يتجه الوضع الجيوسياسي في منطقتنا إلى نوع من الكسر الجذري مع ما كان يعرف بالثوابت التاريخية، وذلك بفعل العامل العسكري الذي تصدّر المشهد الميداني في العقود الثلاثة الأخيرة، والذي يشي بأننا على أبواب تغييرات كبيرة سيضطر معها المحور المنتصر إلى رؤية ما هو أبعد من العناوين الاستراتيجية، والولوج في توفير متطلبات الناس الاقتصادية والمعيشية، وكما كان وما زال هذا المحور المقاوم مشبّكاً في جبهات القتال من إيران إلى اليمن، مروراً بالعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، فإن انتصاره يبقى عرضة للهزّات دون التشبيك الاقتصادي والاجتماعي، والأمثلة أمامنا كثيرة لدول قاومت وانتصرت عسكرياً، لكنها عادت وسقطت بفعل الخلل الاقتصادي الذي بقي خاضعاً لتجاذب وضغوط السوق المسيطر عليها من المحور المناوئ. وبما يزيد من فعل هذا العامل الخدماتي وتأثيره، أن الناس بفعل تركيبتها النفسية وارتجاليتها، قد تلحق في البداية بالشعارات الاستراتيجية، ولكن سرعان ما تعود إلى واقعها اليومي المعيش لتفتش عن ترجمة سريعة لهذه الانتصارات في مكتسبات آنية معيشية لضمان بقائها.فضلاً عن ذلك، فقد يشكل هذا التشبيك الاقتصادي الخدماتي قوة إضافية داعمة لدول المحور يعمل على استقلاليتها وعلى تدعيم جبهتها الداخلية (وهي الجبهة الأصعب في المواجهة اللاحقة بوجه محور المؤامرة)، وكذلك على رفع الوعي الجماعي عند الناس من خلال تداخل بعضها ببعض ورؤية مصالحها المشتركة، بما يسقط الكثير من الشعارات الطائفية والمذهبية والإقليمية الضيقة التي تتسلح بها قوى العدوان، فضلاً عن الكلفة الإنفاقية الخافضة لمشاريع التشبيك الخدماتية ما بين هذه الدول مجتمعة، مقارنة بمشاريع منفردة لكل دولة على حدة.
يكتسب التشبيك الصحي أهمية في الوقت الراهن، لأنه يشكّل جزءاً من حاجيات الناس الطارئة، في ظل ضعف الخدمات الصحية أو انعدامها في بلدان محور المقاومة، الذي وصل إلى حد التصحّر الطبّي في العديد من المدن الكبيرة فيه. ومن الملاحظ أن الناس في هذه الدول قد بدأوا يتلمسون الحاجة لهذا التشبيك من خلال انتقالهم للعلاج بين هذه الدول (ولبنان خير شاهد)، وهم بذلك يكونون قد سبقوا حكوماتهم في رسم سياسة التشبيك هذه. ويساعدنا في طرح الموضوح الصحي الموحّد أنه يشكل جزءاً من دراسة في طور الإعداد، نكتفي بعرض عناوين رئيسية تهمّنا مباشرة، هي:
1. التشبيك الاستثنائي ومركزة الاختصاصات الكبيرة.
2. إنشاء المعامل المصنّعة للأدوية والأمصال والمعدات الطبية، وتوحيدها.
3. تنظيم حركة الكادر الطبي المتخصص في التنقل ما بين دول المحور، وحرية هذه الحركة.
4. إنشاء مركز موحَّد للأبحاث الطبية والبيولوجية.
وذلك بالتركيز على المتطلبات الصحية الموحّدة لهذه السوق الخدماتية التي قد تغطي ما يقارب 100 مليون نسمة، مع الأرقام الأولية لكلفة الإنشاء والتشغيل.
1 - التشبيك الاستشفائي ومركزة الاختصاصات الكبيرة، وصولاً إلى توحيد الاختصاصات الدقيقة والباهظة الكلفة في مركز واحد ما بين المستشفيات الجامعية، يشكل مرجعاً أكاديمياً، كما هي الحال في البلدان الأوروبية. خصوصاً أن هذه الاختصاصات النادرة تتطلب معدات وتجهيزات عالية التكاليف والتشغيل، بالإضافة إلى ندرة الأطباء الاختصاصيين.
