«العالم مكان شديد الخطورة!». بعض التأملات في تصريح دونالد ترامب عن اغتيال جمال خاشقجي في وقت يبدو فيه أنّ وليّ العهد السعوديّ سيحضر قمّة العشرين في بوينس آيرس نهاية الشهر.

أدلى الرئيس الأميركي دونالد ترامب تصريحه بشأن الاغتيال. لكن «المهمّة» أضحت أكثر صعوبة بعدما كشفت «واشنطن بوست» معلومات عن اقتناع «سي آي إيه» بتورط وليّ العهد في هذه الجريمة، ما يؤكد جميع المعلومات التي وفّرتها تركيا. يشبه نصّ تصريح ترامب نصّاً مدرسيّاً، إذ نتردّد في توصيفه: وقاحة، عنجهيّة، استهتار بالحقيقة، لكن المؤكد أنّه سيكون حدثاً بارزاً في حوليات تاريخ الدبلوماسيّة.
منذ البداية، يسعى العنوان «العالم مكان شديد الخطورة!» لتغيير المشكل، حيث لم يعنِ الاغتيال الوحشيّ لخاشقجي، بل... إيران. وفي واقع الأمر، يبدأ الرئيس الأميركيّ نقده اللاذع لهذا البلد: «إيران مسؤولة عن حرب دمويّة بالوكالة ضدّ العربيّة السعوديّة في اليمن، وتسعى لزعزعة التجربة الديمقراطيّة الهشّة في العراق، وتدعم جماعة حزب الله الإرهابيّ في لبنان، وتدعم الديكتاتور بشار الأسد في سوريا (الذي قتل الملايين من مواطنيه)، والكثير غير ذلك. وقد قتل الإيرانيّون العديد من الأميركيّين وأبرياء آخرين على امتداد الشرق الأوسط. تقول إيران، بقوّة كبيرة: الموت لأميركا! والموت لإسرائيل! تُعَدّ إيران المموّل العالميّ الأوّل للإرهاب».
يمكن أن نذكّر بحقائق يبدو أنّ الرئيس قد نسيها: السعوديّة هي من أطلقت الحرب على اليمن؛ التدخّل الأميركي في العراق هو ما زعزع البلاد؛ إنْ قتل الإيرانيّون أميركيّين، فإنّ الأخيرين قد شنّوا حرباً دائمة على بلادهم؛ فقط أميركا وإسرائيل هما من يعتبران إيران «المموّل العالميّ الأوّل للإرهاب»... إلخ، لكنّنا نعلم أنّ الرئيس الأميركيّ لا يعرف تاريخ المنطقة، وليس خبيراً في الجيو-سياسة. غير أنّه يمكننا التشديد على نقطة: فيما يسعى ترامب لتعبئة العالم العربيّ وإسرائيل ضدّ إيران، البلد الذي يرمز إلى «الشر» بالنسبة إليه، سيكون من الصعب أن يدّعي حيازة أيّ «تفوّق أخلاقيّ» على عدوّه إذا أيّد السياسة السعوديّة، حتى وهو يعرف أنّه يمكنه التعويل على الدوائر الموالية لإسرائيل في واشنطن وعلى حكومة تل أبيب، الذين قدّموا، منذ شهرين، الدعم الأقوى لابن سلمان.
لكنّ ذلك ما فعله على امتداد النصّ، حيث أكد، على عكس كلّ الترجيحات، أنّ السعوديّة «ستنسحب طوعاً من اليمن إذا قبل الإيرانيّون بالرحيل». من غير النافع التعقيب طويلاً على هذه الكذبة، وعلى الطريقة التي أطلقت بها السعوديّة وحلفاؤها حرباً عدائيّة، ودمروا البلد، واستهدفوا المدنيّين، وجوّعوا الناس، ولا على حقيقة أنّ التورّط الحقيقيّ، لكن المحدود، للإيرانيّين في اليمن جاء ردّاً على ذلك التدخّل، حيث كان الحوثيّون يبحثون عن حلفاء.

من الصعب على الرئيس الأميركي أن يدّعي حيازة أيّ «تفوّق أخلاقيّ» على عدوّه


لكنّ ترامب يريد أن يكون «واقعيّاً»، وحريصاً على المصالح الاقتصاديّة للولايات المتحدة. حيث يؤكد أنّ السعوديّة وافقت، عند زيارته لها العام الماضي، على شراء سلع أميركيّة بقيمة 450 مليار دولار، منها 110 مليارات لتجهيزات عسكريّة. لكن ظهر النفخ في هذه الأرقام، وقد كشفت الصحافة الأميركيّة ذلك في عدّة مناسبات، حيث تشمل عقوداً موقّعة خلال حقبة أوباما، وهي مجرّد إعلانات نيات. قدّم ترامب أيضاً أرقاماً متخيّلة حول عدد الوظائف التي ستنتج من العقود، وصلت إلى حدّ مليون وظيفة –تشغّل كامل صناعة التسليح أقلّ من 400 ألف شخص! أي إنّ تلك أخبار زائفة حسب عبارة ترامب. لكن حتى لو وجدت تلك الأرقام، هل تبرّر دعماً غير مشروط للرياض؟

