كنت قد كتبت هذه المقالة قبل ساعات من إعلان التلفزيون السعودي الرسمي رواية الديوان الملكي حول مقتل جمال خاشقجي. يبرر البيان مقتل خاشقجي بأنه نتيجة اشتباك بالأيدي بينه وبين أشخاص كانوا في القنصلية، ويفيد بأن لا علم لولي العهد بالموضوع، وأنه لم يتخذ قراراً بقتله أو اختطافه (إنما هنالك أمر دائم لدى السفارات السعودية بإعادة المعارضين إلى المملكة)، كما يعلن البيان اعتقال 18 مشتبهاً فيهم وإقالة عدد من كبار مسؤولي جهاز الاستخبارات. تزامن هذا البيان ولحظة الكتابة مع بيانين يُمدح فيهما الإعلان السعودي ويصفه بأنه ذو مصداقية!البيان يعترف بأن هنالك أمراً دائماً بإعادة المعارضين، ولم يقل كيف، بل لم يأتِ على ذكر الجثة ومكانها، ثم انهالت التسريبات عبر وكالة «رويترز» في حملة تضليلية واسعة، لكن هذا لا يغيّر ما كتبته في مقالتي. بل ربما يجعلني أضيف في ضوء ما قاله البيان السعودي أن الموقف من البيان سيفجر مشادة بين السياسيين في واشنطن، وسوف يحاول دونالد ترامب اتهام معارضيه بأنهم يعملون ضد مصالح أميركا، والحفاظ على وضع العائلة السعودية الراهنة، وهو مطلب جاريد كوشنر، أي مطلب إسرائيل لأن محمد بن سلمان هو شريكها في صفقة القرن.
يجب ألا ننسى لحظة واحدة أن ترامب دخل البيت الأبيض بتخطيط ودعم من أثرياء يهود أميركا بناء على أوامر الحركة الصهيونية التي باتت مقتنعة بأن الوقت حان للانتقال من مرحلة الغزو المباشر لفلسطين إلى الهيمنة غير المباشرة على الشرق الأوسط، وأنها هي التي استخدمت الولايات المتحدة وتستخدمها الآن كلياً لتفتيت وتطويع الدول العربية المحيطة بها والبعيدة عنها، ولضرب إيران وإبعاد خطرها عنها، ولتكون شريك الإمبريالية الرئيسي في نهب ثروات العرب النفطية والغازية والسيطرة على أسواقهم.
ما يفعله ترامب الآن وما فعله منذ دخوله البيت الأبيض هو تلبية طلبات إسرائيل، وتنفيذ برامجها في الشرق الأوسط، في الوقت الذي أضرم فيه نيران النقاش الداخلي حول قرارات لم تنتج سوى الإضرار بمصالح الولايات المتحدة، وتحويل حلفائها الأوروبيين إلى أعداء وابتزاز الحلفاء والأعداء على السواء، كما أثار موضوع الهجرة وموضوع اتفاق باريس الحراري وخرج من اتفاق إيران النووي. تثير هذه القرارات الزوابع النقاشية لكن أحداً لا يناقش في مخالفة ترامب الاتفاق الدولي والاتفاقين والمعاهدات التي تحكم الصراع في الشرق الأوسط، وقرار نقل السفارة الأميركية إلى القدس، والاعتراف بالقدس «عاصمة لإسرائيل»، وإلغاء «الأونروا»، بل راح يستخدم حلفاءه من حكام المنطقة لفرض «صفقة القرن» التي هي تصفية للقضية الفلسطينية.
لا يفكر ترامب في تغيير الموقف من السعودية بل في تغيير الأشخاص


نحن عندما نذكر بهذه الأمور لا نقول إن ما تريده الصهيونية، وما تُفصله عبر ترامب سوف يسود، ولكن لنحدد باستمرار موقع ترامب، ونستند إلى ذلك في تفسير مواقفه، فأين تقع جريمة قتل خاشقجي في برنامج إسرائيل وترامب، وما هي حسابات الأرباح التي سيجنيها كل طرف من الأطراف الضالعة في القضية: القاتل أو المحقق أو الشاهد أو المهندس؟
أوردت قناة CNN نقلاً عن مصادر موثوقة في البيت الأبيض ليلة أمس خبراً مثيراً للاهتمام، يقول: كوشنر نصح ترامب بأن يتريث ولا يستعجل في اتخاذ مواقف من موضوع جمال خاشقجي. وتقول CNN إن كوشنر قال لترامب: «يجب أن تكون حذراً». التريث هو لإعطاء الوقت الكافي لمسرحية الإخراج، لكن «يجب أن تكون حذراً» تبدو لي كأنها تحذير لترامب من اتخاذ قرارات لا ترضي إسرائيل، إذ كان ترامب قد قال قبل هذا الخبر بدقائق: «يبدو أن خاشقجي مات، وستكون لذلك عواقب كبيرة إذا ثبت ضلوع المملكة السعودية في مقتله». جاء هذا في خضم الحملة الانتخابية النصفية للكونغرس، وفي ظل عرائض موقعة من شيوخ ونواب يطالبون ترامب بالكشف عن مصالحه المالية في السعودية ووقف مشاركة أميركا في الحرب على اليمن.
