في المشهد الإقليمي، وفي القلب منه الصراع في سوريا، عدة عناوين رئيسية تشكّل الأساس الذي ينطلق منه وبسببه التصعيد الأميركي الحالي والمتمثل بإعلان الرئيس الأميركي التحضير لتوجيه ضربة إلى مؤسسات عسكرية وأمنية وسياسية سورية في أقرب وقت متاح:العنوان الأول هو استمرار هزائم، وبالتالي تقلُّص إمكانيات ودور قوى المعارضة السورية، بكل أطرافها، بما فيها تلك المصنفة إرهابية و«تكفيرية». الطرف الأكثر فعالية وتسبباً في هذا التراجع الذي يقترب من مستوى تحقيق انتصار شبه كامل لمصلحته، هو التحالف الروسي ــ الإيراني ــ السوري (حزب الله ضمناً). بسبب هذا الواقع طُويت، نهائياً، في مجرى صراع ضار دخل منذ شهر سنته الثامنة، فُرص إطاحة نظام الرئيس بشار الأسد. بات الخصوم (قبل الأصدقاء) يقروُّن بهذه الحقيقة دون أن يفوتوا أي مناسبة لتعزية أنفسهم بأن بقاء الأسد مؤقت وأن إزاحته ما زالت، من حيث المبدأ، ممكنة في ظروف وشروط يعملون من أجل إيجادها.
العنوان الثاني أن روسيا، الدولة التي أُريدَ لها أن تتهمَّش وتتفكَّك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، قد أوشكت، من خلال تدخّلها العسكري في سوريا، قبل حوالى سنتين ونصف السنة، على تحقيق انتصار ذي أبعاد دولية وإقليمية ما أعادها قوة عظمى تُقدم من حيث لم يتوقع أحد ذلك، فيما يتراجع، بالانكفاء وبالأزمات والمنافسة، دور واشنطن التي ظلت طيلة حوالى ثلاثة عقود قوة عظمى وحيدة في العالم. ولقد حصد الزعيم الروسي فلاديمير بوتين ثمرة هذا النجاح في الانتخابات الأخيرة في بلاده حيث كرّسته النتائج قائداً بلا منازع، وبنسبة تخطى فيها نفسه قبل أن يتخطى خصومه!
العنوان الثالث هو استمرار ارتباك السياسة الأميركية في مرحلة دونالد ترامب بعد انكفائها في مرحلة باراك أوباما. الاضطراب هذا ليس سببه الوحيد شخصية الرئيس الأميركي وعدم امتلاكه استراتيجيات واضحة بشأن قضايا وأزمات العالم والمنطقة لسياسات وتحالفات إدارته، بل أساساً، بسبب تحديات متزايدة تعاني منها واشنطن. وهي تحديات اقتصادية (الصين أساساً)، وعسكرية (روسيا أساساً)، وسياسية متنوعة تتناول ملفات عديدة على امتداد العالم ولا تقتصر على منطقة دون أخرى (تركيا أساساً). يضاف إلى ذلك متاعب ومصاعب واشنطن بسبب نزعة ومزاج التفرد والفوضى لدى الرئيس الأميركي وميله نحو الاستعراض والخفة في التعامل مع التعيينات والعلاقات والأزمات بما في ذلك داخل إدارته نفسها. وهو مثقل، إلى ذلك، بعبء تهمة تلقي دعم غير مشروع لبلوغه المنصب الرئاسي نفسه. أخطر ما في هذا الدعم ما يُقال أن مصدره كان دولة أجنبية هي روسيا بالذات. ومعروف أن التحقيق بشأن ذلك الدعم المفترض قد بلغ مرحلة دقيقة قد تقود إلى طرح آلية لعزل الرئيس الذي طاولت التحقيقات، قبل أيام، محاميه الخاص ما دفع ترامب إلى التلويح بإقالة المحقق نفسه كما فعل بالنسبة لسلفه. خطوة الإقالة المحتملة تلك سترتد عليه بكلفة سياسية وقانونية ما سيعزز الشكوك بعدم شرعيته وأهليته في الوقت نفسه. ويزيد في الضغط على الرئيس الأميركي أنه قدَّم تعهدات لاستعادة هيبة أميركا في المنطقة. وهو تقاضى، سلفاً، من أجل ذلك، مئات المليارات التي سارع إلى توظيفها لمصلحة العدو الصهيوني من خلال الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للدولة الغاصبة. ويسعى ترامب، من خلال ذلك لأن يشكّل اللوبي الصهيوني، الفاعل جداً في الولايات المتحدة، سياج حماية له من محاولة العزل. وفي امتداد صراع مع قوى لا تشارك جموحه في الحزب «الجمهوري» يواصل ترامب إغراق إدارته بالمزيد من المتطرفين والمغامرين والداعمين للعدو الصهيوني مفسحاً في المجال، في الوقت عينه، لسياسات وتوجهات ذات طبيعة انعزالية على المستوى السياسي والاقتصادي واستعراضية على المستوى العسكري كما يحصل الآن في سوريا بعد الاتهام الموجه لسلطاتها (من دون تحقيق ذي مصداقية) باستخدام الغاز السام، والإعلان، بسرعة قياسية عن ردٍّ عقابي ضد دمشق قد يتحول، في حالة تماديه، إلى حرب مباشرة بين موسكو وواشنطن!
