تعالت الأصوات المستهجنة لانفلات مسلسل الفضائح الذي لم يبلغ، بالتأكيد، مراحله النهائية بعد. البعض استفظع وصرخ مطالباً القضاء بالتصدي لآفة الفساد ومسلسل الفضائح وكشف المسؤولين عنها في كل المواقع وأياً كانوا. نتوقف، تحديداً، عند هذا الأمر، إذ يظهر وكأن المعضلة بسيطة وطارئة بحيث أنه بمجرد أن يحزم القضاء أمره ويقوم بواجبه فسيتمكن من إعادة الأمور إلى نصابها بما يضع حداً للارتكاب ويضع المرتكبين خلف القضبان. نذهب مباشرة إلى أن اللافت في هذه المعادلة هو تجنب معظم الإعلام وكل المواقف السياسية، تقريباً، الاقتراب من النظام السياسي الذي هو مولّد الفساد وراعيه وحاميه بشكل حصري. من رأس جبل "الزبالة" في فضيحة ملف النفايات حتى آخر ذلك الجبل: في شبكات الدعارة والرقيق الأبيض، وملف الانترنت غير الشرعي وغير والمشّرع على الاختراق من قبل العدو، إلى السرقات في بعض دوائر الأمن الداخلي، إلى صراع الكبار على وظائف الصغار، إلى القمح المُسرطن، إلى أمن المطار، إلى ما لم يكشف بشكل كامل بعد، في نهب الخزينة من خلال الهدر والسيطرة على المرافئ والتهريب الذي لا يترك للخزينة إلا الفتات... كل هذه العناوين التي لا تفوح منها إلا الروائح الكريهة لن يعالجها "طنسة" القضاء أو نزاهة وشجاعة القضاة الكبار فيه (الجندي "طنسة" ُطرح عليه من المهمات والاحتمالات، منفرداً، ما دفعه الى التساؤل: أليس في الجيش سوى "طنسة"؟!). إنه نوع من العبث و"الضحك على الدقون" أن يجري انتزاع الفساد من سياقه وتحييده عن منظومة تحاصص الثروة والسلطة والخزينة والإدارة... من قبل المتاجرين بالطائفية والمذهبية والعصبيات، وأن يقال، من قبيل التجاهل المقصود أو غير المقصود: العلاج عند القضاء. ثم ما هو واقع القضاء ومن هم القضاة؟ أوليسا جزءاً من النظام السياسي القائم؟ هل تُرك المجال للقضاء بحيث يكون مستقلاً، لكي يُطالب بأن تكون أحكامه فعّالة ونافذة، ويكون قضاته بشجاعة عنترة بن شداد؟! من المعروف بأن مشروع قانون استقلال القضاء ما زال يغطّ عميقاً وطويلاً في أدراج المجلس النيابي، وأنه يجري تعيين القضاة من قبل المرجعيات السياسية التي تتحكم أيضاً بترقيتهم وبتوزيعهم وبتقاسم النفوذ في صفوفهم وبتوجيههم في الكبيرة الصغيرة (الاستثاء قائم وهو يثبت القاعدة ولا ينفيها). شأن القضاة في لبنان هو كشأن كل موظفي الدولة ممن يخضعون لمنظومة المحاصصة التي استشرت في الآونة الأخيرة بسبب جشع أطرافها، وبسبب احتقارهم للمواطن الذي هو، في أجندتهم، متسول مركز أو وظيفة أو خدمة (داخل البلاد أو حتى خارجها أحياناً!)، وهو بالتالي مرغم على الصمت والطاعة والامتثال والشكر والالتحاق، فليس بغير ذلك تدوم النعم، أو تقوم من الأساس! يتكرّس ويتعزز هذا الوضع الشاذ منذ أطاح عُتاة أركان المحاصصة، قبل حوالى خمسين سنة، الإجراءات المؤسساتية الإصلاحية التي استحدثها الرئيس فؤاد شهاب اوائل ستينيات القرن الماضي (هيئات التفتيش والخدمة المدنية...). ثُمّ استشرى هذا الاستهتار بسبب تراجع الضغط السياسي والشعبي والنقابي مع تراجع دور ونفوذ قوى التغيير والمعارضة وتحول بعضها أو انهياره بشكل كامل.