«بلدنا لا يُقرّ» هذه الجريمة
من البليغ أنّ اليوم الذي أدلى فيه ترامب بهذا التصريح هو اليوم نفسه الذي كشفت فيه «هيومن رايتس ووتش»، في بلاغ، عن ارتكاب أفعال تعذيب ضدّ السعوديّين الموقوفين حديثاً، وهي ممارسة سائدة بالفعل في المملكة. على الرغم من كلّ هذه النتوءات، لا تزال السعوديّة «حليفنا» في مواجهة إيران، البلد الذي قرّر الرئيس الأميركيّ إعلان الحرب عليه! يشبه ذلك ما قاله الرئيس فرانكلين روزفلت عن الديكتاتور النيكاراغويّ أناستازيو سوموزا، أنه «قد يكون ابن عـ...، لكنّه ابن عـ... تابع لنا»، كذلك نذكر الدعم الولايات المتحدة لنظام الشاه في إيران.
يحلّل ترامب الجريمة ضدّ خاشقجي من هذا المنظور: «بلدنا لا يقرّها». لا يقرّها؟ يبدو ذلك أضعف من أن يمثّل إدانة. ويلتقط ترامب مزاعم الرياض التي تعتبر أنّ خاشقجي «كان (عدواً للدولة) وعضواً في جماعة الإخوان المسلمين»، وهي أكاذيب تخدم تلطيف حدّة الجريمة. وماذا عن المسؤوليّة عن هذه الجريمة؟ نبلغ هنا مرحلة مذهلة: «ينفي الملك سلمان ووليّ العهد بشدّة علمهما بتخطيط وتنفيذ موت السيد خاشقجي. تستمر أجهزة استعلامنا في تقييم جميع المعلومات، لكن من المحتمل جداً أن يكون ولي العهد على علم بهذا الحدث التراجيديّ – قد يكون وقد لا يكون!».
لأنّه لا يمكن ترامب أن ينفي ما سرّبته الصحافة الأميركيّة: «السي أي إيه» مقتنعة بمسؤولية ابن سلمان، لكنّ الرئيس الأميركيّ يتعامل مع ذلك كتفصيل لا يجب أن يفسد العلاقات مع السعوديّة، «لقد كانوا حليفاً كبيراً لنا في صراعنا الشديد الأهميّة مع إيران. تنوي الولايات المتحدة أن تبقى شريكاً ثابتاً للسعوديّة للدفاع عن مصالح بلادنا، ومصالح إسرائيل وجميع الحلفاء الباقين في المنطقة. هدفنا الأساسيّ القضاء نهائيّاً على تهديد الإرهاب في العالم أجمع!». ويسرّ ترامب معاقبة بعض المنفذين الذين اختارتهم الرياض والذين تتمثّل جريمتهم في تنفيذ توجيهاتها.

ابن سلمان في قمة «العشرين»؟
هل سيتبع الكونغرس الرئيس في تبرئة السعوديّة؟ يستبعد ترامب مسبقاً أيّ مقترح لا يكون «متوافقاً مع سلامة أميركا وأمنها الكامل»، خاصّة أنّ المملكة، يضيف، منفتحة «على مطالبي للحفاظ على أسعار النفط في مستويات معقولة»، ثمّ يستخلص: «في عالم شديد الخطورة، أسعى لضمان دفاع الولايات المتحدة على مصالحها القوميّة وتتحدى بشدّة البلدان التي تريد الشر لنا. ببساطة، هذا يسمى أميركا أولاً!». لكن حتى من وجهة نظر الواقعيّة السياسيّة الوقحة، هل هذه الحسابات سليمة؟ في ظرف سنوات حكم قليلة، أطلق ابن سلمان حرباً مدمرة ضدّ اليمن؛ فتح أزمة مع قطر؛ اختطف رئيس الوزراء اللبنانيّ؛ أوقف (وبلا شكّ عامل بقسوة جسديّة) مئات من المسؤولين السعوديّين ذنبهم عدم مولاتهم له على نحو مطلق؛ شدّد التوقيفات ضدّ جميع المعارضين. هل هذا الأمير غير المستقر حليف موثوق للولايات المتحدة؟ كثيرون في الولايات المتحدة، بمن فيهم ناس ضمن الدوائر العسكريّة والمخابراتيّة، يشكّون في ذلك.
بعد تصريحات ترامب، نتطلّع إلى ردود فعل الحكومات الأوروبيّة. وفيما أعلنت العديد من الدول نيّتها توقيف تسليم الأسلحة للسعوديّة، تواصل فرنسا ذلك، رغم أنّ كلّ شيء يدلّ على أنّها تستخدم ضدّ اليمن. وتبدو باريس مستعدة بالفعل لطيّ الصفحة ومواصلة شراكتها مع مملكة تُسهم سياستها في حرائق المنطقة. ستكون قمّة مجموعة العشرين في بوينس آيرس في الأرجنتين (بين 30 تشرين الثاني و1 كانون الأول) أول اختبار لوليّ العهد السعوديّ الذي أعلن ذهابه لها بعد تبرئته من ترامب. هل سيقبل ماكرون مصافحته؟
* مؤسس موقع ORIENT XXI، ومدير تحريره