«قاذفة البي-2 الستراتيجية، اذاً، ليست قادرةً على التّحليق حين يكون الجوّ ماطراً، وهذه ليست مشكلة على الإطلاق، لأنّ علّة وجودها هو نقل الثروة من الحكومة الى مالكي الأسهم في شركات السّلاح» الكاتب الأميركي السّاخر غاري بريكر
(المعروف ايضاً بـ«ذا وور نيرد»)


من التّاريخ
أذكر نقاشات عدّة أجريتها مع تلاميذٍ تأثّروا بأفلام هوليوود، وكانوا حين نناقش مسائل مثل بناء الدّول والتحديث يكرّرون رواية أنّ النظم العسكرية «التقليدية» (مثل الساموراي مثلاً) قد زالت لأنّ «الثقافة التقليدية» و«النظام القديم» كانا يرفضان اعتماد الأسلحة الناريّة والحديثة، بما يشبه الايمان الدّيني، حتّى أصبحت متخلّفة وتجاوزها الزّمن. هم يتخيّلون فعلاً أنّ هناك مقاتلين كانوا يفضّلون مواجهة الأسلحة الناريّة بالسيوف والرماح مثلاً، كخيار، وأنّ مقاتلي النخبة في اليابان لم تكن لديهم مشكلة في أن يهرعوا بجوادهم في وجه فوهة مدفع. المشكلة هي أنّ «الثقافة» لا تلعب دوراً «غير عقلانيّ» بهذا الشّكل، وبخاصّة كما تتخيّلها بعض الأوساط الاكاديميّة، وأكثر تحديداً في مجال الحرب، ميدان التنافس الأشد قسوة وضراوة في التاريخ البشري.
هناك، بالمقابل، عوامل مؤسسية واقتصادية وسياسية تقرّر شكل الجيش وتنظيمه؛ بعض النخب العسكرية قد تراهن، لهذه الأسباب، على تنظيمٍ غير مناسبٍ أو تكنولوجيا غير فعّالة، و«الثقافة» تترك تقاليد ورموزاً تستمرّ آثارها مع الزمن، ولكنها لا تدفع الناس للانتحار (على سبيل المثال، ظلّت الخيالة الأوروبية هي «الفرع الأرقى» في الجيوش، يدخل فيها النبلاء وتحظى بقيمةٍ رمزية عالية، بعد قرونٍ على نهاية النظام الاقطاعي وانتفاء الدور المركزي للخيالة، التي أصبحت عاملاً «مساعداً» أو ثانوياً على الأكثر في الميدان. ولكن لا أحد اقترح - بعد حلول القرن الخامس عشر - بأن يقوم الخيالة برفع حرابهم والهجوم الجبهي على خطوط المشاة السويسريين، المنظّمين والمسلحين برماحٍ مخصصة لكسر صولات الخيول، أو على الوحدات المزودة بالبنادق والمدفعية بعد ذلك. (حدث شيءٌ مشابه في حرب القرم مع «هجمة لواء الخيالة الخفيف» الشهيرة ضد خطوط الروس، وهي حصلت بسبب خطأ في فهم الأوامر وقد أدت الى ابادة الوحدة البريطانية).
تاريخ أيّ جيشٍ (سواء في عصر الحداثة أو قبلها) هو تاريخ اصلاحٍ وتحديثٍ مستمرّين، وخوفٍ مستمرّ من امكانيات الخصوم وتطوّرها، وحين كانت الجيوش «تركد» وتتراجع وتنخفض فعاليتها، فذاك كان أساساً بسبب ضعف الدولة المركزية أو الفساد أو ظروفٍ اقتصادية قاهرة. عودةً الى التاريخ العسكري الايراني، قام الصفويون مثلاً، وجيشهم في الأساس «تقليدي» بالكامل ويقوم على خيالة قبليّة، باعتماد الأسلحة الناريّة ما أن أصبحت لديهم دولة وامكانات لتطوير ترسانةٍ حديثة. أقيمت عدّة ترسانات عسكريّة ضخمة حول ايران، أهمّها كانت كرمنشاه القريبة من الجبهة العراقية المشتعلة، والتي تخصّصت في انتاج المدافع وآلات الحصار. أصفهان، ايضاً، أصبحت مركزاً مهماً لانتاج السلاح والدروع والبنادق. فيما مشهد ومرو كانتا تصنعان السلاح للحملات في الشرق. وقد قام الصفويون، كالعادة، بالنقل من الشرق والغرب، فأسس بريطانيان (هما الأخوان شيرلي) صناعة السلاح الناري في البلد - وكانت البنادق الايرانية، بحسب شهادات المعاصرين، أثقل نسبيا من البنادق الاوروبية ومداها أبعد وأكثر دقة (كان الايرانيون يعبئون البنادق بالبارود بأنفسهم، فيقدرون على التحكم بمدى الرصاصة عبر زيادة أو انقاص كمية البارود، فيما كان الاوروبيون يستخدمون شريط بارودٍ قياسي ذي حجمٍ موحّد).