و"يصادف أنه تدور أمام أعيننا، في هذه المرحلة، واحدة من أشرس معارك الصراع على الحصص (آخر فصولها المعيبة في مجلس الوزراء أمس)، وبالتالي تعديل توزيع تلك الحصص، ودخول "التيار الوطني الحر" في جنة المحاصصة من باب "حقوق" المسيحيين؟ يستشرس المحاصصون القدماء في التصدي للمحاولة المذكورة التي يقف خارجها فقط حزب الله بسبب أن "مملكته" ليست فيها ومنها، بل هي في حقل المقاومة تحديداً. وهكذا، ولسبب يتصل بأهداف خارجية في صراعات المنطقة وعليها، يدعم حزب الله، منفرداً ووحيداً (مع "القوات مؤخراً)، العماد ميشال عون متحملاً وزر "التعطيل"، أي عدم انتخاب رئيس للجمهورية، ووزر تجاهل مخاطر نظام المحاصصة على البلد وعلى المقاومة نفسها، وعلى سلامة الأولويات عندما تكون كذلك، خصوصاً بعد أن انتقلت عدوى المرض الطائفي اللبناني إلى كثير من دول المنطقة بفعل الضغط الأميركي الذي "أهدى" للعراق وشعبه، مثلاً، بعد احتلاله عام 2003، النسخة الفاسدة والمسمومة من تركيب وتوزيع السلطة على غرار النوذج اللبناني، أي وفقاً للاعتبارات الطائفية والمذهبية. معروف أن ذلك قد أدى ويؤدي، بشكل متواصل، إلى تدمير العراق بالانقسام والفساد وبالتقاتل الداخلي... بعد تدميره بالعدوان الخارجي، الأميركي والحليف؟!
مستغرب، من قبل البعض، الاستمرار في تحييد نظام المحاصصة الذي أمعن في تقسيم اللبنانيين وفي نهب البلاد وفي تكريس تبعيتها للخارج، عن مسؤولية ما آل إليه الوضع، مؤخراً، من تدهور لا سابق له إلا عندما كانت تتحول الأزمات الداخلية، في وجهيها السياسي والاجتماعي، إلى حروب واقتتال داخلي، تحفِّزه أيضاً أسباب ومصالح خارجية متفاعلة مع الأزمة اللبنانية الداخلية. وفي هذا السياق لا بدَّ من استذكار التطبيق المشوّهُ لاتفاق الطائف والتنكر لبنوده الإصلاحية كافة، وخصوصاً منها تحرير النظام السياسي من الطائفية بشكلٍ عام ومن الطائفية السياسية بشكل خاص. إن ذلك، على سبيل المثال، هو ما جعل الوضع اللبناني يراوح في المؤقت ولا ينتقل إلى الدائم من الأحكام الدستورية. وهو الذي جعل الدويلات تتقدم على حساب الدولة، ما عرَّض مصالح البلاد إلى أفدح مخاطر الانقسام والعجز والفئوية والنهب والفساد، وصولاً إلى تسخير المؤسسات دائماً، وتعطيلها أحياناً كما يحصل في هذه المرحلة بشكل مستفز نتيجة الصراع على الحصص والنفوذ أو على تنفيذ الأجندات الخارجية. في مجرى ذلك، تمَّ انتهاك الدستور أيضاً في أحكامه الأكثر حيوية لجهة تداول السلطة وإجراء الانتخابات في موعدها. أما قانون الانتخاب الذي هو أحد أكثر العناوين إثارة للصراع والتنافس، فقد شهد ويشهد أسوأ أنواع التجاذب، الفئوي والمتخلف، ما قاد في هذا السياق إلى مطالبة فريق بتبني صيغة طائفية مباشرة، مقرونة بتلويح صريح أو ضمني، بالتقسيم والفدرلة إذا تعذر الاتفاق على تعديل صيغة التقاسم والتحاصص في التمثيل والإدارة والسلطة الإجرائية وصولاً إلى موظفي الفئة الرابعة وما دون! (رغم نص دستوري حاسم بإلغاء التوزيع الطائفي واعتماد الكفاءة في الوظائف العامة، المدنية والعسكرية ما عدا الفئة الأولى).
مرة جديدة، يطرح هذا الواقع المزري ضرورة السعي، دون تأخير أو تردد أو خوف، إلى بناء الموقع الوطني الموحد. شرط ذلك أمران: الاستفادة المخلصة والصادقة من التجارب السابقة (بسلبياتها وإيجابياتها)، ثم صياغة برنامج واقعي يعبّر عن المصالح الوطنية الأكثر إلحاحاً في هذه المرحلة الخطيرة في تداخل بعديها المحلي والإقليمي.
* كاتب وسياسي لبناني