تبلغ الحاجات الاستشفائية الحالية لدول المحور من الأسرّة (بحسب الأرقام الأولية) نحو عشرين ألف سرير، فيها حالياً نحو ثمانية آلاف سرير. السمة المشتركة لدول المحور ضِعف، وفي بعض الأماكن انعدام، القطاع الاستشفائي الحكومي والاتكال على المستشفيات الخاصة التي تعمل بعقلية المردود التجاري، أي الربح السريع على حساب الكفايات الطبية والتجهيز المتطور (هذا لا يمنع من التنويه بدور القطاع الخاص في المجال الصحي وحيويته وسرعة تأقلمه مع متطلبات الطلب والعرض).
تتوزع هذه الحاجيات الاستشفائية على النحو الآتي:
ـــ 6 إلى 8 مستشفيات جامعية: في المدن التي تزيد على مليون نسمة.
ـــ 16 إلى 18 مستشفى في الأطراف: في المدن التي تزيد على ثلاثمئة ألف نسمة.
يكتسب التشبيك الصحي أهمية في الوقت الراهن، لأنه يشكّل جزءاً من حاجيات الناس الطارئة


تلبي هذه المستشفيات الحاجات الصحية للمواطن في كل الاختصاصات الأساسية، والتشبيك ما بين هذه المؤسسات يكمن في توزيع الاختصاصات والتجهيزات والكادر المتخصص، خاصة لجهة الاختصاصات الدقيقة، كما أسلفنا.
على سبيل المثال، نرى أنّ من الضروري وجود قسم استشفائي عالي التقنية لعلاج الحالات السرطانية لكل دول المحور، مركزه بغداد، وحالات الطب الداخلي في دمشق، وحالات الجراحة القلبية والدماغية المتطورة في بيروت، آخذين بالاعتبار كثرة الإصابات بالأمراض المذكورة وتعدد الكادر الطبي المتخصص وتجربته في هذا المجال، ووجود تجهيزات طبية وتقنية ملائمة.
باختصار، بحسب الأرقام الأولية، إن كلفة هذا القطاع الاستشفائي من البناء والتجهيز والتشغيل تبلغ نحو مليارين ونصف مليار دولار، تُنفذ خلال ثلاث إلى خمس سنوات، في إطار سياسة صحية تهدف إلى الاستقلالية الطبية عن الخارج والمساواة في التقديمات الصحية، وأخيراً إلى التعاضد الاجتماعي، ليصبح حق المواطن في الصحة واجباً يقدمه المجتمع لكل مواطن.
2 - إنشاء المعامل المصنّعة للأدوية والأمصال والمعدات الطبية وتوحيدها، والتنسيق فيما بينها للتجاوب مع حاجة السوق الصحية لمنطقة قد يصل تعداد سكانها إلى أكثر من مئة مليون نسمة، وهنا يجب التوقف عند أمرين:
الأمر الأول: كلما كبرت حاجة السوق من الدواء والمعدات الطبية، انخفضت كلفة الإنتاج والاستهلاك.
الأمر الثاني: تغطية الحاجة الدوائية الأساسية لأي سوق دوائية في العالم تتلخص بنحو ستين إلى ثمانين منتجاً كيميائياً. أما باقي الأدوية، فهي عبارة عن متفرعات ثانوية أو تعديلات على المنتج الأساسي. وعلى هذا الأساس، إن كلفة إنشاء معامل تصنيع الدواء وتجهيزها وترخيص الإنتاج من المختبر المالك للدواء لا تتعدى أربعمئة وخمسين مليون دولار للمنتجات الرئيسية. يضاف إليها معامل الأمصال بكلفة خمسين مليون دولار (نحو أربعين مليون مصل)، مع العلم بأن السوق المحلية لدول المحور مغطاة حالياً بنسبة 20% من خلال معامل داخل هذه الدول.
أما بالنسبة إلى المعدّات الطبية والجراحية، فالكلفة تراوح ما بين مئتين وخمسين إلى ثمانمئة مليون دولار حسب نوع الآليات التقنية المنوي استحداثها وحسب التحكّم بهذه التقنيات من قبل المهندسين المحليين.
