لا تترك مشيخات الخليج الفارسي أي فرصة كانت لإثبات ولائها المطلق لأسيادها في لندن وواشنطن. ولا عجب، فهي من بقايا اتفاقات سايكس ـــ بيكو ومعاهدة الصلح في باريس عقب انتهاء حرب اللصوص العالمية الأولى التي وضعت شرط الاعتراف والموافقة على «إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين» ضمن بنودها. وكلنا نعلم الآن أن عملاء بريطانيا وفرنسا في بلاد الشام والعراق ومشيخات الخليج، وفي مقدمتهم آل سعود، وافقوا على ذلك، بل إنهم رحّبوا به. وإذا كان تواطؤ بقايا تلك الأنظمة بقي مكتوماً لفترة طويلة، فقد بدأ أخيراً يظهر في الدوحة والرياض ومسقط وأبو ظبي إلى العلن على نحو غير مسبوق من الوقاحة والصفاقة بعدما أتاهم الأمر من حُماتهم.لقد بيّنا في منابر مختلفة أن كل نظام في هذه المشيخات الكاريكاتورية وغيرها يواجه مشكلة يسعى إلى حلها على حساب القضية الفلسطينية. هكذا فعل أنور السادات عندما باع فلسطين (ومصر) مقابل استعادة سيناء منقوصة السيادة. وهكذا تفعل بقية أنظمة الرجعية العربية المرتبطة ارتباطاً عضويّاً بالسيّد في «10 داوننغ ستريت» وفي البيت الأبيض.
لكننا نذهب أبعد من هذا للقول إن متابعة ولادة أنظمة الخليج الكاريكاتورية كافة وسياساتها توضح أنها أقيمت أصلاً لحماية النظام الاستعماري في المنطقة، وخادماً طيّعاً لسياساته هناك. فقد جمّعت بريطانيا بعض العشائر الأعرابية التي لا أصل لها، ولا تعرف ارتباطاً وطنياً أو قومياً وحولتهم إلى كيانات سياسية تأتمر بأمرها، أي إن تلك الكيانات أقيمت أصلاً لحماية النظام الاستعماري في المنطقة ولدعمه، بعدما لم يعد بإمكان بريطانيا عمل ذلك لأنها خرجت مفلسة من حرب لصوص الغرب العالمية الثانية ومديونة لواشنطن بمليارات الدولارات؛ سنعود إلى هذا الموضوع ضمن عرضنا في ملحق «كلمات» لمؤلف جديد عن هذه المسألة. وعندما صدرت الأوامر لمجلس التآمر في الخليج بإشهار تآمره على قضية العرب الأولى، قضية فلسطين، نفّذوا ذلك، ليس من دون تردد فقط، بل وأيضاً بحماسة منقطعة النظير، وهو الأمر الواضح لأي متابع للأحداث ذات الصلة.
لقد تبيّن لكل من يريد أن يرى الأمور على حقيقتها الدور التخريبي والتدميري الذي مارسته تلك الأنظمة في كل من العراق وسوريا واليمن وليبيا، بل إن أبواقها الإرهابية على شاكلة مفتي الفتنة و«الناتو» وزملائه من المفسدين في الأرض ترقى إلى التحريض على الكراهية وارتكاب المذابح الطائفية والمذهبية، بل حتى ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، عندما تنظر المؤسسات الدولية ذات العلاقة في الأمر، وهو من دون شك آت.
في الحقيقة إن سياسات مشيخات الخليج الفارسي الكاريكاتورية التخريبية والدموية في الداخل والخارج، التي صاغها لهم أسيادهم في واشنطن ولندن وتل أبيب، تتماشى تماماً مع طبيعتهم الأعرابية التي لا تعرف أمراً في الدنيا سوى الغزو والنهب والقتل. فعندما يقرأ المرء سير أولئك الحكام، ومن سبقهم أيضاً، سيظن أنه يقرأ في سجل جنائي أو إجرامي. فكلمة السر في تلك السير كافة هي التآمر والقتل والنهب، ولا أي شيء آخر: الأخ يقتل أخيه أو يطرده من الحكم بعدما صدرت له الأوامر من لندن، أو يطرد أبيه من السلطة كما فعل حكام الدوحة ومن قبلهم الحسين بوالده الملك طلال، والابن يقتل أبيه، ويسجن أمه، والواحد منهم يتآمر على أعمامه وأبناء أعمامه ويسجنهم ويستولي على أموال(هم)، ويعذبهم ويقتل منهم، ومنهم من يطرد أبناءه من مواقع السلطة أو يقتلهم، بل حتى يخطف حلفاءه ويعتدي عليهم ويسجنهم... سجلهم الإجرامي حافل ولا نهاية له.
لقد قامت تلك الكيانات بابتداع مختلف الأساليب لتدمير بلاد الشام وإخضاعها لواشنطن وتل أبيب، لأنها أنظمة كاريكاتورية أسّسها الاستعمار البريطاني، وهو يعلم مدى حقد أولئك المشايخ وأذنابهم الذين لا أصل لهم على مراكز الحضارة. لقد أرادوا تدمير الحواضر العربية التي نشرت العلوم والفنون ومنها انطلقت الحضارة العربية ــ الإسلامية، حتى يمرروا ادعاءتهم الغبية مثلهم عن عراقتهم المزعومة، كما فعلوا أخيراً في جزيرة سقطرى، مع أن تاريخ تلك الجزيرة معروف للقاصي والداني.
لكننا نراهم الآن يعودون مهزومين إلى دمشق، كما عادوا من قبل إلى بغداد، وكما اضطروا أخيراً إلى الانصياع في اليمن بعدما تلقوا الهزيمة المنكرة تلو الأخرى على أيدي بضعة رجال من أبناء اليمن البررة. إزاء هذه التطورات، يطل علينا أحد المتحدثين باسم شعبة غرب الخليج الفارسي في قسم الخليج الفارسي التابع لدائرة غربي آسيا في الخارجية البريطانية، وهو بمرتبة وزير دولة للشؤون الخارجية في مشيخات الإمارات المتآمرة والمتصارعة، واسمه أنور قرقاش، المعروف في وسائل التواصل الاجتماعي كونه وقواق الإمارات، ليتبنّى مقالة صدرت في مجلة «ذا سبكتاتر» الإنكليزية، تطالب بوقف الحملات على محمد بن سلمان بخصوص قضية الصحافي المغدور جمال خاشقجي، مذكرة بدوره في دعم كيان العدو الصهيوني والاعتراف «الشجاع» (اقرأ الوقح) بادعاءات أحقية (!) بمطالب اليهود في فلسطين.
يجلب ألا نفاجأ بعلنية هذه المواقف لأنها بديهية عقب هزيمة مشاريعهم الظلامية التخريبية في اليمن وبلاد الشام والمغرب العربي؛ فها هم يستنجدون بأسيادهم القدامى والجدد لإنقاذ عروشهم القصبية التي أوقعوها في مآزق داخلية وخارجية بسبب شرورهم. لكنهم سيهزمون مجدداً في فلسطين، كما هزموا من قبل في العراق وسوريا واليمن، وسيحاسبون، أفراداً وكيانات على جرائمهم، وذلك اليوم آتٍ لا شك فيه.