الاحتجاجات الشعبية التي اجتاحت أحياء باريس وليون ومرسيليا وغيرها من مدن وبلدات فرنسا أكدت أن مطلب المساواة لم يمت في بلد ثورة 1789. فالذاكرة الفرنسية، على عكس البريطانية والألمانية والإسبانية والإيطالية، حيث تركت عملية إعادة إنتاج الأعراف الأرستقراطية شديدة التراتبية بصماتها على البنى العائلية، ما زالت تتوق إلى اليوتوبيا التي جسدها الشعار الثلاثي المكتوب على مداخل المباني الرسمية: «حرية، مساواة، إخاء».من أول تداعيات حركة «السترات الصفراء» أنها أعادت فتح صفحة جديدة من تاريخ كان فرنسيس فوكوياما وغيره من الأيديولوجيين قد أعلنوا نهايته. تعيد هذه الحركة الاعتبار لتاريخ فرنسا الذي نحب، للفرادة السياسية والاجتماعية والثقافية، للمؤتمر الوطني بإشراف روبسبيير، لجنود العام الثاني بعد الثورة، لـ«بؤساء» ثورات 1830 و1848، لكومونة باريس والمجلس الوطني للمقاومة.
الاحتجاجات التي منحت فرنسا مجدداً «معنى للتاريخ» منذ شهرين لها صلات عميقة بعملية البناء الوطني البطيئة التي بدأتها الرهبانيات في القرن الحادي عشر. لا يمكن اختزال الاحتجاجات إلى بُعد أحادي وظرفي، أي رفض المزيد من الضرائب، لأنها تعبر أيضاً عن حالة من انعدام الثقة المتكررة من المناطق الطرفية والمهمشة تجاه المراكز الحضرية المركزية والعاصمة. هذا التناقض الذي خلص إليه عالم الجغرافيا فرنسوا غرافييه عام 1947 في كتابه «باريس والصحراء الفرنسية» ما زال قائماً إلى اليوم. ففي السنوات العشر الأخيرة، هجرت مكاتب البريد والمدارس ومحطات القطار والمستشفيات وغيرها من مؤسسات الخدمات العامة الأرياف الفرنسية، لتتمركز في التجمعات الحضرية الكبرى. البعد الثاني الذي تعبر عنه «السترات الصفراء» هو تمرد المقاطعات القديمة والمناطق الطرفية ضد باريس، عبر استهداف مواقع رمزية كساحة قوس النصر وجادة الشانزيليزيه.
الدرس الثالث لهذه الانتفاضة الاجتماعية، التي ليس لديها قيادة فردية أو جماعية، والتي لم تتنظم عمداً بشكل هرمي، والمستقلة عن جميع الأحزاب والنقابات، هو إعادة الاعتبار للصراع الطبقي كما شرحه ماركس وأنجلز في البيان الشيوعي. بعض الشعارات على اليافطات، وفي التظاهرات، وعلى الحواجز، شديدة الوضوح: «قبل نهاية العالم، ما يشغلنا هو نهاية الشهر»، أو «يا ماكرون، توقف عن رفع أسعار الوقود والماء والكهرباء». في هذا السياق، تنبغي إعادة قراءة كتاب المؤرخ السوفياتي بوريس بورشنيف، المتخصص بالانتفاضات التي سبقت ثورة 1789: «الهبات الشعبية في فرنسا من 1623 إلى 1648». لقد أدى نضال الجماهير الريفية إلى انعقاد المؤتمرات العامة التي سرعت عملية القضاء على الملكية.
هذا الصراع الطبقي الجديد وثيق الصلة بأشكال المقاومة المختلفة للعولمة المعاصرة. فالعولمة المتوحشة، الناجمة عن نهاية الحرب الباردة والثورة الرقمية وسطوة الرساميل المالية على الاقتصاد، تدمر الدول والخدمات العامة وسياسات التوزيع الاجتماعي، وتؤسس لـ«عالم جديد» يزيد غنى الأغنياء وفقر الفقراء. تحتج «السترات الصفراء» ضد عالم يعمل على إقصائهم مع أبنائهم وحتى أحفادهم من جميع أنماط العمل المأجور والمواطنة والكينونة الاجتماعية. ولأنهم باتوا «غير مرئيين»، اختار أفراد هذه «الدهماء» المعاصرة ارتداء السترات الصفراء الفوسفورية لتحدي عتمة العالم الجديد، الساعي إلى حجبهم، لإقصائهم إلى أطراف الجادات الرقمية، وانتزاع جميع مقومات إنسانيتهم.
