ثمّة اتجاهان اقتصاديان يحظيان بتركيز إدارة دونالد ترامب حالياً. الأول متعلّق بأسعار النفط التي تريد الإدارة خفضها لكي يحظى النفط الصخري الأميركي بمزايا تنافسية أكثر، والثاني متصل بتعديل اتفاقية «نافتا» لمصلحة الولايات المتحدة بعد تخيير كندا بين التوقيع عليها معدّلة أو البقاء خارج إطار التبادل التجاري الذي توفّره. في الحالتين ثمّة استراتيجية للتدخّل النشط في السوق بغرض جعل حركتها متناسبة مع المصلحة الأميركية، أو مع ما تراه إدارة ترامب يصبّ في هذه المصلحة. وفي الحالتين أيضاً ثمّة تجاوز للمؤسّسات التي تنظّم هذه الحركة في إطار شراكات إقليمية أو دولية، إذ يبدو أن إدارة الثروة على هذه الصعد لم تعد تناسب الإدارة الحالية، ولم تعد تتلاءم مع مشاريعها لجعل الحصّة الأميركية من التراكم المدار عالمياً أكبر من الحصص الباقية. العولمة التي يقترحها ترامب تتنافى مع نظام الحصص الحالي، ولذلك يبدو تركيزه منصباً ليس فقط على تعديل الحصص بما يتناسب مع مصلحته، بل أيضاً على الحدّ من نفوذ المؤسّسات والشراكات التي أُوكل إليها في الحقبة الماضية توزيع ثمار التراكم العالمي.

أهمية دور «أوبك»
قبل مجيء ترامب كانت السياسة النفطية التي تديرها «أوبك» - وهي المنظمة التي تضمّ بين صفوفها أكبر منتجي النفط في العالم- قائمة على نظام الحصص، حيث لكلّ دولة حصّة من الأرباح التي تجنيها المنظمة من سياسة تصدير النفط. وهذه الحصص يجري تحديدها دورياً، تبعاً لمساهمة كلّ دولة من هذه الدول في إنتاج النفط وتصديره، وغالباً ما يجري تنسيق هذه العملية مع منتجي النفط من خارج المنظمة لكي لا تتضارب المصالح، وتحقّق بعض الدول مكاسب على حساب أخرى، من خلال التلاعب بالأسعار نزولاً أو صعوداً. السوق لها دور أساسي طبعاً في عملية التسعير بناءً على حالة العرض والطلب المستمرّة، ولكن التقيُّد الصارم بالحصص يحدّ من تحكُّمها المطلق بالأسعار، ويجعل حركتها متناسبة أكثر مع السياسات التي تضعها الدول المنتجة والمصدّرة للنفط، سواءً داخل المنظمة أو خارجها. وأكبر مثال على ذلك هو اتفاق خفض الإنتاج الذي حصل في أواخر عام 2016، وتم بموجبه التفاهم على خفض متزامن للإنتاج بين الدول المنتجة خارج «أوبك» وداخلها، بغية رفع أسعار النفط، بعدما أدّى تهاويها في عام 2014 إلى انحسار الطلب على النفط، وتحقيق خسائر كبيرة لم يشهدها هذا القطاع طوال تاريخه. حقّقت هذه السياسة نتائج ملموسة، أدّت إلى استعادة جزء كبير من الخسائر التي لحقت بصناعة النفط العالمية، وإلى حصول حالة من الاستقرار في السوق ابتداءً من أوائل عام 2017. الاتفاق لم يكن خروجاً على نظام الحصص، بل كان بمثابة مخرج من المأزق الذي وجدت فيه الدول المنتجة نفسها إبان حصول الانهيار في الأسعار، والتوازن الذي استعادته السوق بفضله هو تأكيدٌ على أهمية هذا النظام لجهة لجم سياسات العرض والطلب وقت الحاجة، وعدم تركها تتحكّم بكميات النفط المستخرج والمصدر، وبالتالي تفادي حصول أزمة جديدة في الأسعار. الولايات المتحدة في هذه المرحلة كانت تراقب الوضع، ولكنها لم تكن تتدخَّل مباشرة، أولاً لأنها ليست في عداد المنتجين الكبار للنفط لا داخل المنظمة ولا خارجها، وثانياً لأنّ إدارة أوباما التي تصادَفَ وقوعُ الأزمة في عهدها كانت تدير سياسة غير تدخّلية في قطاع النفط، إن لم نقل إنها كانت تدعم سياسات «أوبك» على نحو غبر مباشر.
الطلب من «أوبك» خفض الأسعار سيعقبه على الأغلب تدخُّل أميركي مباشر في السوق