الملاحظ أن إسرائيل لم تأتِ على ذكر الجريمة، ولم يعلق أي مسؤول عليها، بل بقيت صلاتها مع السعودية وكوشنر متسارعة وفق تطورات الوضع، فالعائلة السعودية تلجأ إلى إسرائيل لتأمر كوشنر بالتصرف، وتضغط على ترامب خشية سيره في طريق سبق أن لوح به عندما طالب العائلة بثمن حمايتها قائلاً: «لولا حماية الولايات المتحدة للعائلة، لانهارت خلال أسبوعين»، أي أن ترامب لا يفكر في تغيير الموقف الأميركي من السعودية كحليف ضروري له في حربه المقبلة على إيران، بل يفكر في تغيير الأشخاص، وما سابقة قتل الملك فيصل إلا دليل على ما يمكن أن تفعله الاستخبارات الأميركية في الرياض. كذلك، إن تغيير الحاكمين في السعودية بآخرين من أبناء العائلة سوف يضر بالمخطط الصهيوني، فما تم التوصل إليه بين الصهاينة وسلمان وابنه قد يأخذ وقتاً أطول مع الذين سيخلفونه، ومن الأسلم للمخطط الصهيوني وعلى رأسه «صفقة القرن» أن يبقى سلمان.
يُشتم مما تنشره الصحافة الأميركية أن هنالك محاولة لإبعاد سلمان عن الجريمة، وهذا يعني أن من سيأتي قد يكون ولداً من أولاده، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحملة الإعلامية في الصحافة الأميركية تشنها صحف للصهيونية فيها يد طويلة كـ«نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست»، و«فوكس». لكن السؤال الجدير بالإجابة: ماذا تريد تركيا وما الدور الذي يلعبه رجب طيب أردوغان؟ لقد سبق لأردوغان أن سمح للطائرات الأميركية والإسرائيلية أن تستخدم الأجواء التركية لتدمير المفاعل النووي السوري في دير الزور، وفي بداية أزمة خاشقجي أفرج عن القس الجاسوس، وشغل العالم بتسريبات تهدف إلى الضغط على السعودية وربما أميركا.
جاءه بومبيو وبحث معه في المخرج، وعندما عاد بومبيو أعلن بعد اجتماعه مع ترامب: «يجب إعطاء التحقيق ثلاثة أو أربعة أيام»، وهذا ما طلبه كوشنر اليوم من ترامب، فأين هو التقاطع بين هذه الأطراف؟ حتماً سيكون تقرير التحقيق هو المستند، ولذلك سيكون التقرير دقيقاً في القول إن خاشقجي قتل بيد مجهول، وقد توافق السعودية على إدانة تصرف فردي من ضابط استخبارات يكون كبش فداء، ويخرج للملأ ليقول إن محمد بن سلمان لا علم له بذلك. تركيا ستجني مالاً وعلاقات مع الولايات المتحدة، لكن هل يعني ذلك أن آستانا وسوتشي قد وضعتا على الرف؟
لا شك أن هنالك خططاً لتفعيل الحرب وإطالة أمدها في سوريا والعراق، ولا شك أن هنالك خططاً تدبر لاغتيال قادة من حزب الله والمقاومة، وقد تغير الطائرات الإسرائيلية على أهداف محددة مستخدمة «كروز». إن هدف الصهاينة إنهاء قضية فلسطين، وهذا لن يتحقق، لذلك يفكرون في ضرب إيران وحزب الله و«الحشد»، وعلى المقاومة ألا تقف لتراقب وتنتظر بل أن تبادر. ماذا يدور في إدلب من خبايا؟ ماذا يخططون لشرق الفرات؟ كيف سيغلقون الحدود العراقية - السورية؟ جواب ذلك بالهجوم الدفاعي وليس غيره. بومبيو يقول يجب إعطاء أيام لاستكمال التحقيق، وكوشنر يطلب من ترامب التريث والحذر، وترامب يتصرف استناداً إلى ما هو متأكد منه وقاله علناً، أن خاشقجي قد مات مقتولاً، ولذلك يحاول أن يشرك الكونغرس في تحديد وتقرير رد الفعل آخذاً في الاعتبار أن أعضاء الكونغرس يقعون تحت سلطة المجمعات الصناعية الكبرى التي لها مصالح كبرى في السعودية. تركيا تتابع التفاوض على صفقة مع الرياض كي يتاح للعائلة السعودية أن ترمي المسؤولية على كبش فداء، وقد يكون موضوع سوريا جزءاً من هذه الصفقة. أما الولايات المتحدة، فقد تقرر وقف الدعم اللوجستي للسعودية في حربها ضد اليمن، لأن إسرائيل تريد استخدام السعودية ضد إيران.
* كاتب وسياسي فلسطيني