3. تنظيم حركة الكادر الطبي المتخصص في التنقل ما بين دول المحور، وحرية هذه الحركة:
كان تعداد الكادر الطبي في سوريا والعراق ولبنان، بحسب مصادر رسمية تعود إلى أكثر من عشر سنوات يتخطى سبعين الف طبيب، لم يبقَ منهم حالياً سوى خمسة وعشرين ألفاً (إحصائية غير رسمية)، معظم هؤلاء الأطباء والمقيمين فقدوا المتابعة العلمية وإعادة التأهيل، أما أصحاب الاختصاصات المهمة، فقد غادروا إلى أوروبا وأميركا وتأقلموا مهنياً وعائلياً في هذه البلدان:
التشبيك في حركة الكادر الطبي تقدم على:
- توزيع الاختصاصات حسب احتياجات المناطق واعتماد سياسة لإنتاج الكادر الطبي من خلال الحاجات الحاضرة والمستقبلية.
وتطبيق لامركزية إدارية وطبية لشؤون المؤسسات الصحية وإتاحة الفرصة لمشاركة فعاليات علمية وأهلية واجتماعية في إدارة هذه المؤسسات الصحية.
- ضمان حرية الكادر الطبي في حركته المتنقلة ما بين هذه المؤسسات لضمان كفاية الجهاز الطبي وتنظيم توزيع الخدمات بين المناطق المختلفة
- تنظيم الإدارة الصحية وخلق الحوافز المادية الكفيلة بكبح الاتجاهات التجارية في السوق الصحية من خلال عروض عمل متوازنة ومنسجمة ما بين دولة وأخرى أو مدينة وأخرى.
- دعوة أصحاب الكفاءات الطبية الموجودة في الخارج إلى المشاركة في بناء القطاع الصحي من خلال خلق الحوافز، خاصة العلمية، الكفيلة بعودتهم إلى ممارسة عملهم في أوطانهم.
4 - إنشاء مركز موحَّد للأبحاث الطبية والبيولوجية عبارة عن مدينة للبحث العلمي والطبي قائمة على الأسس الآتية:
- برامج بحث علمية ووقائية مبنية على الواقع المرضي المعيش، أي على الأمراض الأكثر انتشاراً في المنطقة، أكانت أمراضاً مستعصية مزمنة أم أمراضاً حصلت وتحصل بفعل الحروب والإصابات أو التغيير البيئي وغيره.
- استحداث ميزانية للبحث العلمي من خلال وزارة أو إدارة حكومية موحَّدة ترسم السياسة العلمية البحثية وتعمل مع فريق البحث العلمي على بلورة خطط عمل لإعداد برامج الأبحاث وتجهيزها وتنفيذها.
- نقترح أن يكون المركز الجغرافي لهذه المدينة العلمية، بحيث دراستنا، في طهران، وذلك لوجود قسم من البنية التحتية الجاهزة وجاهزية فريق العمل وخبرته والقدرة على استيعاب أكبر عدد من الباحثين الجدد ولوجود ميزانية جاهزة للأبحاث: ميزانية تدار بعقلية ديناميكية من حيث التقديمات المالية والإدارية.
هذه بعض العناوين المختصرة لمقوّمات التشبيك الصحي، وهي جزء من دراسة كاملة في طور الإعداد لكامل القطاع الصحي تهدف إلى ربط المنطقة صحياً وإنشاء أرضية مشتركة لتكامل خدماتي فيما بينها من طريق تشبيك القطاعات الخدماتية والمعيشية الأخرى.
إن العمل على إيجاد سياسة صحية موحّدة قد يساعد دول المحور وحكوماتها على تخطي الكثير من العقبات الحالية المتعلقة بانعدام التخطيط وفقدان البرامج الصحية وتوقف العمل في العديد من المؤسسات الصحية التي تعاني سوء وتخلف الإدارة الصحية وانعدام التجهيز وعدم كفاية الجهاز الطبي وتفشي الهدر، تفاقمت بنتيجتها الاحتياجات الصحية عند المواطن، خاصة في ظل الوضع الأمني والتغيرات الديمغرافية الحالية.
إن حكومات دول المحور مطالبة منذ الآن بوضع خريطة طريق لسياسة اقتصادية موحدة بهدف تحقيق الاستقلالية والأمان الاجتماعي لمواطنيها، خاصة في ظل الانحياز الجاري في تشكيلات المحاور الاقتصادية العالمية الجديدة.
* طبيب لبناني أخصائي في جراحة الأعصاب مقيم في فرنسا