نشرت «الأخبار» في صفحة الرأي بتاريخ 11 كانون الثاني 2019 مقالاً لعضو المكتب السياسي في الحزب الشيوعي اللبناني كمال هاني بعنوان «تأملات في كتابات كريم مروة: راهنية القضايا والعناوين»، وهو كناية عن تعليق على كتاب القيادي السابق كريم مروة «وجوه مضيئة في تاريخنا» (دار الفارابي ــــ كانون الثاني 2019). يستعرض كاتب المقال محطات من مضمون الكتاب، مستخدماً بعض المسائل التي أثارها مروة ليعيد صياغة جملة من التساؤلات ذات الطابع الإشكالي، في ما يبدو وكأنه تقاطع مع بعض طروحات مروة، والبناء عليها لإثارة جملة من الإشكاليات المتمحورة حول أزمة الحزب الشيوعي اللبناني.إن التأريخ بالمفهوم الماركسي هو جزء من الصراع الأيديولوجي، والرؤية التاريخية تتعدّى التأريخ كعمل توثيقي لتنقل الأحداث من مرحلة التوصيف الى مرحلة التأويل، والمنظار الذي نرى فيه الأحداث تأويلاً وتفسيراً وتوظيفاً يحدّد الجانب الذي ننحاز إليه في الصراع. بالنسبة إلى الحركة الثورية، يعَدّ امتلاك تاريخ موثّق من تاريخ نضال الحركة أمراً مهمّاً، لكن الأكثر أهمية هو الموقف الذي نقارب من خلاله الأحداث والاستنتاجات المنبثقة من السياق التأريخي في وظيفة سياسية محددة تحمل همّ الاستفادة من التجارب السابقة وكيفية توظيف الاستنتاجات في تطوير الحركة الثورية فكراً وممارسة.
وإذا أردنا تطبيق هذا المعيار على الأعمال العائدة لمناضلين في الحزب الشيوعي اللبناني، فقد يكون من الصعب إيجاد مؤلّف تكتمل فيه هذه المواصفات، باستثناء العمل الأكثر أهمية للمناضل محمد دكروب «جذور السنديانة الحمراء» ومن دون التقليل من أهمية الأعمال الأخرى لمناضلين، أمثال: يوسف خطار الحلو، عزيز صليبا، الياس البواري، أرتين مادويان ورفاق آخرين، لما تمثّله مؤلفاتهم من نتاج جهد استثنائي في الحفاظ على الذاكرة الشعبية وما لها من أهمية في تكوين المخزون التاريخي للثقاقة الوطنية والشيوعية في لبنان.
استند الرفيق كمال هاني في مقاله، إلى المادة التي قدّمها كريم مروة ليتخطّى من خلالها عملية التأريخ بما هي سرد لأحداث كان مروة أحد المشاركين فيها أو شاهداً عليها، لصياغة جملة قضايا شكّلت خلاصات مروة نقطة انطلاق لها، في وضعية إشكالية، أساسها أن مروة الذي احتلّ لفترة طويلة مواقع قيادية في الحزب الشيوعي كان إلى جانب رموز أساسية في قيادة الحزب أول من تخلّوا عن مسؤولياتهم الحزبية بعيد حصول الزلزال الكبير المتمثل بانهيار المعسكر الاشتراكي وتفكيك الاتحاد السوفياتي. انتقل مروة من موقع الى نقيضه، وله في ذلك كل الحق، كما له الحق في صياغة الاستنتاجات التي يراها منسجمة مع نظرته المستجدة بعد خروجه من الحزب، بما في ذلك ليس فقط سرده لبعض من تاريخ حركة انتسب إليها، وإنما أيضاً تقويمه لتجربته في جوانبها الإيجابية والسلبية.
