كنبتة برّية انشقت عن التربة بعفوية، هي سوريا التي زُرعت في وجدان أهلها الكثر داخل وخارج حريمها الجغرافي. اتفقت مع نظامها السياسي أو اختلفت، فثمة سوريا التي أُثخنت في حرب كونيّة على مدى سبع عجاف وفشل المتآمرون عليها في أن يملؤوا شاغرها، تقاوم كيد الإخوة الألداء والأشقياء الكبار.خيوط المؤامرة الكونية عبر مظلّة ربيع ثوري، رفضته النظم الشمولية في كل أقطار العرب وقبلته حد الانغماس في سوريا تزداد انكشافاً، بل وافتضاحاً. كل الذين طُربوا لنغمة الثورة آثروا صمّ آذانهم عنها الآن، بعد أن نفشت فيها ما يربو عن ثمانين دولة، ومثلها جماعة مسلحة وأجندة.
لناحية السعودية، فإن الأجندة كانت وما زالت هي تقويض سوريا الدولة والمعادلة. رهان لم يتبدّل أو يتعدّل، بل ازداد رسوخاً بمرور الوقت، خوفاً من «الانتقام» لاحقاً، كما كشفت ذات وثيقة لوزارة الخارجية السعودية ونُشرت في وثائق ويكيليكس.
تفتّقت أذهان سدنة المعارضة (بإدارة رئيس الاستخبارات العامة الأسبق بندر بن سلطان، ورئيس «سي آي إيه» المستقيل ديفيد بترايوس، في 9 تشرين الثاني 2012) عن فكرة «الهجوم الكيماوي» في الغوطة الشرقية. وفي آب 2013 دخلت الفكرة حيّز التنفيذ، تسويغاً وتمهيداً لهجوم أميركي واسع النطاق على سوريا على غرار ما جرى في العراق في نيسان 2003. تفاصيل ما جرى لاحقاً باتت معروفة، لا سيما لناحية الاتفاق الروسي ــ الأميركي على «سد الذرائع» بسحب المخزون الكيميائي من سوريا وإرساله للخارج، واستعداد حلفاء سوريا للذهاب إلى أقصى ما يمكن أن تصل إليه المواجهة المسلّحة مع الولايات المتحدة وحلفائها، وتالياً إلغاء قرار الحرب.
كانت الخيبة السعودية عميقة وصاعقة، كما ظهر على الأداء المربك لوزير الخارجية السابق سعود الفيصل، ورفض السعودية مقعداً دائماً في مجلس الأمن بعد فوزها به، وامتناع الفيصل عن إلقاء كلمة في هذا الخصوص، وحديث بندر بن سلطان عن البحث عن حلفاء جدد، ومثله الوليد بن طلال ولقاءاته الإعلامية في الولايات المتحدة التي لفت فيها لأول مرة إلى إمكانية التحالف مع الكيان الإسرائيلي. في النتائج، تفارقت واشنطن والرياض على سوريا، ودخلت العلاقة بينهما مرحلة الفتور المصحوب بالغمز اللفظي المتقطع بين مناسبة وأخرى.
بعد تولّي سلمان العرش في 23 كانون الثاني 2015، كان شغله الشاغل هو إيصال نجله المدلّل إلى العرش. متغيّرٌ آخر خفّض من أهمية سوريا في الاستراتيجية السعودية، هو الحرب على اليمن في 26 آذار 2015.
كان الاعتقاد السائد لدى الفريق السياسي السعودي أن حرب اليمن ليست أكثر من نزهة أسبوعية ثم تطأ حوافر خيول ابن سعود صنعاء، كما كان يفعل «الآباء والأجداد»، حين يغيرون مصبحين على المناطق الآمنة وأهلها نائمون.
تنبّه الملك سلمان إلى أن المحور الإيراني الذي يناجزه الخصومة بات أقوى من ذي قبل، ويزداد قوة، وما اليمن إلا اختبار جدّي للنفوذ المتعاظم لمحور إيران في المنطقة. خلاصة الأمر، إن فشل العدوان السعودي على اليمن أعاد حسابات الرياض مجدّداً على نحو يجعل من رسم الخارطة الجيوسياسية للمنطقة أمراً حتمياً لإنقاذ السعودية، الدولة، قبل إنقاذها محوراً ومعادلة.
من نافلة القول، سعى سلمان في الأيام الأولى من عهده لتشكيل «معسكر سنّي» يضم السعودية، ومصر، وتركيا، وباكستان بهدف محاصرة المعسكر الإيراني، ومعه العراق وسوريا وحزب الله. ولكنّه اصطدم بتعقيدات جمّة من الروابط، والتحديّات، والتناقضات، وأيضاً المصالح بين هذه الدول، أرغمته في نهاية المطاف على التخلّي عن الفكرة لعدم واقعيتها أولاً وأخيراً.