العنوان الرابع، أن واشنطن لا تستطيع من خلال ردها المحتمل أن تغيِّر كثيراً في المعادلات السورية الميدانية. متاعب حلفائها في سوريا ومتاعبها مع حلفائها الإقليميين وحتى الدوليين لا تحصى. يكفي ما حصل من توتر وتباعد مع القيادة التركية التي باتت أقرب إلى السياسة الروسية منها إلى السياسة الأميركية. خسائر حلفاء واشنطن في سوريا من النوع الذي لا يسمح باستعادة بعض تلك الخسائر في مواقع مهمة. بضعة آلاف من الخبراء والعسكريين الأميركيين لن يعوضوا إخفاقات واشنطن ببناء قاعدة ديموغرافية وجيوسياسية في سوريا تستطيع أن تنافس البنى المضادة الناشطة الأخرى.
العنوان الخامس أن واشنطن التي تقاضت أثماناً هائلة لبناء توازن مع النفوذ الروسي يعطل قدرته وقدرة حلفائه على تحقيق الانتصار، مطالبة بأن تفعل شيئاً لحلفائها. الاستعراض الذي كان وما يزال يطبع تصرفات ترامب ليس كافياً على الإطلاق. لا بد من حفظ ماء الوجه من خلال عمل هجومي ما. لا بد كذلك من صرف الأنظار عن الأزمة السياسية الكبيرة المتعلقة بتقدم التحقيق بشأن تهمة التواطؤ مع دور روسي لكسب السباق الانتخابي في أواخر عام 2016. هنا يتعقَّد المشهد وتصبح واشنطن مطالبة، من قبل المحور السعودي ومن قبل إسرائيل، برد يعيد رسم التوازنات في المشهد السوري وما ينطوي عليه من اختلال لمصلحة النظام السوري وحلفائه. الرئيس الأميركي مهَّد لكل ذلك بما لا يُناسب: قرار الانسحاب من سوريا، ولو تأجل تنفيذه تحت ضغوط أمنية وعسكرية بينها ضغوط المعيَّنين مؤخراً في مراكز قرار حساسة في الشأنين الأمني والدبلوماسي. العنوان السادس يتصل بواقع أن الوضع العربي الذي كان يفتقر قبل سنوات إلى الحد الأدنى من التماسك والتعاون قد انتقل الآن، بسبب صراع ضار في الإقليم إلى تجاوز الخطوط الحمر في الانقسام والعلاقات. دول الخليج عموماً، تطلب الحماية وهي عاجزة عن فرض أي شرط على واشنطن يتعدى هذا الأمر. هذه الدول تندفع الآن في بناء علاقات مع العدو الصهيوني نفسه طلباً للدعم والحماية أيضاً في وجه ما تعتبره خطر إيران على وجودها ونفوذها وسلطاتها وثرواتها...
يلتقي ترامب أكثر ما يلتقي في تصدير أزمته إلى الخارج مع رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو الذي يعاني، هو الآخر، من اتهامات جدية بالفساد. لكن، لنتنياهو وكل القيادة الصهيونية، أهداف خاصة ومباشرة في سوريا، يقف في مقدّمها القلق من تنامي الدور الإيراني وتحولات الدور الروسي هناك. إسرائيل سعت دائماً لتوريط واشنطن في نزاع عسكري في المنطقة: منذ النووي الإيراني حتى اليوم. نفوذ صقور إدارة ترامب الجدد قد يرجح الانعطاف نحو التصعيد. طبعاً، سيكون ذلك في منتهى الخطورة إذا اتخذ الاشتباك طابعاً شاملاً...
المواجهة، في كل الحالات مفتوحة، وهي تحتاج، من زاوية المصالح العربية، الى إصرار وثبات مقرونين بمراجعة عميقة للتخلص من الأخطاء والسلبيات.
* كاتب وسياسي لبناني