أخيراً، إن صمَم وازدراء السلطات التنفيذية الفرنسية بجميع مكوناتها حيال الاحتجاجات يدفعان إلى تسعير الصراع الطبقي الجديد. استقبل ممثلين عن السترات الصفراء وزيرٌ للبيئة شديد الغباء، ومن قبل رئيس وزراء متوحد عازم على رفض تقديم أي تنازلات. أما وزير الداخلية، فاتهم الحركة بأنها خاضعة لسيطرة اليمين المتطرف، ولم يجد الناطق الرسمي باسم الحكومة، أفضل من إدانة أعمال العنف... يتجاهل الجميع السؤال الوجيه عن أسباب تجذر الصراع.
وزير سابق في عهد فرنسوا ميتران أسرّ بأن ماكرون كان ينبغي «أن يرسل وزير الخارجية إلى قمة الدول العشرين في بوينس أيريس، وأن يبقى في باريس ليرأس خلية أزمة. كان عليه استقبال وفد السترات الصفراء بنفسه، السبت صباحاً، قبل يوم جديد من الاحتجاجات، ليعلن إرجاء أو حتى إلغاء رفع أسعار الديزل، وعقد مؤتمر عام في بداية العام المقبل. كانت أفضل فرصة متاحة لتهدئة الأوضاع قبل أعياد آخر السنة. لكن السلطة التنفيذية الحالية متغطرسة بشكل لا سابق له. هي ضائعة تماماً وتجتر حديثها عن القيم الأوروبية أمام جموع لم تعد تعرف كيف تؤمن لقمة عيشها حتى آخر الشهر...».
في الواقع، وعلى مستوى أعم وأعمق، نشهد أزمة متفاقمة للديموقراطيات البرلمانية القديمة التي تعطل نظامها التمثيلي وملأته الشروخ. لم يعد النواب والشيوخ والوزراء يتمتعون بثقة من يمثلون، الذين أصبحوا يرونهم مجموعة من المستفيدين المرتبطين بنظام منفصل عن البنى الوطنية غايته الوحيدة إعادة إنتاج نفسه بمعزل عن الهموم اليومية للشعوب.
منذ بداية ثمانينات القرن الماضي، حذر عالم الاجتماع جان بودريار من خطورة «اضمحلال السياسة»، وحلول مجموعة من المستشارين الإعلاميين للمسؤولين تدريجياً في مكان ممثلي الشعب. حالة التوحد السائدة في أوساط القيادات والنخب السياسية والإدارية الفرنسية أضحت ظاهرة للعيان يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد مشاهد معارك الشوارع السبت الماضي. على رغم أن ماكرون يجد نفسه في دوامة ولّدها اضمحلال السياسة وتوحده المتعاظم، ومن معرفته المسبقة بالنتائج السلبية التي سيحصدها في الانتخابات الأوروبية المقبلة، في أيار/ مايو من العام المقبل، مع ميركل وغيرها من ممثلي «العالم الجديد»، فإنه ماضٍ في الدفاع عن السياسات نفسها.
عناد السلطات التنفيذية وعماها لهما نتائج وخيمة، لأنهما يحفزانها على تجاهل مطالب الشعوب. «الشعبوية» كانت التسمية المعتمدة لتيار فكري وسياسي روسي مهم مهّد موضوعياً لثورات 1905 و1917، لكنه اكتسب اليوم مضموناً سلبياً يستخدم للإشارة إلى الحركات السيادية والقومية، وحتى اليمينية المتطرفة.
عبر إصرارهم على تجاهل معاناة «فرنسا العميقة»، وعلى عدم الاعتراف بأن «السترات الصفراء» تعبير أصيل عن الصراع الطبقي الجديد، وعن انبعاث التوق إلى المساواة، يعجل إيمانويل ماكرون وفريقه غرق فرنسا وحتى أوروبا في خضم أزمة هي بين الأخطر في تاريخها المعاصر.