لجأ سلمان إلى سياسة الاحتواء لسوريا، وهي فكرة جرّبها الملك عبد الله عبر نجله عبد العزيز في بداية الأزمة السورية ووصلت إلى طريق مسدود. استعان محمد بن سلمان، ولي ولي العهد حينذاك، بالروس لتسهيل لقاء مع الجانب السوري. جرى اللقاء بين ابن سلمان واللواء علي مملوك، رئيس مكتب الأمن الوطني، في الرياض أواخر شهر تموز سنة 2015.
لم يأت ابن سلمان بعرض جديد، ما عدا تفصيل صغير يتمثّل في إعادة إعمار سوريا في مقابل التخلي عن إيران وحزب الله. لم يتجدّد اللقاء، فقد أبلغ ابن سلمان ضيفه بأنه سوف يعود لاحقاً ليبلغه جواب والده، الملك، ولكن لم يعد.
عادت نغمة «إسقاط بشار الأسد» التي استأنف ترديدها وزير الخارجية المطيع لولي أمره عادل الجبير، على وقع تمزّقات متوالية في شبكات المعارضة، فيما كان الثالوث الروسي ــ التركي ــ الإيراني يرسّخ معادلة التسويات الميدانية ويوسّع من مساحة المصالحات بين الجماعات المسلّحة والسلطات السورية.
وصول ترامب إلى البيت الأبيض شكّل فرصة تاريخية بالنسبة إلى الرياض، كما تل أبيب، بأن ينجز ما أخفق فيه سلفه باراك أوباما في ملف الكيميائي السوري.
في اللقاء الأول الذي جمع ابن سلمان وترامب في منتصف آذار 2017، جرى التداول بشأن «صفقة القرن». وقد ذكرنا في مقال سابق (15 آذار 2017) ما يلي: «لم تعد المقايضة على الصفقة الكبرى بـ(الأرقام)، وإنما بـ(النسب). والكلام يدور الآن حول ثمن فلكي للحرب بشقين: الأول مناصفة السعودية والإمارات في الثروة النفطية، والثاني التطبيع الشامل مع إسرائيل بما يمهّد لنقل السفارة الأميركية إلى القدس».
ثمة من جادل حينذاك بأن العرض الأميركي يندرج في اللامعقول السياسي، ولكن ترامب نفسه عاد وأكّد هذا اللامعقول في حديثه مع ولي العهد السعودي في لقائه الأخير في 20 آذار الماضي حين خاطبه مباشرة: «المملكة ثرية جداً وستعطينا جزءاً من هذه الثروة». وفي النتائج، لم تنجح الصفقة، لسببين: جشع ترامب ورفض جنرالات البنتاغون الدخول في مغامرة عسكرية كارثية في الشرق الأوسط.
في الزيارة الثانية لابن سلمان للولايات المتحدة، بعد أن أمضى تسعة أشهر في ترتيب البيت الداخلي بعد تصفية الخصوم من أمراء آل سعود وحلفائهم، تجدّد العرض السعودي (الحرب الشاملة ضد إيران وحلفائها انطلاقاً من سوريا)، وشمل هذه المرة حزمة حوافز مالية وسياسية: صفقات عسكرية وتجارية سخيّة مع الشركات الأميركية ومواقف سياسية متقدّمة لصالح الكيان الإسرائيلي ذروتها: «الاعتراف بحق اليهود في إقامة دولة لهم على أرض فلسطين»، كما جاء في مقابلته مع الصحافي الصهيوني جيفري غولدبرغ في مجلة «ذي اتلانتيك» الأميركية في 2 نيسان الجاري.
وكما في آب 2013، كان الكيميائي هذه المرة هو الذريعة النموذجية لشن الحرب على دمشق. عجّل الحسم العسكري السريع في الغوطة الشرقية من قبل الجيش في فبركة الهجوم الكيميائي على دوما، بوصفها آخر نقطة يمكن توظيفها في قرار الحرب.
كانت المفاوضات بين فريق محمد بن سلمان وفريق ترامب تجري على نار حامية، حول الأثمان المطلوب دفعها في مقابل الحرب، بعد أن رمى ابن سلمان بجملة أوراق ـ حوافز على الطاولة، في مقابل أن ينجز ترامب وعد الحرب الشاملة.
تأجلت القمة العربية من منتصف آذار إلى منتصف نيسان لإعطاء فرصة كافية لاستكمال مقدّمات وشروط الحرب على سوريا.
في غضون ذلك، أطلق ترامب بالون اختبار، بسحب القوات الأميركية من سوريا في القريب العاجل، ما لم تتكفل دول الخليج بتمويل بقاء القوات، وقال صراحة في 4 نيسان الجاري: «نعمل على خطة للخروج من سوريا، وإذا كانت السعودية ترغب ببقائنا فيها فيجب عليها دفع تكاليف ذلك». في الظاهر، ربح ترامب الرهان بقبول السعودية تمويل بقاء القوات، وكلام ماكرون حول «إقناع ترامب» بالبقاء فائض لفظي.