سياسة ترامب النفطية
لكن مع مجيء إدارة ترامب تغيّرت هذه السياسة جذرياً، وبدا أنّ العالم مقبل ليس فقط على تغيير في إنتاج وتوزيع الثروة النفطية، بل أيضاً على حصول اضطرابات كبيرة في السوق بدعم من دولة صاعدة نفطياً، وغير راضية بحصّتها الحالية من الثروة النفطية. الضغط الذي يمارسه ترامب حالياً على «أوبك» لا يستهدف فحسب خفض أسعار النفط بغية تحقيق سعر تنافسي للنفط المنتج أميركياً، بل أيضاً تغيير بنية السوق عبر التخلّص من اتفاق خفض الإنتاج أولاً، والذي سيليه حصول اضطراب في الأسواق، نتيجة انتفاء حالة التوازن التي استطاع الاتفاق تحقيقها. التوازن الحالي في الأسواق لا يخدم مصلحة ترامب لأنّ الاستفادة منه محصورة بالدول التي كانت شريكة في الاتفاق وعلى رأسها روسيا والسعودية، فضلاً عن كونه يؤمِّن لإيران التي تريد الإدارة الأميركية إخراجها من السوق نهائياً عبر نظام العقوبات فرصةً لاستعادة حصّتها التي فقدتها لسنوات بسبب الحصار. التوازُن أيضاً يحقِّق مزايا تنافسية لدول «أوبك» على حساب الدول التي تعتمد على صناعة النفط الصخري، وأهمُّها طبعاً الولايات المتحدة. النفط الذي تصدّره دول «أوبك»، وبعض الدول خارجها مثل روسيا هو من «النوع الرخيص»، بمعنى أن كلفة استخراجه قليلة، وهذا يجعل الطلب عليه أكبر، ويوفِّر للدولة التي تنتجه وتصدره أرباحاً طائلة نتيجة حصول العملية بأقل قدر ممكن من التكلفة. في حين أن النفط الصخري الذي تنتجه الولايات المتحدة يتطلّب دفع أموال طائلة لاستخراجه، ما يجعل تكلفته باهظة، وغير متناسبة مع الأرباح التي غالباً ما تكون ضئيلة، وهذا ما يغضب الإدارة الحالية، ويجعلها مصمِّمة على تغيير المعادلة الحالية التي ترى إنها غير منصفة لها، على حدّ تعبير ترامب.

تركيز الثروة عبر التنافسية
الطلب من «أوبك» خفض الأسعار سيعقبه على الأغلب تدخُّل أميركي مباشر في السوق على غرار ما يفعله الرجل حالياً باتفاقات التجارة الحرة، وآخرها التعديل الجذري الذي أجراه على اتفاقية «نافتا» مع المكسيك وكندا. هو لا يريد تنافسية مع هذه الدول، بل يريد أن تكون التنافسية لمصلحة الولايات المتحدة بعدما كانت على حسابها لسنوات طويلة بحسب زعمه. التعديلات التي أُجريت على «نافتا» تجعل من المستحيل على دول مثل كندا والمكسيك الاستفادة من السوق المشتركة من دون تقديم تنازلات أساسية للصناعات الأميركية والمنتجين الأميركيين، وهي تقريباً الفلسفة التي تقوم عليها كلّ سياسة ترامب التجارية. استعادة الزعامة الأميركية تجارياً لن تحصل بحسب هذه الفلسفة وفقاً لقواعد العولمة المعمول بها حالياً، بل سيُجرى عليها تعديلات كبيرة تقود إلى تقزيم المحورية التي كانت تتمتع بها النظم التجارية متعدّدة الأطراف لمصلحة صيغ ثنائية أو ثلاثية بحدٍّ أقصى، وهذه الصيغ الجديدة هي التي ستكون محور عملية التراكم وإدارة الثروة في المرحلة المقبلة. كلّ ما يقوم به الرجل وفريقه الاقتصادي يصبّ في هذا الاتجاه، بما في ذلك تغيير سياسة بلاده النفطية، والتفريط بالتوازن الحاصل حالياً في العالم، وبنمط القيادة الجماعي الذي تمثله «أوبك» لمصلحة حفنة من شركات النفط الصخري التي يدعمها هو وإدارته. الفوضى في السوق تناسب هذه الجهات ليس لأنها تعيد توزيع الحصص لمصلحة الولايات المتحدة فقط، بل لأنّ التوزيع الجديد يحصل وفقاً لمنهج ترامب في إعادة تركيز الثروتين المالية والنفطية بيد أميركا، واستعادتهما عبر التدخّل النشط في السوق وتغيير المعادلات التجارية من المنافسين الرأسماليين التقليديين والقوى الصاعدة على حدٍّ سواء.
* كاتب سوري