في الوقت ذاته، اضافة الى الامور التي نقلوها عن العثمانيين، مثل تشكيلات المشاة المسلّحة بالبنادق، اعتمد الايرانيون مثلاً وحدات خاصّة اسمها «الجزايرجي»، كانت تستخدم بندقية فريدة يبدو أن مصدرها الأصلي هو الجزائر، وهي كانت بندقية ثقيلة جداً، أشبه بمدفع صغير، توضع على قاعدة ثلاثية الأرجل حتى تطلق منها النار، ويتم اختيار أضخم الرجال وأقواهم للانتساب الى هذه الوحدة. على الهامش: «الزنبُرك» و«الزنبركجي» كان مدفعاً صغيراً يثبّت على ظهور الجمال على منصّة خاصّة، فيصبح بمثابة مدفعية متحرّكة، استخدمها الأفغان وبعدهم نادر شاه بنجاحٍ كبير. بل إنّ خيالة «القزلباش» أتقنوا في نهاية الأمر اطلاق النار من على صهوات الجياد حتى اشتهروا بذلك، ووصلوا الى درجة تكييف «الطلقة البارثية» القديمة والشهيرة مع البندقية - أي حين يستدير الفارس على صهوة جواده وهو منسحب، ويطلق النار بعكس اتجاه الحصان على العدو الذي يلاحقه.
الأساس هنا هو أن الحرب عمليّة اجتماعية، والجيش ليس مجرّد مؤسسة بيروقراطية، بل هو انعكاسٌ لأحوال البلد ونظام الحكم وشكل المجتمع والاقتصاد، سواء في «النظام الجديد» أو «النظام القديم». نادر شاه، مثلاً، قام بمزجٍ عبقريّ بين قوات التطوّع العشائرية وبين الجيش النظامي، فأعطى قادة العشائر رتباً عسكرية، ونظم قواتهم القبلية في وحدات، ودفع لهم رواتب، وانتخب المميزين من بينهم لينضموا الى حرسه الخاص. فأصبحت هذه التشكيلات المتنوعة (من خراسان الى لورستان) تقاتل في الميدان بانضباط جيشٍ ميداني؛ وقد أعطى نادر شاه خيالته زخماً عبر قانونٍ ذكي، تدفع الدولة بموجبه ثمن الحصان الذي يستخدمه الفارس (فلا يعود الخيال يقلق من المخاطرة بحصانه في المعركة).

«جيش الرأسمالية المتأخّرة»
حين يتمّ الاعلان عن مشكلة جديدة في اسطول الـ«اف - 35» (أُجبرت اميركا وباقي المستخدمين على ابقاء أسطولها على الأرض لتصحيح خطأ في انابيب الوقود أدى الى سقوط طائرة مؤخراً)، وتستعاد الانتقادات تجاه هذا المشروع المكلف (أكثر من 1.2 تريليون دولار! لتصميم وصناعة طائرة واحدة). ليست المشكلة في أن تسقط طائرة دخلت الى الانتاج حديثاً، فهذا يحصل مع كلّ طائرةٍ جديدة، ولا هي في اكتشاف عيبٍ تصميمي بهذه الخطورة بعد انتاج الطائرة، فهذا، ايضاً، لا مفرّ منه. المشكلة هي أن تحصل هذه الأمور بعد 12 سنة من دخول «اف-35» الانتاج النهائي، أي أنّ الطائرة ليست «جديدةً» بعد، بل يفترض بها أن تكون قد نضجت، بل وأصبحت في زهو عمرها. المشكلة الأكبر هي أنّه قد تبيّن أنّ الصانعين لا يعرفون بالضبط أيّ طائراتٍ قد دخلت اليها القطع القاصرة التي سببت الحادثة، وأيها مزودة بأنابيب وقود أمنة من مورّدٍ آخر؛ ما يتطلب فحص كلّ طائرةٍ على حدة لمعرفة أيها يحتاج الى الاصلاح. أمّا اسوأ ما في الأمر فهو أنّ هذه المقاتلة، بمشاكلها الكثيرة، هي الرّهان الوحيد لكلّ فروع الجيش الأميركي، المقاتلة الأساسية الوحيدة لنصف القرن القادم. في حالةٍ كهذه، فإنّ أكثر النقد يوجّه الى عوامل تصميمية وتكنولوجيّة، والخيارات التي أدت الى اختيار هذه المقاتلة، أو الى «فساد» المجمع العسكري - الصناعي وعقود التسليح. الّا أن المسألة، في رأيي، تبدأ من مكانٍ مختلف، ولها أكبر الأثر على مستقبل الامبراطورية والحرب في العالم.