اللحظة الفاصلة والفارقة لدى القيادة السعودية هي ما سوف يترجمه ترامب في الميدان السوري من عمل عسكري، وعلى أساسه سوف يُبنى على الشيء مقتضاه في قمة الظهران.
كانت الساعات الاثنتان والسبعون قبل موعد «الضربة» فاصلة في واشنطن، حيث جرت نقاشات لاهبة بين ترامب وأجهزة الأمن القومي وجنرالات البنتاغون. لناحية ترامب، فإنه تعامل مع «الضربة» من منظور تجاري محض، وأرادها أن تكون فاتحة له ولصهره كوشنر، الغارق في الديون، يؤازره في ذلك فريق الأمن القومي. على الضد، كان لجنرالات البنتاغون كلام آخر، يتناقض كلياً مع فكرة «الهجوم الواسع» على سوريا.
تأجّل موعد الضربة العسكرية على سوريا أكثر من مرة، قبل أن يُحسم القرار في واشنطن، وبالتنسيق مع روسيا، على توجيه «ضربة محدودة»، من دون ردّ من الجانبين الروسي والإيراني. وهذا ما تمّ فعلياً، ولا حاجة للإسهاب في نتائج الضربة الصاروخية فجر السبت الرابع عشر من نيسان الجاري.
سوف تواصل الرياض طرق كل باب للحيلولة دون تمدّد النفوذ الإيراني


وكما في أيلول 2013، كانت الرياض وتل أبيب أول من أُصيب بخيبة أمل عميقة، فبنك الأهداف تقلّص إلى نتيجة صفرية، حسب صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية. أما الصحف السعودية فقد سبقت الموقف الرسمي، وراحت تبشّر بنهاية رأس النظام في سوريا، فعنونت صحيفة «عكاظ» صفحتها الرئيسة بـ«تأديب بشّار»، فيما حاول عبد الرحمن الرشد أن يزخم الضربة بجرعة معنوية إذ ربط «تأديب الأسد» بنتيجة افتراضية قد تؤدي إلى القضاء عليه، فيما كتب خالد الدخيل في «الحياة» بأن الصواريخ الأميركية الفرنسية البريطانية هي رسالة إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وليس إلى الأسد.
صحيفة «الرياض» نشرت مقالاً في 14 نيسان الجاري، أي قبل يوم من انعقاد القمة العربية، اشتمل على موقف كان بمثابة الثمن الافتراضي المُراد تقديمه في القمة وهو أن: «قمة الظهران لن تخرج إلّا بقرار تاريخي... السلام مع إسرائيل ومواجهة مشروع إيران الطائفي؛ لأن النتيجة من يرفض السلام يخدم إيران، وعليه أن يتحمّل تبعات قراره».
لم تواكب الصحافة السعودية ما كان يدور خلف الكواليس، فالتزمت بتعليمات ما قبل الضربة ونتائجها. فليست هذه هي الضربة التي وعد بها ترامب ابن سلمان، وبذلك فإن الثمن لم يعد هو ذاته. وعليه، فإن «صفقة القرن» التي أريد لقمة الظهران أن تكون منصّة لإطلاقها، كما وعد ابن سلمان في زيارته للولايات المتحدة، وبسببها تأجّلت القمة العربية، تبدّلت، بل إن سلمان، ومناكفة للرئيس ترامب، قرّر اختيار عنوان لافت للقمة، ولا بد أنه فاجأ الرؤساء والملوك العرب، إذ أسماها «قمة القدس»، ولم تكن هذه التسمية واردة قبل الضربة، وإنما هي الرسالة السعودية لترامب بأنك لم تلتزم بما وعدت، ونحن بدورنا لن نلتزم بالثمن. وبالمثل، ردّ ترامب بالتراجع عن التراجع في خصوص سحب القوات الأميركية من سوريا، كما جاء على لسان المتحدّثة باسم البيت الأبيض بالأمس (16 نيسان) بما نصّه: «إن المهمة الأميركية لم تتغير وأن الرئيس كان واضحاً في أنه يريد عودة القوات للوطن في أسرع ما يمكن».
في المحصلة النهائية، خسرت الرياض الرهان مرة أخرى باستدراج الولايات المتحدة إلى حرب واسعة على الميدان السوري تكون مقدّمة لتغيير وجه المنطقة وتقوّض أركان خصمها الإيراني. فحسابات ترامب التجارية لم تصمد أمام حسابات الجنرالات العسكرية. وفي كل الأحوال، سوف تواصل الرياض طرق كل باب للحيلولة دون تمدّد النفوذ الإيراني في المنطقة، وأمامها جولة أخرى في النووي الشهر المقبل.