اللافت في ما استعرضه عضو المكتب السياسي للحزب الرفيق كمال هاني تبنّيه، حسب ما كتب، بعض طروحات مروة، إذ يقول: وفي اختصار، انعكست خلاصة الطروحات المتعلقة بأزمة الحزب وطرق معالجتها في وثائق المؤتمر السادس (1992) التي تضمّنت الدعوة إلى «حزب مفتوح على التجديد، وعلى القضية الوطنية وقضية الكادحين وقضية الحرية والتغيير الديموقراطي... حزب ديموقراطي حقيقي كبير للتغيير، أكثر طموحاً وأكثر واقعية وأكثر التصاقاً بحياة شعبنا وبلدنا»، ويتابع الرفيق كمال صياغة الأسئلة حول: هوية الحزب الفكرية، الموقف من قضية التغيير السياسي والاجتماعي في لبنان، الموقف من القضية القومية ومشاريع السيطرة الإمبريالية على المنطقة، مسألة التنظيم الحزبي والمواءمة بين المركزية والديموقراطية، والموقف من مسألة حرية الرأي والرأي الآخر وأشكال التعاقد داخل الحزب في زمن شبكات التواصل الاجتماعي...
أي تغييب لمفهوم الصراع الطبقي ليس سوى استسلام سياسي مطلق في حقل الصراع الايديولوجي


من الواضح أن مروة يُرجع الى المؤتمر السادس بداية تمايزه عن تاريخٍ عمره خمسون عاماً أمضاها في الحزب، واحتلّ خلالها مواقع قيادية بارزة لحوالى ثلاثين عاماً، حيث بقي لفترة غير قصيرة الرجل الثاني في الحزب، والمؤتمر المذكور انعقد بعد أقلّ من عام على تفكيك الاتحاد السوفياتي، حيث يدعو الكاتب الى «حزب مفتوح على التجديد... أكثر طموحاً وأكثر واقعية وأكثر التصاقاً بحياة شعبنا وبلدنا»، بينما يذكر الكاتب، كما أشار الرفيق كمال، في الكتاب «التنوّع الكبير في القاعدة البشرية للحزب». وفجأة، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي، يُنظِّر لحزب ديموقراطي حقيقي للتغيير... إلخ. والسؤال البسيط هنا، إذا كان الحزب الذي وصفه مروة لناحية دوره وقوته الجاذبة على غير صعيد، لم تكن تتوافر فيه مواصفات الحزب الديموقراطي التغييري، وهو شخصياً تبوّأ المواقع الأساسية في القيادة، فمن المسؤول إذاً؟
في هذا السياق، يبدو من المفيد إيراد مقتطفات من مقابلة أجراها أحمد بزون مع كريم مروة في مجلة «الفيصل» السعودية الإلكترونية بتاريخ 28 كانون الثاني 2018 تحت عنوان: «المفكّر اليساري كريم مروة: الاشتراكية كانت كذبة كبيرة». جاء فيها على لسان مروة حول الماركسية، «لستُ قارئًا مهمًّا للماركسية، هناك أمور كثيرة في كتاب «رأس المال» لم أفهمها، هكذا كانت قدراتي، فأنا لم أنجز في الجامعة سوى سنة واحدة» و«الماركسية ليست عقيدة، إنما أفكار، قد يكون من الخطأ أن نسأل: ماذا بقي من الماركسية؟ يمكن أن نسأل: ما الذي بقي من أفكار ماركس؟ وما الذي انتهى مع الزمن؟». وفي سياق الحديث عن نفسه، قال مروة في المقابلة المذكورة «لا أسمّي نفسي ماركسيًّا، أعتبر نفسي مفكّرًا أتمسك بقيم دخل إليها ماركس باسم الاشتراكية، وفي المناسبة أنا أرى أن أي كلام عن الاشتراكية والشيوعية لا معنى له (...) سمّيت نفسي يساريًّا، لا شيوعيًّا ولا اشتراكيًّا... هل هناك قبضاي يصف نفسه بالاشتراكي أو الشيوعي يمكن أن يشرح لي صفته»، أما عن الرأسمالية وطرق النضال، فيردف مروة في المقابلة أن «القوى التي تقوم بعملية التقدّم تكون برعاية الدولة والنظام الديموقراطي التعددي والرأسمالي، فالشتيمة للرأسمالية كلام فارغ، وكذلك الكلام على العدو الطبقي»، «أعترف لك بأنني اكتشفت ولو متأخرًا أنني بالمطلق ضد استخدام العنف، وأن النضال من أجل تحقيق هدف معين، بما في ذلك إزالة الاحتلال، ينبغي أن نفكر أولًا بمدى كلفته (...) النضال السلمي كان أفضل بكثير».