الجديد في عصرنا هذا، قبل التكنولوجيا والمعدّات، هو الرأسمالية الصناعيّة، وتحديداً فكرة «الهدر» ودوره المركزي في تحقيق الأرباح. لن ندخل في نقاشٍ في الاقتصاد السياسي هنا، ولكن الفكرة الأساسية هي أنّه، في الرأسمالية الصناعية التي تملك فائضاً كبيراً في قدرة الانتاج والتقنية، فإنّ «الهدر» (أي الانتاج الذي لا ضرورة له أو تنقصه الفعالية أو هو ليس عقلانياً: الطعام الذي تعرف ان نسبة منه ستفسد قبل البيع أو الكمبيوتر الذي يصمّم مسبقاً لكي يتقادم خلال سنتين الخ) هي مرشّحة للاستمرار والتوسّع بمجرّد أنها تحقّق أرباحاً للنخبة المالية. حتى لو كان النشاط لا يضيف أي قيمة أو يلبّي حاجة، فلا يوجد هنا «عقلٌ» يحدّ منه بشكلٍ عفوي. وضمن اقتصاد الهدر هذا، الذي يمتدّ من المعاملات المالية الى انتاج السلع الى الوظائف «الوهمية»، فإنّ صناعة الدّفاع، وتحديداً صناعة الدفاع في اميركا، تمثّل النموذج الأضخم بلا منازع.
لدينا هنا العناصر كلّها: حجّة «أمنٍ قومي» تدفع بالدولة والناخبين الى إنفاق الأموال بلا حساب، مجمع صناعي عسكري يتكوّن بالكامل من شركات خاصّة، ومجالات تقنية عالية تفتح أبواباً لا تصدّق لانتاج «الهدر». الشركات الخاصة التي تتعاقد مع الحكومة الأميركية لانتاج السلاح هي ايضاً شركات مساهمة، أيّ أنّ واجبها الأوّل والأساسي (في القانون) هو تجاه مالكيها وحاملي أسهمها، وليس أيّ اعتبارٍ آخر - بما في ذلك الوطن. في وسعك بسهولةٍ تتبّع أسعار العقود العسكرية الأمريكية، وكيف تضخّمت بشكلٍ خياليّ في العقود الأخيرة، وبشكلٍ موازٍ بالكامل لتعميق رأسمالية الشركات في اميركا وايضاً - للمفارقة - في موازاة احتكار اميركا للقوة الدولية في التسعينيات وانتفاء تهديداتٍ حقيقية ضدها وضد حلفائها.
يقول الباحث الأميركي روبرت شاريت إنّ برامج التسليح الأميركية «الضخمة»، حتى أواسط التسعينيات، لم تكن قيمة الواحد منها تتجاوز عشرات مليارات الدولارات، فيما برامج الأسلحة المستقبلية اليوم تتحوّل الى عقودٍ بمئات المليارات (أو أكثر من تريليون، مع الـ«اف-35»). حدثت العديد من التغييرات في نمط ادارة برامج التسليح في اميركا، كلّها مستوحاة من نظريات التخصيص والتخفّف من دور الدّولة والتنظيمات والقوانين التي «تزعج» الشركات الخاصّة التي تصنع السّلاح. اكتملت هذه البنية الجديدة عام 2003، وسنشرح نقطتين فقط تساهمان في تفسير برامج مثل الـ«اف-35». أوّلاً، كان الجيش الأميركي يعتمد في نظام التوريدات العسكرية على نظرية «التهديدات» (أي يقوم كل فرعٍ بتحديد التهديدات التي تواجهه ويطلب نظاماً على هذا الأساس: نحتاج الى قاذفةٍ تقدر على اختراق الأجواء السوفياتية، نحتاج الى غواصة تتفوق على مثيلتها الروسية، الخ) فأصبحت البرامج تبنى على أساس «القدرات». بمعنى آخر، بدلاً من تصميم سلاحٍ يؤدي مهمّة معينة تحتاجها في العالم الحقيقي، أصبح المخططون في الجيش يتصوّرون «قدرات» معيّنة ويطلبون برامج تسليح لتلبيتها. هذا النظام يفسح مجالاً خرافياً للهدر، وتصميم أنظمةٍ لا فائدة عملية لها («نحتاج» الى سلاحٍ يقدر على ضرب أي نقطةٍ في العالم خلال عشر ثوانٍ، «نحتاج» الى مدفع كهرومغناطيسي يقذف قضيباً معدنياً لمئات الأميال - لماذا؟ -، نحتاج الى نظامٍ فضائي لتدمير النيازك على طريقة فيلم بروس ويليس «ارماغادون»، الخ).
