إثر سقوط الرئيسين التونسي والمصري، وبدء الانفجارين اليمني والليبي، كان هناك توقع عند المعارضة السورية بقرب حدوث انفجار سوري قريب. لهذا قامت الأمانة العامة لـ«إعلان دمشق» بإصدار بيان في 25 شباط 2011 دعت فيه «السلطة السياسية المسؤولة عن حكم البلاد لتحمل مسؤولياتها الوطنية في هذه الظروف الدقيقة واتخاذ موقف جريء من قضية التغيير الوطني الديموقراطي المطروحة على جدول أعمال بلادنا»، كما قام البيان بـ«دعوة جميع قوى المعارضة على أمل اللقاء في لجنة وطنية للتنسيق من أجل التغيير».عندما حصلت الأزمة السورية بدءاً من درعا، في 18 آذار 2011، كانت جميع تحالفات المعارضة السورية (التجمع الوطني الديموقراطي، تجمع اليسار الماركسي- تيم، المجلس السياسي الكردي، مع مضامين بيان «إعلان دمشق»: حوار بين السلطة والمعارضة للوصول إلى اتفاق مشترك لرسم معالم التغيير في أوضاع البلاد، مع موافقة على الدعوة للجنة تنسيق للقوى المعارضة. لم تكن بيانات جماعة «الإخوان المسلمون» في سوريا، في نيسان 2011 خارج هذين الإطارين. في ضوء ذلك، تمت بلورة وثيقة وزعت في 9 أيار على مختلف الأطر التحالفية السورية المعارضة وعلى أحزاب وشخصيات مستقلة تحت عنوان: «نحو ائتلاف عام للتغيير الوطني الديموقراطي».
في 15 أيار، قدم «إعلان دمشق» طرحاً جديداً كسر فيه إجماع المعارضة: «الحديث عن الحوار في ظل إصرار النظام على خياره الأمني يعتبر موقفاً خطأ، كما أنه نوع من الانتحار السياسي». على أساس وثيقة 9 أيار، جرت مفاوضات استمرت حتى الخميس 23 حزيران لعقد اجتماع جامع للمعارضة السورية. وزعت دعوات للتحالفات والأحزاب (37 مندوباً) وللشخصيات المستقلة (35 شخصاً). جاء نصف المستقلين المدعوين لاجتماع في السبت 25 حزيران جرى في بيت الأستاذ حسن عبد العظيم في حي ركن الدين في دمشق. امتنع «إعلان دمشق» عن الحضور، فيما انقسمت أحزاب «التجمع» بين الحضور والغياب، وحضرت أحزاب وحركات «تجمع اليسار الماركسي»، وأحد عشر حزباً كردياً وقع منها خمسة على وثيقة تأسيس «هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الوطني الديموقراطي» التي قالت إنه توجد «انتفاضة» في سوريا ما بعد 18 آذار 2011، وإن البلاد تمر في حالة «أزمة وطنية» ودعت لـ«مؤتمر وطني عام» من أجل «التغيير الوطني الديموقراطي».
في «المجلس الوطني العام» الذي عقدته «هيئة التنسيق» يوم 17 أيلول في بلدة حلبون، طرحت الوثيقة المسماة «الانتفاضة ـــ الثورة» اللاءات الثلاث: لا عنف، لا تدخل عسكرياً، لا طائفية، مع طرح جديد: «مرحلة انتقالية تتولى فيها السلطة التنفيذية حكومة وحدة وطنية». وفي البيان الختامي، جرى تبني مصطلح «الثورة» لكن مع محتويات تضمنها البيان أيضاً: «التغيير الوطني الديموقراطي بما يعنيه من إسقاط النظام الاستبدادي الأمني»، بالتزاوج مع عبارة «مرحلة انتقالية تجري مصالحة تاريخية» بكل ما يعنيه هذا وذاك من أن المقصود، مع الوثيقة التأسيسية للهيئة، هو تغيير وطني ديموقراطي عبر اتفاق مصالحة مع الجهاز السياسي للسلطة.
بين تموز وأيلول، اقترب «إعلان دمشق» من «الإخوان» في ثلاث قضايا: الدعوة لإسقاط النظام، طلب الحماية الدولية والتدخل العسكري الخارجي، تأييد العنف المعارض. فشلت محادثات الدوحة بالأسبوع الأول من أيلول بين «الإعلان» و«الإخوان،» وبين «هيئة التنسيق» بسبب هذه القضايا الثلاث، ثم ذهبا لتشكيل «المجلس الوطني» في إسطنبول يوم 2 تشرين الأول، من دون «هيئة التنسيق» التي جاء السفير الأميركي روبرت فورد إلى مكتبها يوم الخميس 29 أيلول من أجل إقناعها بالانضمام إلى محادثات تشكيل ذلك المجلس، وهو ما رفضته الهيئة.
في بيان تأسيس «المجلس» يوجد التالي: «الثورة»، «إسقاط النظام القائم»، «الحماية الدولية»، «المجلس الوطني يمثل الشعب السوري». من هذا المنطلق، رفض «المجلس» كل المبادرات التي كانت تتضمن التسوية بين السلطة والمعارضة، من «مبادرة الجامعة العربية» في 2 تشرين الثاني 2011، و«خطة كوفي عنان» في 21 آذار 2012، و«بيان جنيف 1» في 30 حزيران 2012، فيما قبلت «الهيئة» كل ذلك.