لقد تعمّدتُ، في ما سبق، إيراد المقتطفات من حديث مروة من دون تدخّل لكي يستنتج القارئ طبيعة المواقف الفكرية المستجدّة لديه، وهي بمقدار ما تثير التساؤلات عن قدرة التحوّل الفردية من موقعٍ الى نقيضه بالنسبة إلى شخصية وصلت لتحتلّ موقع الرجل الثاني في حزب عريق بنضاله وغني بتضحيات مناضليه، فإنها تعبّر عن خطّ فكري وسياسي تبلور بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وعبّر عنه، وبدرجات متفاوتة، عدد من الشخصيات القيادية في الحزب الشيوعي. هكذا، وجد جسم الحزب نفسه في لحظة تاريخية وكأنه من دون رأس مخطط، فيما يشبه الانقلاب تماماً كما حدث في الحزب الشيوعي السوفياتي. وقد يكون من غير المنطقي طرح السؤال: هل كان من الممكن تبلور هذا التيار، الذي عبّر عنه عدد من القيادات الحزبية وانعكس على جسم الحزب، لو لم يحصل الانهيار السوفياتي. وبكلام آخر، ومن دون استخدام الاحتمال التاريخي، هل بدأت حقاً أزمة الحزب الشيوعي في التسعينيات مع المؤتمر السادس أو أن جذورها تعود الى أبعد من ذلك، وربطاً بأزمة حركة التحرر العربية، وبالخيارات السياسية الداخلية وبالسقوف التي رفعتها الحركة الوطنية في ظل وضع إقليمي يميل لمصلحة الرجعية واليمين، وهل الأصول غير العمالية لهذه القيادات لعبت دورها في هذا الانحراف؟
بالإضافة الى ذلك، كان من الطبيعي أن يثير انهيار التجربة الاشتراكية السوفياتية الأسئلة على مستويي النظرية والممارسة، وردود الفعل على ما جرى تراوحت بين حدّين: تجاهل كل ما جرى وكأنه لا حاجة لإجراء إعادة تقويم، والتخلّي عن كل المواقع النظرية الماركسية اللينينية ولعن الماركسية.
وإذا كانت الأيديولوجيا الرأسمالية قد نجحت في استثمار انهيار المشروع السوفياتي بما يسهّل فرض الهيمنة المطلقة للإمبريالية الأميركية وتسويق مقولة نهاية التاريخ لفرانسيس فوكوياما، فإن أزمة عام 2008 أظهرت بما لا يترك مجالاً للشكّ أن ديناميكية الصراع التي كشفها منظّرو الحركة الشيوعية لا تزال هي ذاتها، وأنه بعد انهيار المعسكر الاشتراكي اشتدّ هجوم رأس المال على قوة العمل، وازداد وضع مئات ملايين الكادحين في العالم سوءاً، وما نشهده اليوم يؤكد بشكل حاسم أن الليبرالية، في ظل ظروف الرأسمالية المعولمة، ليست سوى الوجه الناعم لأيديولوجية الاستغلال بأبشع أشكاله. وما الكلام عن مقاومة الاستعمار والإمبريالية بالطرق السلمية إلا ثرثرات في غيوم الأحلام البورجوازية، وأي تغييب لمفهوم الصراع الطبقي ليس سوى استسلام سياسي مطلق في حقل الصراع الأيديولوجي، تتجلّى نتائجه في خيارات سياسية تخدم بشكل كلّي مشاريع الهيمنة الإمبريالية.
وفي النهاية، يبقى مستغرباً أن يبني عضو مكتب سياسي في الحزب الشيوعي أسئلته عن الأزمة وطرق الخروج منها، وهي مشروعة وضرورية، بالتقاطع مع أحد ممثلي الليبرالية والذي كان لفترة غير قصيرة الرجل الثاني في الحزب، كما تبقى أصعب التساؤلات وأكثرها محورية تتمثل في تحديد هوية الحزب.
* أستاذ جامعي