تعديلٌ ثانٍ أساسيّ هو أن كلّ فرعٍ من فروع الجيش (باعتبارها بمثابة جيوش مستقلة، ولها قياداتها وحاجاتها الخاصة) كان يطلب السلاح الذي يحتاجه ويصممه لحسابه، فقرّر «النظام الجديد» أنّ مشاريع التسليح يجب أن تكون «مشتركة» بين جميع فروع القوات المسلحة - الجيش، الطيران، البحرية، المارينز. كانت النظرية أنّ هذا التدبير «يوفّر» المال ويقلّل عدد الأنظمة المطلوبة ويمنع تعدّد برامج متشابهة. ولكن النتيجة هي أنّ تشارك هذه الفروع في التصميم كان يعني انتاج أسلحة «مثقلة» بالاضافات والتعديلات، وكلّ فرعٍ يريد أموراً مختلفة، ما يجعل من الصّعب أن تخرج بنظامٍ قتاليٍّ فعّال. الـ«اف-35» هي، بتصميمها وكلفتها ومشاكلها، بِنْت هذا النّظام ومرآته.

عودة المنافسة
كما يدفع العديد من الخبراء العسكريين، فإنّ أميركا (والدول التي «تورّطت» في مشروع المقاتلة) قد حصلت على طائرةٍ كلّفت (بحسب روبرت شاريت) ما يوازي حربَي فييتنام وكوريا معاً، ولكنّها لا تقدر على فعل أيّ شيءٍ تقريباً لا تفعله طائرات جيل السبعينيات بشكلٍ أفضل: الـ«اف-»5»، مثلاً، حمولتها أكبر، مداها أبعد، وهي أسرع من الـ«اف-»5»، وهي قابلة لحمل تشكيلةٍ هائلة من الاضافات الالكترونية وأصناف السلاح، على عكس المقاتلة «الشبحية» (وهذا ينطبق اجمالاً على الـ«اف-16» والـ«اف-18» وأغلب الطائرات التي صممت الـ«اف-35» لاستبدالها). تبقى فعلياً ميزة وحيدة للبرنامج الأميركي المكلف وهو ميزة «الخفاء».
هنا ايضاً، توجد اشكاليات. «اف-35»، اجمالاً، لم تصمّم لضرب دولٍ صغيرةٍ فقيرة مثل دولنا، وانت تحتاج الى جزءٍ بسيطٍ من الترسانة الأميركية لتدمير سلاح الجو واسكات الدفاع الجوي في أيٍّ من بلاد الجنوب (الأمل الوحيد لديك هنا هو ليس في أن تمنع الأميركيين من قصفك، بل أن تكلّفهم خسائر، ثم تحتفظ بقدرات معيّنة لأطول فترة ممكنة). هذه مقاتلة «تفوّق» جوّي معدّة لاختراق أجواء خصومٍ «جديّين»، من طراز روسيا والصّين. وهذه الدّول طوّرت، منذ سنوات وقبل دخول المقاتلة الخدمة، رادارات مخصّصة لكشف هذه المقاتلة ومثيلاتها. بل إنّ التصاميم الصينية والروسية الجديدة تحوي «رادارا اضافيا»، عريض الموجة، يثبّت على جناح الطائرة لكشف المقاتلات الخفية، وتوجيه الرادار الرئيسي للاشتباك معها.
خلال التسعينيات، وفي غياب أي منافسٍ عسكريٍّ يقترب من قدرة الأميركيين وحلفائهم، ولو عن مسافة، لم يكن «الهدر» مشكلة بالنسبة الى موقع اميركا وقدراتها. أمّا حين أصبحت الصناعة العسكرية الأميركية تواجه خصماً حقيقياً، صينيّاً، لا نتقصه الموازنات ولا تنقصه التكنولوجيا والموارد، ويحكمه نظامٌ مركزيّ فعّال، فإنّ «الفساد» تصبح له كلفةٌ مختلفة بالكامل. الصّين تصنع بالفعل نموذجين من طائرات الجيل الخامس، احداها - يقال - استندت على معلومات مسروقة من الـ«اف-35» ولكنها تجنبت الكثير من عيوب التصميم فيها. بل إن بيجينغ قد كشفت مؤخراً عن تصميمٍ يعكس «الأفق الجديد» في الطيران العسكري: قاذفة «خفية»، من دون طيار، ولكن مع حمولة ومدى لا يقلّان عن منافستها الأميركية. نحن لا نعلم بالضبط كم كلّفت هذه البرامج الصينية حتى نعقد مقارنةً دقيقة مع الأميركيين، ولكنّنا نعرف بالتأكيد أنها لم ترتّب على الصين فاتورةً بألف مليار دولار.