تابع «الائتلاف الوطني»، المشكل في 11 تشرين الثاني 2012، مسيرة «المجلس» بتأكيد نص اتفاق تأسيسه على «إسقاط النظام» و«عدم الدخول في حوار أو مفاوضات مع النظام القائم». بالتوازي مع كل ما سبق، اتجهت الأحزاب الكردية، ما عدا «الاتحاد الديموقراطي ـــ PYD» الذي بقي في «هيئة التنسيق» حتى الشهر الأول من 2016، و«الديموقراطي الكردي السوري»، إلى مسار خاص بعيداً من المسار العام للمعارضة السورية بدءاً من تشكيل «المجلس الوطني الكردي» في 28 تشرين الأول 2011، الذي دعا إلى «اللامركزية السياسية» و«حق تقرير المصير ضمن وحدة البلاد» بما تعنيه العبارتان من «حكم ذاتي» أو «فيدرالية» أو« كونفيدرالية».
عند أغلب المعارضين هناك تفضيل لمسار جنيف على الحوار الداخلي


عند بعض الماركسيين المعارضين مثل فاتح جاموس، أحد مؤسسي «رابطة العمل الشيوعي» عام 1976 ثم «حزب العمل الشيوعي» عام 1981، وهو الذي لوحق ستة أعوام قبل أن يعتقل عام 1982 ليقضي ثمانية عشر عاماً في السجن، كان هناك رأي سلبي في ما جرى بسوريا ما بعد 18 آذار 2011 خالف به أكثرية المعارضين، ومنهم رفاقه في «العمل الشيوعي» الذي كان أحد الأحزاب المؤسسة لـ«هيئة التنسيق». وافق جاموس على أن هناك «أزمة وطنية سورية» لكنه رأى أن ليس هناك من «انتفاضة» أو «ثورة» أو «وضع ثوري» بل هناك «فاشية إسلامية» تقود «ثورة مضادة»، وأن هناك «أولوية في هزيمة الفاشية الإسلامية» بالقياس إلى المهمات الأخرى التي منها «التغيير السلمي» الذي «يجب إجراؤه» بعد «دحر وهزيمة الفاشية الإسلامية»، وأن هذا «التغيير السلمي» لا يتم «سوى عبر طريق الحوار الداخلي السوري ـــ السوري»، وليس عبر مسار جنيف الدولي.
عند الماركسيين في تراثهم التقليدي تعني مجابهة «الفاشية» الاصطفاف مع كل القوى التي تقف في وجهها ومنها اليمين. عملياً، عبر هذه الطروحات التي قدمها جاموس تلاقى معه العديد من المعارضين الذين سجنوا ما بين 1970-2000 من «حزب العمل» و«حزب البعث الديموقراطي» و«الحزب الشيوعي ــــ المكتب السياسي»، ولو أنه ليس كلهم من انتظم معه في «تيار طريق التغيير السلمي» الذي تم تأسيسه أوائل 2012، والذي عملياً كانت مواقفه بالسنوات الست ونصف السابقة أقرب إلى مواقف السلطة وتقاطع معها في القضايا الرئيسية. كان رهاب الإسلاميين، الذي يشبه رهاب الشيوعية عند ماكارثي بالخمسينيات في واشنطن، محدداً رئيسياً للمواقف والاصطفافات عند هؤلاء، وهو ما لم يوافق عليه أغلب المعارضين السوريين، بمن فيهم يساريون ماركسيون وعروبيون، في أزمة 2011-2018.
في تموز 2017، انفك تحالف فاتح جاموس وقدري جميل في «جبهة التغيير والتحرير» بسبب إصرار الدكتور جميل على مسار جنيف والقرار 2254، وهو الذي انتقل إلى صفوف المعارضة في نيسان 2014 عبر موقفه من الانتخابات الرئاسية بعد أن كان بين حزيران 2012 وتشرين الأول 2013 نائباً لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية.
مع ميل التوازنات السورية في غير مصلحة المعارضة منذ 2016 هناك انزياح عند «الائتلاف» نحو خط التسوية. وفي مقابلة رياض الترك مع «القدس العربي» في أيلول 2018 هناك اعتراف بفشل مراهناته الأربع على التدخل الخارجي والعسكرة والتحالف مع الإسلاميين وإسقاط النظام. هناك انزياحات نحو تلاقيات جديدة كما في لقاء بلدة عين عيسى في 28-29 تشرين الثاني 2018 عندما تلاقى المستبعدون من مسار جنيف بفعل الفيتو التركي، أي «حزب الاتحاد الديموقراطي ــــ PYD»، مع الرافضين لمسار جنيف، أي جاموس. وقد لوحظ منذ الصيف الماضي بدء الدعوة عند «حزب الاتحاد الديموقراطي»، وواجهته «مجلس سوريا الديموقراطية»، إلى حوار سوري ـــ سوري يعقد في دمشق بعيداً من مسار جنيف.
عند أغلب المعارضين السوريين ما زال هناك تفضيل لمسار جنيف، يبنى على الواقعية السياسية والنزعة العملية، على الحوار السوري الداخلي ما دام هناك تدويل للأزمة السورية وتحكم عند موسكو وواشنطن، ومعهما أنقرة وطهران، بالأزمة بدءاً من 2012.
* كاتب سوري