاء وفده، من أصغرهم إلى أكبرهم مرتبة. (ص. ٥٠٩) وكان السادات يوافق على أمور لم يكن أعضاء وفده - بناء على تعليمات منه أحياناً - يوافقون عليها. ففي مرّة أعلم أسامة الباز كارتر أن مصر لا تقبل بفيتو إسرائيل على دخول الفلسطينيّين إلى الضفة، لكن السادات كان قد أعلم الأميركيّين بموافقته (ص. ٥١٣). (يمكن الملاحظة العرضيّة أن ياسر عرفات كان في مفاوضات أوسلو متساهلاً مثل السادات، إن لم يكن أكثر منه).
لا يبالغ آيزنتشات في إنجاز كامب ديفيد بالنسبة إلى العدو: هو الذي فتح باب اتفاقيّة السلام مع الأردن، وهو الذي مهّد الطريق لأوسلو لاعتراف منظمة التحرير بالكيان الاحتلالي. كامب ديفيد هو الذي أنهى عروبة القضيّة الفلسطينيّة وجعلها شأناً فلسطينيّاً داخليّاً (قابلاً للمساومة والاستسلام)، ورسّخ عرفات ذلك بشعاره الكاذب عن «استقلاليّة القرار الفلسطيني»، الذي كان قد رهنه لأنظمة الخليج. ويقول أحد الديبلوماسيّين الساداتيّين، السفير السابق عبد الرؤوف الريدي، أن «المشكلة (الفلسطينيّة) ليس لها حل». والسادات كان مدرسة في التساهل بالحقوق المدنيّة. عندما طالب العدوّ بمسافة ٥ كلم لمنع نشر دبابات مصريّة في سيناء، قال السادات: لنجعلها ٢٠ كلم. وعندما ذكّر كارتر بيغن بأنه وعد بتجميد الاستيطان لمدة خمس سنوات، كذب بيغن وقال إنه التزم بثلاثة أشهر فقط، ولم يعترض السادات. عرفات سار على مسار السادات في التنازل والمساومة على الحقوق. إن مسار كامب ديفيد هو العنوان الرئيس لكل الأحداث السياسيّة والحروب على مدى الأربعين سنة الماضية. لا يمكن عكس التاريخ، لكن يمكن التخريب على مساره. لا آثارَ لهذا التخريب اليوم إلّا في ظواهر المقاومة. وحدها يمكن أن تغيّر المسار.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)